تلقى عبد الله نبأ وفاة صديقه ـ الذي مات في المدينة قبل أىام ـ بحزن شديد، وظلّ قبره الذي حفره أهالي قريته مفتوحاً وفي حالة انتظار قدومه، لكنها كانت مشيئة الله أن يُقبر هناك حيث وافته المنية.
وفي إحدى الليالي جلس عبد الله مع بعض شباب القرية يتذكرون ظلمة القبر ووحشته، فقرروا الذهاب إلى ذلك القبر المفتوح ليختبر كل واحد منهم قوة نفسه، فيدخل إلى جوفه يتذكر فيه هاذم اللذات ولحظات السفر إلى عوالم الله، ثم ذهبوا جميعاً إلى المقبرة حتى وقفوا على حافته، ونزل عبد الله ودخل في اللحد متمدداً ومتيمّناً كما لو أنه كان ميتاً.
سقطت على وجهه ذرّات من التراب، وشمّ رائحة الأرض، وظلّ لسانه رطباً بذكر الله، ثم انقلب على ظهره ونظر إلى مصدر شعاع الضوء المسلّط عليه من مصباح كان مع أصحابه الذين كانوا ينظرون إليه بدهشة وإعجاب.
ناداه أحدهم فأجابهم بعد برهة من الزمن: انتظِروا بعض الوقت وأطفئوا مصباح الضوء ودعوني أفكر قليلاً، قالها بصوت خيّل إليهم كأنه صادرٌ من مكان بعيد وقادمٌ من عالم الموتى.. سادت لحظات صمت مطبق بعدما أنطفأ الضوء، لكن أحدهم حطّم حاجز الصمت عندما ألقى على عبد الله قليلاً من التراب والحصى الصغيرة مازحاً معه، فصاح ونهض قائلاً: أخرجوني! أخرجوني! ما بكم تريدون أن تدفنوني حياً؟! فضحكوا ثم ساعدوه على الخروج، وعادوا إلى القرية بعد رحلة تجريبية في أول منازل الآخرة، وهم يتذكرون تلك الحفرة الصغيرة دارَ ذلك المخلوق الضعيف الذي يسابق الزمن لامتلاك كل شيء، تقوده الشهوات والنفس التي لا تشبع إلى معارك خاسرة لا تكفيه فيها كل القصور ولا الدور ولا كنوز الأرض كلها، ولا يتوقف أبداً عند حدود، إلا مَنْ رحم الله.
عاد إلى بيته وصعد إلى السطح ونظر كعادته إلى الأفق البعيد، ونجمة هناك تتلألأ ضياءً، كان دائماً يحب النظر إليها ويراها أقرب نجمة إلى الأرض.. تذكّر عظمة الخالق والامتداد الفسيح للكون والوجود، وقال بصوت مسموع: سبحان الله! ما أروع التفكر والتأمل في تلك المخلوقات! يا لها من عبادة عجيبة ونعمة عظيمة! نام في تلك الليلة ورأى في المنام كأنه يسير في حشد كبير من الناس يسيرون خلف جنازة، فسمع أحدهم يقول للآخر: مات هذا اليوم عبد الله بن فلان رحمه الله، وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، وأيقن أن هذه جنازته بعد ذكر اسم أبيه، ثم همس في أذن أحد المشيعين قائلاً له: أرجو أن تدفنوني في تراب ناعم! ألا تساعدني على جمعه من تحت ظلال تلك الأشجار الوارفة والقريبة من هنا؟ أومأ الرجل برأسه موافقاً، وسار خلفهما مجموعة من الناس وجلس يتحسس بيديه ذرات الرمل، وعاد ينظر إلى وسط الحشد وإلى تلك الجنازة التي غُطّيت بقطعة من قماش مطرزة، ثم تلونت الأرض فجأة بضوء كضوء القمر حين يكون بدراً، ونظر إلى السماء فرأى تلك النجمة التي رآها في ذلك المساء، لكنها صارت أكثر قرباً وأكثر جمالاً وبهاءً وكأنها حورية أشرفت من السماء فأشرقت الأرض بنورها، ثم نهض من نومه مذعوراً، واستغفر الله، وقصّ على أصحابه تلك الرؤيا.
مرّت شهور بعد تلك الحادثة، وفي يوم من الأىام الماطرة شاع خبر موته في القرية وسط ذهول أصحابه الذين كانوا يمثلون معه في إحدى الليالي الماضية دورَ المسافرين إلى عالم البرزخ، وعادوا مرة أخرى إلى ذلك القبر ووقفوا على حافته، وتمنّوا لو أن صاحبهم ينهض في تلك اللحظة من جديد كما فعل ذات مرة عندما رموه بحفنة من التراب.