للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الفارغ.. عندما يكون فرصة!]

التحرير

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وبعد:

ربما كانت الإجازة الصيفية من أكبر التحديات التي تواجه المصلحين والمصلحات، بل وعامة الآباء والأمهات. فالشباب والفتيات يواجَهون بسلسلة من الفتن الضخمة والمستفِزة تدفعهم دفعاً إلى العبث الفكري والأخلاقي من جهة، وإلى السطحية والتفاهة من جهة أخرى. وكثير من أبنائنا ـ بسبب ضعف التربية والتحصين ـ لديه القابلية للسقوط والانزلاق نحو الرذيلة، والاستسلام لتيار الشهوات.

وأي أمة من الأمم لا تسعى إلى المحافظة على أبنائها، وتحصينهم من الفتن والشبهات؛ فإنها عرضة للاستلاب الحضاري والضياع الفكري والأخلاقي.

إنَّ كثيراً من الناس مع الأسف الشديد لا زال يتعامل مع الوقت على أنه شيء ثانوي، ولا يتحرج من إهداره والعبث به، ومنا من يتعامل مع أوقات الإجازة بمنطق الهروب.. الهروب من المسؤولية، الهروب من العمل وأداء الواجبات، الهروب من العطاء والإنجاز، وأصبحت الإجازة عند بعضهم محضناً للكسل، وتربية على الغفلة والدعة واللامبالاة.

إنَّ إهدار الوقت فرع عن التخلف الفكري والتربوي الذي يضرب بجذوره في واقع الأمة. وإهمالنا للعمل والبناء في أيام الإجازة يجعلنا نتربى على أن الحياة بلا معنى أو قيمة، وبلا طموح أو هدف.

صحيح أن الترفيه من الحاجات النفسية المهمة، والإنسان بحاجة إلى الراحة، والأسرة بحاجة إلى الاستجمام، لكن الترفيه لا يكون بالمحرمات، والراحة لا تعني الكسل وغياب الهدف، كما أن الاستجمام لا يعني العبث وضياع الدين أو ضعف الفاعلية والعطاء. ومن المهم جداً إزالة التناقض الوهمي بين مفهومي الترفيه والإنتاجية.

ومن الضروري الحرص على التوسط بين الجدية والترفيه في الإجازة بحيث لا تذهب إلى أحد الطرفين فقط، وتقدير ذلك يختلف باختلاف الناس وقدراتهم وحاجاتهم وما يناسب كل بيئة بحسبها.

وما أجمل قول الإمام ابن القيم: (وعمارة الوقت: الاشتغال في جميع آنائه بما يقرِّب إلى الله، أو يعين على ذلك من مأكل أو مشرب، أو منكح، أو راحة؛ فإنه متى أخذها بنية القوة على ما يحبه الله، وتجنُّب ما يسخطه كانت من عمارة الوقت، وإن كان له فيها أتم لذة، فلا تحسب عمارة الوقت بهجر اللذات والطيبات) (١) .

إنَّ العناية بالوقت كما أنه ديانة وتعبُّد، فهو ثقافة وتربية، والإحساس بقيمة الوقت هو بداية التصحيح وبعث الهمم. والحديث في هذا الموضوع طويل جداً، ومتشعب، وحسبنا في هذه الافتتاحية أن نركز على مَعْلَم واحد من المعالم المهمة، ألا وهو: استثمار أوقات الإجازة الصيفية لتربية الشباب.

فإذا كنا نتطلع إلى التأثير والريادة في مجتمعنا فإن من واجبنا أن نتعامل بجد مع تربية الشباب، ولئن كانت الإجازة الصيفية ـ كما ذكرنا آنفاً ـ تعد أبرز التحديات التي تواجه المحاضن التربوية، فهي كذلك من أكبر الفرص التي يمكن استثمارها وتوظيفها بطريقة فاعلة، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ» (٢) . واستثمار المربين للإجازة في التربية يتطلب أموراً عديدة، منها:

أولاً: التجديد والإبداع:

من الضروري أن يبادر المصلحون والمصلحات إلى المراجعة المستمرة لآلياتهم التربوية، والسعي الحثيث للتجديد والإبداع في مشاريعهم الموجهة للشباب؛ فهذا العصر مليء بالمتغيرات، وتجددات العولمة بقنواتها المختلفة من أعظم الفتن التي تمتد بآثارها على الشباب خصوصاً.

ولا بد أن يستشعر الدعاة أنهم في سباق مع الزمن، وتنافس مع أهل الأهواء. والتفكير والعمل بطريقتنا التقليدية الرتيبة سوف يفقدنا الكثير من آليات التأثير، ونحن أحوج ما نكون إلى مشاريع إبداعية تستوعب اهتمام الشباب، وتكسب قلوبهم، وتقدم لهم البدائل العملية المقنعة والمحفزة التي تملأ أوقات فراغهم.

ثانياً: التنوع والتكامل:

ينبغي أن نراعي الاختلاف في اهتمامات الفتيان والفتيات، ونستوعب خصائص المراحل العمرية، والفروق الفردية في القدرات والتطلعات. ومن ثَمَّ فإنه ينبغي أن يتحقق التنوع والتكامل في مشاريعنا التربوية، ولا تصاغ كلها في قالب واحد جامد لا يقبل التطوير، ولا يتميز بالمرونة والتجديد.

إنَّ من الملحوظات الجديرة بالاهتمام والمدارسة أن معظم البرامج التربوية التي يقدمها الإسلاميون للفتيان والفتيات توجه للمتدينين والمتدينات خصوصاً، أو للقريبين منهم، وينسون شريحة عريضة من الشباب أُسْلِموا غنيمة باردة للفضائيات الساقطة ونحوها.

ونحسب أننا في حاجة ماسة إلى الارتقاء بأفقنا الدعوي، والانطلاق في الفضاء الرحب الذي يستوعب الدوافع النفسية والعقلية لعامة الشباب والفتيات؛ فكما أن الدعاة مسؤولون عن إيجاد محاضن ناضجة للمتدينين، فهم كذلك مسؤولون عن إيجاد محاضن أخرى جديدة بأطر مختلفة ومقنعة لبقية شرائح الشباب والفتيات.

ثالثاً: الخطاب العلمي:

من المهم جداً أن يتسم خطابنا التربوي إلى الشباب بالعلمية، وأن تُبنى مواقفهم بمنطق الإيمان والاقتناع، وليس بلغة التلقين والتقليد. إن اتساع الصدر للحوار مع الشباب، وتفهُّم قضاياهم، وسماع آرائهم، وتصحيح أفكارهم ومنطلقاتهم بالحجة والبرهان، سيجعلهم هذا ـ بالتأكيد ـ أكثر يقيناً بمواقفهم وبرامجهم، وأكثر حماساً في رفض الانحراف الفكري والأخلاقي. وفي قصة الشاب الذي جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأذنه في الزنا أبلغُ دليل على ذلك.

وإذا كانت لغة التلقين قد نجحت مع بعض الشباب في مرحلةٍ ما من المراحل، فليس بالضرورة أنها تنجح في كل وقت، وخاصة في عصر الانفتاح الفضائي والإلكتروني الذي كثرت فيه الشبهات والمؤثرات الفكرية.

رابعاً: التربية الإيمانية:

إن تزكية النفوس وتطهير القلوب من أعظم الزاد الذي يُحَصَّن به الشباب لمواجهة الفتن التي تحيط بهم. وتقوية الصلة بالله ـ عز وجل ـ أعظم معوان يتقوى به الإنسان على مواجهة مكائد شياطين الإنس والجن. قال الله ـ تعالى ـ: {إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: ٩٩] .

وأصل التزكية وأساسها تربية الإنسان على مراقبة الله ـ عز وجل ـ وخوفه في السر والعلن. انظر إلى ذلك الشاب الذي استيقظ الإيمان في قلبه عندما ذكَّرته تلك الفتاة التي استسلمت له مُكْرَهة لمجرد أنها قالت له: «اتقِ الله، ولا تفضَّ الخاتم إلا بحقه! (١) » .

والمتأمل في الواقع التربوي اليوم يجد ـ مع الأسف الشديد ـ قصوراً ملحوظاً في هذا الميدان، بل ربما يجد الإنسان ـ أحياناً ـ تزهيداً وتهويناً من شأن التربية الإيمانية.

فلْنستثمر الإجازة في التشجيع على التنافس في الخيرات، والمحافظة على الصلوات، والإقبال على الطاعات وحفظ القرآن العظيم، ومجالسة الصالحين، ونحوها من الأعمال التي تسمو بها النفوس، وتزكو بها القلوب.

خامساً: بناء المسؤولية:

من أهم جوانب تربية الشباب: العناية ببناء روح المسؤولية عندهم؛ فأكبر أسباب هدر الأوقات، وما يتبع ذلك من الإخفاقات أو الانحرافات ناتج عن عدم المبالاة وضعف الشعور بالمسؤولية.

وأكثر ما يقلق الآباء والأمهات: أن بعض أبنائهم يأكل وينام ويلهو، دون أن يفكر في بناء نفسه أو رعاية والديه وأسرته، ودون أن يفكر في مصالحه الدنيوية فضلاً عن المصالح الأخروية.

إن استشعار الشباب لمسؤولياتهم هو الطريق الصحيح لتربيتهم وإصلاحهم، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزول قدما عبد حتى يُسأَل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به؟» (٢) . فقيمة الإنسان الحقيقية تتجلى في مدى استيعابه لواجباته، وحرصه على تنفيذها بإتقان.

وبناء المسؤولية لا يتم بمجرد كلمة أو موعظة فحسب؛ وإنما بتربية وتعاهد وإعداد عميق، وتدرج في البناء، مع طول نَفَس وسعة صدر. وإذا تأملتَ قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أمط الأذى عن الطريق فإنه لك صدقة» (٣) ، فسوف تجد أنَّ فيه تربية متقدمة على الشعور بالمسؤولية؛ فالإنسان المسلم بحسه المرهف يمد يده لإزالة الأذى عن المسلمين خاصة، والناس عامة؛ حرصاً على ما ينفعهم، وإشفاقاً على مصالحهم.

سادساً: بناء الإيجابية:

يعاني كثير من الشباب وخصوصاً في المجتمعات المترفة أو المجتمعات التي غرقت في اللهو، من البطالة وقلَّة الإنتاجية، وهذه آفة مستشرية، تزداد عمقاً في أوقات الإجازات.

إننا نتألم كثيراً عندما ننظر إلى بعض التجمعات الشبابية وبخاصة في أوقات الصيف فلا نجد إلا اهتمامات وضيعة، أو طاقات مترهلة مستهلكة فيما لا نفع فيه. والبطالة إذا سيطرت على وقت الشاب كانت سبباً رئيساً للاختلال والاضطراب في شخصيته على المدى القريب والبعيد.

وهنا يتأكد دور المربين والمربيات في تعميق الإيجابية في حياة الفتيان والفتيات. وبالتأكيد لا نقصد نمطاً محدداً من الإيجابية، وإنما نعني الإيجابية بكل صورها وأشكالها، ابتداءً من الإيجابية مع النفس ببناء القدرات وتنمية الطاقات والتدريب على المهارات الأساسية، ومروراً بالإيجابية في الأسرة والمجتمع، وانتهاءً بالإيجابية في خدمة الدين.

وإذا أردتَ أن تقف على الإيجابية بأبهى وأعظم صورها؛ فاقرأ قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كل سلامَى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس: يعدل بين اثنين صدقة، ويعين الرجل على دابته فيحمل عليها أو يرفع عنها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة يخطوها إلى الصلاة صدقة، ويميط الأذى عن الطريق صدقة» (٤) .

وتحقيق هذه الإيجابية يتطلب مشاريع وبرامج عملية ـ خاصة في أوقات الفراغ ـ تحيي الطاقات وتوجهها، وتزيل عنها غبار السلبية. وواجب المصلحين هو بذل جهد جاد في اكتشاف هذه المشاريع الإبداعية التي تجعل من الشاب أكثر عطاءً، وأكثر نفعاً لنفسه ولأسرته وأمته.