للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عولمة الفئران]

علاء سعد حسن

الفأر في ثقافتنا من الفواسق الخمس، وهو بلا شك حيوان قذر ضار، يطلق رائحة كريهة، ووجوده في مكان ما يوحي بقذارة المكان، ويثير التقزز والاشمئزاز. تراثنا الديني والثقافي كله يحملنا على شدة (القرف) من الفأر، وعندما كانت ترسو السفن الأوروبية على موانئنا، محملة بالفئران النرويجية التي تسللت إليها بكثرة؛ لتتسرب إلى عالمنا بمئات الآلاف، كانت تروج تجارة مكافحة الفئران من مصايد ميكانيكية، ومبيدات وسمّ للفئران.. إن لحظة دخول الفأر في بيت أحدنا وما يثيره من هلع واضطراب لحظة لا توصف، ويتم تجنيد أفراد الأسرة جميعاً بحثاً عن الفأر واصطياده، وربما لا ينام أهل البيت ليالي مطمئنين، حتى يتم القضاء على الفأر.. ولقد وافقت ثقافتنا وتراثنا علوم الطب الحديث من أن الفأر حيوان ضار ينقل الحشرات القذرة والأمراض الوبائية.

وحيث إنني غير ضليع في اللغة الإنجليزية؛ فلقد كنت أتابع (كرتون ميكي ماوس) ، ولم أكن أعرف أن كلمة (ماوس) في الإنجليزية تعني الفأر، لكن ولا شك أن الغرب كما صدَّر إلينا الفأر النرويجي على متن سفن الشحن؛ فلقد صدر لنا (الماوس) باعتباره بطلاً كرتونياً، ونجماً ثقافياً، يعشقه الصغار والكبار على السواء.. ولقد كنت من المنبهرين بالغرب، وثقافته ونظافته، حيث كنا في شبابنا الأول ننسب إليه كل جميل كأنه جنة الله على الأرض، حتى اهتزت هذه الثقة مع درس التشريح في العام الجامعي الأول لما درسنا الصرصور الأمريكي الذي استوردناه كذلك على متن سفن البضائع، ولقد كنت أتخيل قبل هذا الدرس أننا صدرنا الصرصور إلى العالم فإذا به أمريكي المنشأ والجنسية.

ولم يقتصر الأمر على الفأر (ميكي) - ولو اقتصر عليه لقلنا: إنها فلتة - لكن الغرب يصر على تصدير الفأر وثقافته إلينا؛ فبعد (الميكي ماوس) الذي طارد (بطوط) و (سمير) (١) في عقر دارهما، وسجل انتصاراً ساحقاً على (بوجي وطمطم) (٢) ؛ فإن حلقات الكرتون (توم وجيري) تعد أشهى وجبة إعلامية تقدم لنا، وفي الغالب ينتصر الفأر الأذكى، والأخف ظلاً على القط؛ ولأني أعمل في مجال الكمبيوتر؛ فلقد ظللت أتساءل طويلاً عن معنى (الماوس) ، وهو ما يعرف في العربية باسم الفأرة، وهو كما يبدو أهم مكون من مكونات الكمبيوتر الخارجية مع لوحة المفاتيح، وأخيراً عرفت أن الماوس هو الفأر نجم الفواسق الخمس في تراثنا كله. الأمر إذن متعمد، بل إنه في الحقيقة يعبر عن ثقافة القوم، وتراثهم الأصيل؛ فالفأر رمز القذارة والعفن والأمراض، ورمز الخراب؛ حيث ينتشر في الغالب الأعم في الخرابات، والمناور، والأماكن المهجورة؛ فإنه بطل قومي عند الغرب لا شك في ذلك.. ونحن لا ننكر على القوم ذلك، فمن حقهم أن يكون لهم تراثهم الحضاري الأصيل المرتبط بزعيم الثقافة الغربية (الماوس) ، من حقهم ذلك تماماً، ولقد درسنا في مبادئ علم الاجتماع أن من خصائص الثقافات أنها نسبية؛ فما تلفظه ثقافتنا قد تمجده ثقافة أخرى، ولأني أيضاً أؤمن بالعقل وأحترم العلم، وقد تكون سطوري موجهة كذلك إلى من يعتبرون الدين من مكونات الثقافة البيئية، ومن ثم لا يحتج به على ثقافات الآخرين باعتباره موروثاً بيئياً؛ فإنني أحتكم إلى العلم وحده، والعلم يؤكد أن الفئران كائنات ضارة مقززة يجب مكافحتها. فلنجعل العلم فيصلاً بين ثقافتنا وثقافتهم، ولنجعل الدين فيصلاً آخر بين تراثنا وتراثهم نحتج به للذين يؤمنون بأن الدين فوق الثقافة؛ لأنه من لدن خالق البشر، ينزل مثل الغيث من السماء.

إننا إذن في ظل العولمة نعيش صراعاً مريراً بين (بطوط) وبين (ميكي ماوس) ، بين مكونات ثقافة رمزها الأعلى (الفأر) وبطلها القومي (الماوس) ، وبين حضارة أعلت من شأن القط؛ لأنه يلتهم الفأر، ويخلص الأرض من شروره وقذارته، حتى إن (الهرة) وهي القطة التصق اسمها باسم صحابي جليل من صحابة نبينا -صلى الله عليه وسلم -: هو أبو هريرة الراوية المكثر من أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم -، ولأن ثقافة (الماوس) ترعرعت في الخرابات، والأماكن والمهجورة والقذرة؛ فمن الطبيعي أن تمتلئ بكل ما تذخر به هذه الأماكن من أوبئة اجتماعية، وثقافية، وأخلاقية؛ فالحشاشون ومدمنو المخدرات ومدخنو الماريوانا لن يجدوا أكثر من هذه الأماكن أمناً لهم، ودعاة الانحراف الخلقي، والشذوذ الجنسي، وراغبو المتع الضالة لا يأمنون على أنفسهم إلا بين مستنقعات العفن: مثل خفافيش الظلام بعيداً عن أنوار الطهر والفطرة السليمة، وتحت حماية عصابات الليل. كان من الطبيعي أن يصل إلينا الفأر، أو (الماوس) مع كل رفاق بيئته الطبيعية، فنضحت الفضائيات الأوروبية والمواقع النتنة بكل مكونات البيئة الثقافية للفأر في تبجح عجيب، ولا تنسوا أبداً أن الثقافة نسبية، وأنه لا ضير أن يتعرى الناس في الغرب، فيعيشوا كالأنعام بل أضل.

فهل إذا انتكست الفطرة، وانقلبت الموازين الإنسانية جميعاً، ودفع بالدين بعيداً عن الحوار الثقافي؛ لأنه وراء التطرف والعنف، وإذا استثنينا كل ذلك من مقومات الإنسانية، فهل يقبل القوم والمقلدون لهم والمفتونون بـ (ماوسهم) وبيئته الطبيعية؛ هل يقبلون بالعلم وحده فيصلاً بيننا وبينهم؟ هل يعقلون أن العلم كما أثبت أن الفأر ينقل الطاعون، وأنه أثبت أيضاً أن الإباحية تؤدي إلى تفشي الإيدز بصورة تكاد تكون وبائية؟

إن الارتكاس الفطري، والشذوذ الخلقي، والهوس العقلي، وسيادة اللامعقول تكاد تصل بالعالم إلى مرحلة (قوم لوط) الذين تنادوا فيما بينهم: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: ٥٦] ؛ ولأن العالم أصبح منذ زمن قرية صغيرة؛ فإننا نخشى أن يطردونا منه؛ لأننا أناس نحيا على الطهر. إن علينا أن نواجه الفأر، وثقافته وبيئته قبل أن يخرجونا من قريتنا، أو يتنزل عليها غضب الله ـ تعالى ـ فيأمر ملائكته أن تقذفها {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} [الذاريات: ٣٣ - ٣٤] .