تعتبر العلاقات الإيرانية الأمريكية حالة فريدة تصلح لدارسي العلوم السياسية والخبراء والباحثين في استشراف المستقبل؛ فنحن أمام شبكة معقدة من عوامل الالتقاء والاختلاف؛ فمن ناحية الولايات المتحدة فإن مشروعها الإمبراطوري للسيطرة على العالم يستند في تحقيقه إلى شبكة من الحلفاء مثل دول حلف الأطلسي بالإضافة إلى أستراليا، ودولة اليهود في فلسطين، والهند، وإلى مجموعة من الأتباع مثل باكستان وبعض الدول العربية. أما إيران وأتباعها في المنطقة فهم بالنسبة لها أدوات أساسية لتحقيق مشروعها في المنطقة، ولكن المشكلة أنهم ليسوا حلفاء ولا أتباعاً، بل يمثلون تجمعاً طائفياً له أهدافه الخاصة في المنطقة. وأكبر ما يغيظ الأمريكان أن يحسوا أنهم مضطرين للسماح لآخرين بأن يشاركوهم في ما يحصلونه من غنائم. وقد وصف الرئيس الروسي (بوتين) في خطابه السنوي أمريكا بـ (الذئب المفترس) الذي لا يريد أن يشاركه أحد. ولا شك أن أمريكا كانت تنوي إخضاع إيران وإعادتها لبيت الطاعة، ولكن معضلة أمريكا في المنطقة أن المقاومة السنية في العراق من الشدة بحيث لا تستطيع أمريكا الاستغناء عن الدور الشيعي، وخاصة مع فشل محاولات إدخال قوات من البلدان السنية المحيطة بالعراق؛ ولذا فمهما كان غيظ أمريكا من تنامي القوة الإيرانية وامتلاكها برنامجاً نووياً متطوراً مع تسريبات إيرانية دفعت المفتشين لإعلان العثور على عينات يورانيوم عالية التخصيب قد تكون صالحة لإنتاج أسلحة نووية؛ فإنها لا تملك القدرة على الاستمرار في مغامرتها في المنطقة دون الدعم الإيراني. ولا أشك شخصياً أن برنامج التسلح الإيراني قائم على فرضية وجود سلاح نووي لديها؛ فلا توجد دولة تنفق على برامج الصواريخ بعيدة المدى دون أن يكون لديها سلاح غير تقليدي؛ إنها معادلة اقتصادية بسيطة؛ فلا قيمة لقنبلة نووية لا تكون قادرة على الوصول لأهداف تؤثر على الخصم، ولا تأثير لصواريخ مداها ٢٥٠٠ كم ولا تحمل سوى كمية بسيطة من المتفجرات التقليدية. أما من جهة إيران فإنها تعرف أن احتواءها يعتبر من الأولويات في السياسة الأمريكية لعقود كثيرة؛ ولذا فقد تم إسقاط الغرب حكومة (مصدّق) لما أراد تأميم النفط وانتهاج سياسة وطنية، وأُعيد الشاه الشاب إلى السلطة، ومثَّلت إيران في تلك الفترة جزءاً مهماً في حلقة الحصار المحكمة حول الاتحاد السوفييتي، وأصبحت تمارس دور شرطي الخليج. ولما بدأ الشاه يعمل لحسابه الخاص تُرِكَ ليسقط؛ وكانت الحرب بين العراق القومي البعثي وإيران الثورة الشيعية وسيلة لاحتواء البلدين، ولم يمنع الصراخ الإعلامي المتبادل بين نظام (الآيات) و (الشيطان الأكبر) من قيام علاقات من تحت الطاولة ظهر منها فضيحة (إيران غيت) ويمكن تبسيط السياسة الإيرانية بأن هدفها تفعيل التجمعات الشيعية، ومن ثم تشييع ما يمكن من أهل السنة في العراق والخليج ولو بالقوة، وهنا ينبغي التنبيه إلى حقيقة تاريخية وهي أن كُل المشاريع الكبرى للشيعة اعتمدت على قوى أجنبية في محاولة تحقيقها؛ فمثلاً مشروع إسقاط الخلافة العباسية تم عن طريق إغراء التتار بمهاجمة بغداد ومساعدتهم في تدميرها عن طريق (نصير الدين الطوسي) و (ابن العلقمي) وعندما قامت (الدولة الصفوية) كان من أهدافها السيطرة على العراق، وفي سبيل ذلك تم عقد تحالفات مع الدول الأوروبية والتنسيق معها في شن الحروب المتتالية على الدولة العثمانية، وقد تمكنت من احتلال بغداد لفترة محدودة عانى فيها أهل السنة الويلات. ويلاحظ في مشروع (ابن العلقمي) أنه يقوم بشكل شبه كلي على قوة أجنبية كافرة. وكان للشيعة دور كبير في إنجاح المشروع المغولي، ولكن محاولة (ابن العلقمي) تحقيق الجزء التالي من المشروع والخاص بالشيعة حمل التتار على التخلص منه وقتله شر قتلة؛ وهكذا فشل المشروع الشيعي قبل هزيمة التتار. أما (المشروع الصفوي) فإن ما جرى في العراق كان صراعاً مباشراً بين الصفويين والعثمانيين وكان الدعم الأوروبي غير مباشر، ولم يكن لهم في ذلك الوقت اهتمام خاص بالعراق، وانتهى المشروع في ذلك الوقت بهزيمة الصفويين. أما المشروع الحالي فنحن أمام مشروعين: شيعي: تتبناه دولة إيران وأتباعها في العراق. وأجنبي: تتبناه أمريكا. وإذا كانت المرحلة الأولى قد انتهت بسقوط بغداد وقيام سلطة احتلال أمريكية تدعمها حكومة شيعية إيرانية التوجه؛ فإن المرحلة الثانية وهي قطف الثمار التي دونها خرط القتاد؛ فهم شركاء متشاكسون لا يمكن أن يتفقوا على قسمة عادلة للغنيمة، ولا يبدو أن أمريكا تملك سوى القوة الطاغية؛ فقد أعترضت على (الجعفري) وذهب (الجعفري) وجاء (المالكي) بديلاً وكلاهما من حزب الدعوة، أي أنه تنازل صوري من إيران. أما البرنامج النووي فإن المظلة الروسية تضمن عدم إمكانية منح أمريكا مظلة أممية، ويبدو من تصريحات الرئيس الأندونيسي المؤيدة لإيران، ودعوة عنان أمريكا للتفاوض المباشر مع إيران وعرض الاتحاد الأوروبي بالتنسيق مع أمريكا حزمةً من الهدايا الاقتصادية مقابل التخصيب خارج إيران، وإصرار إيران على الاعتراف بحقها بامتلاك تقنية نووية سلمية ـ يبدو من ذلك كله أن ليس أمام أمريكا سوى التسليم بانضمام إيران للنادي النووي، ومن ثَم التعامل معها بندِّية حول تقاسُم النفوذ في المنطقة بدءاً من العراق، أو أن تضرب بهراوتها وتحصل ملاحم تذكِّر بحديث الرسول # حول (انحسار الفرات) والله المستعان.
(*) أستاذ مساعد في كلية الهندسة، جامعة الملك سعود، الرياض، المملكة العربية السعودية.