للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

في دائرة الضوء

السقوط في الانهزامية

بقلم: د. محمد يحيى

أدى بروز الصوت العلماني في الساحة الفكرية في البلاد العربية خلال

السنوات الماضية إلى إحداث ضغوط قوية على بعض الناطقين باسم الإسلام من

أرباب المناصب الرسمية، ولّدت بدورها تناقضات صارخة فيما يصرح به هؤلاء

الذين يفترض أنهم مهتمون بالإسلام بحكم مناصبهم على الأقل إن لم يكن بحكم دينهم، ومن النماذج التي التقطتها عفويّاً من بين عشرات الأمثلة: ما صرح به وزير

للأوقاف في بلد عربي كبير لإحدى المجلات الأسبوعية عندما سئل عن رأيه في

حالة حدوث تناقض بين القانون الوضعي وما ينص عليه الإسلام، وكانت إجابة

الوزير بما يلي: (إذا تعارض القانون الوضعي مع ما نص عليه الإسلام: نبحث

عندئذ عما فيه المصلحة بالنسبة للمسلمين.. فمصلحة المجتمع لها القول الفصل في

هذه القضية) .

والمشكلة في هذه الإجابة التي أوردت نصها أنها ملتفّة وتثير من المشاكل

الكثير، كما لو أن صاحبها لا يريد أن يجيب إجابة مباشرة؛ خوفاً من نفوذ

العلمانيين أو ربما تأثراً بفكرهم وميلاً إليه.

الإجابة المباشرة فيما نفترض تقول: إنه إذا حدث تعارض بين القانون

الوضعي وما نص عليه الإسلام، فإننا في هذه الحالة نمضي ونحكِّم ما نص عليه

الإسلام، لأننا مؤمنون به، أو نمضي ونحكِّم القانون الوضعي إذا كنا علمانيين،

لكن الإجابة التي أوردها الوزير وهو فيما يقال أستاذ متخصص في الدراسات

الإسلامية تقول: إنه في حالة حدوث هذا التعارض نبحث عما فيه المصلحة بالنسبة

للمسلمين، أي نبحث في القانون الوضعي وفي الإسلام عن أيهما يحقق مصلحة

المسلمين!

كان يمكن للأستاذ الجامعي المتخصص أن يقول: إن الإسلام لا بد أنه يحقق

مصلحة المسلمين، وهذا بدهي؛ لأنه من غير المتصور أن يأتي دين ليهدم مصلحة

من يؤمنون به، وكان يمكن للأستاذ الجامعي أن يقول: إن القانون الوضعي الذي

يتعارض مع ما نص عليه الإسلام لا يمكن أن يحقق مصلحة المسلمين، وإن

الشريعة الإسلامية بها من السعة والرحابة ما يحقق كل المصالح المشروعة، لكن

الأستاذ الوزير يترك المسألة معلقة بين القانون الوضعي والإسلام، ويجعل من

مصلحة المسلمين (وهو يحولها فيما بعد إلى ما يسميه بمصلحة المجتمع وهو تعبير

أكثر عمومية وإيهاماً) القول الفيصل في هذا الأمر، وكأن الإسلام يستوي مع

القانون الوضعي من ناحية أن كلاهما يمكن أن يحقق مصلحة.

وأيضاً من ناحية عدم التيقن من طبيعة المصلحة التي يحققها أي منهما،

وربما نقول من باب درء الشك: إن الأستاذ الوزير يتصور إمكانية أن يصدر قانون

وضعيّ ما، يحقق مصلحة المسلمين في مجال غير موجود في الشريعة الإسلامية،

لكن هذه الشريعة تحتوي على مبدأ الاجتهاد الذي يُمكِّن من بسط أحكامها ومبادئها

الكلية العامة على شتى مجالات الحياة الجزئية والفرعية والمتغيرة، بحيث يمكن في

هذه الحالة القول بأن حكم الشريعة قد أُعمل في هذه الحالات الجزئية ليحقق مصلحة

المسلمين أو المجتمع، لكن السؤال الموجه إلى الأستاذ لم يكن يدور حول قضية

المصلحة (وهي قضية للشريعة الإسلامية فيها ضوابط وأصول) وإنما دار حول

قضية التصرف في حالة وقوع التناقض بين القانون الوضعي وما نص عليه الإسلام، إن السؤال الموجه مُحْكَم إلى درجة كبيرة، لأنه يتحدث عن التصرف في حالة

حدوث التعارض بين قانون وضعي (أي علماني) وبين صريح الإسلام حيث ذكرت

عبارة (ما نص عليه الإسلام) ، وإزاء هذا الوضوح والتحديد في السؤال كان يجب

على المجيب أن يكون واضحاً محدداً، وإلا وقع في اللف والدوران، وهذا الالتفاف

الذي لاحظناه في الإجابة المذكورة هو ما نعنيه عندما نتحدث عن ضغوط ونفوذ

وتأثير العلمانية الذي يشوه فكر بعض المتصدرين للحديث باسم الإسلام، ويجعلهم

يتراجعون حتى عن إظهار بدهيات معروفة؛ خوفاً من إغضاب هذا النفوذ، أو كما

قلنا: ميلاً قلبيّاً إليه.

فكيف يمكن أن يشك مسلم فضلاً عن أستاذ جامعي دارس في أن الإسلام يمكن

أن يحقق مصلحة المسلمين؟ بل كيف يتوقف هذا المسلم فضلاً عن الأستاذ الجامعي

الدارس ولا يُرجِّح كفة شرع الإسلام في حالة حدوث تعارض وتناقض مع القانون

الوضعي، وكيف لا يذكر المسلم فضلاً عن الأستاذ الجامعي الدارس لمن طرح عليه

السؤال أن للإسلام طرقه ووسائله واجتهادات علمائه ورخصه يحقق بها كلها

مجتمعة مصلحة المسلمين، بل كيف يمكن للمسلم فضلاً عن الأستاذ الجامعي

المتخصص أن يعلن أن الإسلام قد لا يحقق مصلحة المسلمين، وهذا هو المستفاد

من إجابة الوزير، فهو يجعل الأولوية والكلمة العليا لمصلحة المجتمع كما يقول

التي هي عنده المعيار والفيصل الذي يقاس به الإسلام وما نص عليه، كما يقاس به

القانون الوضعي، ويختار من كليهما ما يحقق مصلحة المجتمع، ويطرح منهما

ويرفض ما لا يحقق مصلحة المجتمع، ثم: ما هي مصلحة المجتمع؟ ، وهل

المقصود المجتمع المسلم أم غيره؟ ، ومن الذي يحدد هذه المصلحة؟ ، وهذه نقطة

مهمة؛ فمن الواضح من كلام الوزير أن الإسلام لا يمكن أن يكون هو المنوط به

تحديد مصلحة المجتمع، لأنه هو نفسه تحت المحك والاختبار ليتبين ما إذا كان

يحقق تلك المصلحة أم لا، لا بد إذن أن الذي سيحدد مصلحة المجتمع طرف ... آخر..، يحددها، ثم ينظر بعد ذلك في أحكام الإسلام وأحكام القانون الوضعي: أيهما يفي بهذه المصلحة، فيأخذ ما يتراءى له ولو كان القانون الوضعي، ويطرح الآخر ولو كان الإسلام وأحكامه!

نحن إذن نصل إلى وضع غريب يصدر عن أستاذ جامعي مسلم ومتخصص

في الدراسات الإسلامية، بل ويجلس في منصب يتحكم منه في سائر الشؤون

الإسلامية والدروس والمواعظ الدينية ومجمل مضمون الفكر الإسلامي، يسأل هذا

الأستاذ سؤالاً واضحاً محدداً حول ما يحدث في حال التناقض بين القانون الوضعي

وصريح الإسلام، فلا يجيب الإجابة المباشرة، بل يذهب إلى التسوية بين القانون

الوضعي وشريعة الإسلام في القبول والرفض، ويجعل من مصلحة المجتمع (وهي

تعبير مبهم) القول الفصل ومعيار الحكم في القضية، ويسلب من الإسلام حق تحديد

ماهية مصلحة المجتمع، كما يسلب منه دعوى تحقيق مصلحة المسلمين، ويجعلها

محل نظر وفحص وتدقيق ومراجعة من جهات من الواضح أنها غير إسلامية؛

لأنها حالياً تعلو على الإسلام وتنفرد بتحديد ما إذا كان هذا الإسلام يصلح لتحقيق

مصلحة المسلمين أم لا!

لماذا كل هذا اللف والدوران إزاء سؤال واضح ومحدد لايسمح إلا بإجابة

واضحة محددة؟ ، الإجابة هي: أن ضغوط الفكر العلماني ونفوذه قد وصل في

عالمنا العربي المسلم إلى أبعاد واسعة ومستويات عالية، بحيث أصبح الجالس في

منصب يفترض أنه إسلامي يتحرج أو يخاف أن يدلي برأي واضح وقاطع يناصر

الإسلام الذي يفترض منه على الأقل بحكم المنصب والتخصص أن يناصره.