دراسات نقدية
[قراءة غير نقدية]
د. حسن بن فهد الهويمل
(١- ١) ربما يكون الانطباع والتذوق أكسيرا النقد، وهما بلا شك بدايته الأولى، يكاد يتفق على ذلك مؤرخو الأدب ونقده المعروف والمعروف لايعرف على لغة المجاملين أن النقد الحديث في إطار تطوره أو تذبذبه تجتاحه رغبة «العلمية» في سياق وثنية العلم والتجريب، وكل هذه التحولات جزء من هذه الحضارة المادية المُخَرّفَةِ «للميتافيزيقا» المؤلهة للمادة وجدلية التاريخ.
ومع أنني أختلف تماماً مع ما يذهب إليه «مصطفى محمود» من تأويل
جريء لحقيقة المسيح الدجال، إلا أنني أتفق معه في احتمال حضارة العصر لهذا
التوصيف مع استبعاد قضية المسيح الدجال؛ فالحضارة المادية تبصر بعين واحدة،
بحيث لاتفكر فيما وراء المادة، وإذ يتورط النقد في «العلمية» و «القواعدية»
و «المعيارية» يأفل الذوق ويختفي الانطباع؛ فالناقد على ضوء ذلك التحول
مطالب بتطبيق تلك القواعد واستخدام تلك الآلات، وفي إطار معطياتها يحكم على
النص، إذ ليس له أدنى حق في القبول أو الرفض الذاتي.
بالطبع لم تكن «علمية النقد» معطى معاصراً، لقد كان لبعض النقاد القدامى
رأيهم في العلمية، فالنحو والصرف والبلاغة هي الأخرى (تَمَعْيَرَتْ) إن صح هذا
التعبير، ولم يكن بمقدور أحد أن يخلصها من هذه المعيارية الصارمة، ومن حسن
الحظ وقد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت أن كثيراً من النقاد المتعلمنين لايعرجون
على تلك الآليات، لا
استخفافاً بها ولكن جهلاً وعجزاً، وشر البلية أن تعايش هذه الأنواع العائلة
المستكبرة، والاستكبار هنا مضاعف؛ إذ يجمع بين التعالي والادعاء وهما آفتان
معيبتان، ولأجل هذا مقت الله العائل المستكبر، فعلمية النقد المعاصر لاتضع في
اعتبارها آلات تفكيك النص
المعتبرة نحويّاً أو بلاغيّا أو صرفيّاً، وادعاء العلمية في هذا الإطار أكبر من
حجم المنجز
وآلياته، ومع أنني احترم علمية النقد، وأرى قيمة للذوق والانطباع، فإنني
أجد نفسي قادراً على حل التداخل بين العلمية والذوقية والانطباعية، ولا أحس
بتعارض أو تضاد هذه المصدريات الثلاث، بل ربما أصل إلى حد الادعاء: بأنه
لا اختلاف بين تلك المصادر والآليات، فقط أن يكون الناقد ناقداً بالفطرة والدربة
والمعرفة ... النقد عندي موهبة واكتساب، هذه الموهبة يصقلها العلم والدربة
والمعايشة المستمرة، ومن ثم: فإن العالم بآليات النقد لايكون ناقداً ربما يكون
مصححاً للنص تماماً كأستاذ الإملاء، والمتذوق الانطباعي لايكون ناقداً هو الآخر
دون المعرفة التامة بمكونات النص ومادته وما يكشف عن مواءمته أو مغايرته
لشرط البناء اللغوي والجمالي، إن هناك شرطاً للبناء اللغوي لايكشفه إلا النحاة،
وشرطاً للبناء الجمالي لايكشفه إلا البلاغيون، وهناك معيار جمالي لاينفك عن
التحول من عصر إلى عصر ومن جيل إلى جيل، وتلك هي إشكالية النقد
ومعضلته التي لم تحل بعد.
(١- ٢) أحسب أنني استطردت أكثر مما يلزم، وتلك عادة أشعر بها ولا أستطيع التخلص منها، فأنا مسكون بإشكاليات العصر التي صنعناها بأيدينا، ولم نحسن التخلص منها أو معايشتها؛ فنحن أبداً في قلق وانفعال ونبرة خطابية عالية.
لقد شُغِلْتُ زمناً بمعالجة قضايا تنظيرية، وصراعات مذهبية استنزفت الجهد
والوقت، والدراسات التطبيقية هي الأهم وهي الأجدى ولكنها في الوقت نفسه
الأشق، ففيها امتحان للقدرة، وفيها استدعاء لكم هائل من الوسائل والأدوات
والآلات والمناهج، والركض في شرايين النصوص يحتاج إلى طاقات وإلى
إمكانيات، وإلى تصورات متعددة لفضاءات النص وظروف تشكله، ونوع لغته
وطريقة بنائه، ومقاصد رموزه وإشاراته ومجازاته وإيحاءاته، وهذا الكم الهائل من
الخصائص الكامنة في النص المتميز قد لا تتأتي لدارس مثلي ليست له معرفة تامة
بأصحاب النصوص، ولم يكن قارئاً لهم ولا راصداً لتحولاتهم ونوع همومهم، ربما
كان آخر دراسة تطبيقية نهضت بها كانت لأعمال أدبية لمجموعة من الكتاب عن
طريق التحكيم، وكانت أيضاً لديوان شعر ذي طابع إسلامي صوفي (مع الله)
للأميري، وهي دراسة لغوية ألقيت في أحدى جامعات مصر ونشرت فيما بعد.
ومر عام أو أكثر لم تتح لي ممارسة الدراسات التطبيقية، وأحسب أنني
بحاجة إلى مزيد جهد واستذكار لدخول عالم نصوص متباينة لشعراء متباينين، فأنا
لا أدرس ديواناً واحداً، كما لا أدرس مجموعة من المبدعين من خلال مجموعة من
النصوص، ولست متأكداً من توفر هذا الجهد واستحضار ما ندعي من الآليات
بالاستذكار والأعمال الشعرية المفردة لمجموعة من الشعراء تتطلب جهداً استثنائيّاً
لايتصور حجمه إلا الذين مارسوه.
ومجلة (البيان «التي أقحمتني ولم ترأف بظروفي ستتحمل كامل المسؤولية
إزاء مايعتري هذه القراءة (غير النقدية) من هنات لست متواضعاً حين أعترف بها.
قبل البدء أقول، لا في إزاء هذه النصوص بالذات، وإنما بإزاء فيض من
الإبداعات والخطابات: إننا بحاجة إلى أن نتجاوز بكائياتنا وجلد ذواتنا وممارسة
الإسقاط للتخلص من المعاناة وتأنيب الضمير، إننا أمام واقع لم يكن من صنع أيدينا، واقع أفرزته تراكمات عبر قرون من الزمن، واقع لم يكن حدثاً آنيّاً، ومواجهة
هذا الواقع لا يكون بالنبرة الحادة ولا بمحاكمة الرموز ولا بالمراهنة على تصفيته
بالخطاب البلاغي.
إن خطاب النخبة ونشيد المبدعين رهان خاسر وأحصنة تركض في حلبة
دائرية، ووعود لا يعول عليها، إنها مجرد جرعات لتسكين الصداع والغيبة عن ألم
الواقع المرير.
إن علينا أن نكظم غيظنا، وأن نواجه قدرنا بصمت محتشم وفعل ممنهج
طويل الأجل، يبدأ بصنع الإنسان عبر التربة الراشدة والتنقية الواعية، الأمة
بحاجة إلى الوعي الذي أرشد إليه رسول الهدى:» فربّ مُبَلّغٍ أوعى من سامع «.
نحن نطلب هذا الوعي: وعي (الأنا) ، ووعي (الآخر) ، ووعي الإمكانات،
ووعي الواقع الأوسع من الإقليمية والعربية والإسلامية، والتحرك على هدي من
هذا الوعي، وإشكاليات الواقع ليست عربية فضلاً عن أن تكون إقليمية، وليست
عصرية فضلاً عن أن تكون آنية.
لقد مرت الأمة ومرت نخبها بخطابات تناسخية، لا يتعظ اللاحق بالسابق،
ولايمارس اللاحق أدنى حد من نقد الذات ومحاسبة النفس ولا يمتلك ذاكرة تعيد له
بعض الإخفاقات وأسبابها ليكون موعوظاً بغيره، بل لا يمتلك ذاكرة تعظه بنفسه..
تهالك على خطاب الإثارة وإدانة الذات وعزوف عن نداء العقل وتحذير الخبرة.
ومضاربة خاسرة تكاد تبيع ماتبقى من مساحات حرة لصوت العقل، ولست مبالغاً
ولامتجنيّاً ولامجازفاً لو قطعت أو أكدت بأن: الشعر، والقصة، والرواية، وسائر
الأنواع الكلامية تدور في هذا الفلك، فهي إما سخرية مرة ونقد لاذع للواقع وتحقير
موجع للأمة وتيئيس مفجع وانتهاك سافر لكل شروط الجدل الراشد.. أو رهان
جريء على البديل الأمثل، وكأن (عصى موسى) مجموعة من العصي الموزعة
على كل من يذعن لهذا الخطاب ويدخل في عباءته دون وعي أو تساؤل.. أو تبعية
أمعية لا تؤمن إلا بالشاهد المادي، متجهة صوب الحضارة المادية مستهلكة لا
منتجة، متأسية بالسلوك لا بالعمل، مجترة النفاية.
وكل الفئات الثلاث تتقاطع أصواتها ويتداخل لغطها ويرتفع ضجيجها، ولكنها
في دروب التيه والضياع، ولكي لا أحبط وأسقط، وأكون جزءاً من هذه الشرائح:
أستدرك أصواتاً مليئة بالحكمة والعقل والتروي والمراجعة، وكلها أصوات يخنقها
تكاثر المرجفين، ويضيعها صخب الخليين الذين يمتطون الأمواج حتى إذا تكسرت
على حافات الشواطئ خفوا لاستقبال أمواج أخرى، أطمئن نفسي ومن هم على
شاكلتي بحديث الذي لا ينطق عن الهوى:» لا تزال طائفة من أمتي على الحق «،
فالحق والشر لا يغيبان ولكنهما في جولات وصولات [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ
النَّاسِ] ، فإذا غلب الحق انزوى الشر في أضيق نطاق، وإذا غلب الشر كمن
الحق في قلوب المؤمنين تحرّفاً لجولةأخرى تعلي كلمة الله، والناس بين امتحان في
السراء والضراء [وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً] [وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَات]
[وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ] .
(١- ٣) وبعد: لقد جاء المقطعان بمثابة مدخل ومقدمة، ولم يبق للمتن إلا اليسير، الأمر الذي سيحملني مكرها على قراءة قصيدة واحدة فقط، لا لأنها
الأفضل، ولكن لأنها الأكثر إثارة.
القصيدة للشاعر الدكتور صالح سعيد الزهراني (جغرافيا الرقاب» ص ٤٨
العدد ٩٠، والأعمال الأخرى لها نكهتها الخاصة وتصورها الذاتي، وهي في
مجملها تعبير استفزته ترديات الواقع الإسلامي، وبكائيات مرة ألحقناها في كل
الطرح الإبداعي، عنوان النص يقرئك النص، يكاد يحرقه، أو قل هو المتن
والنص هامش مركز، فيه حذر، وفيه استدراج ذكي للقارئ.
العنوان: خبر، ومضاف إليه. وكلمة (جغرافيا) مصطلح يتسع لأكثر من
دلالة، قد تكون جغرافيا فكرية، أو بشرية، أو إقليمية، أو خلقية ... أو ما شئت،
والرقاب: جمع رقبة، وهي الأخرى مصطلح يتسع لأكثر من دلالة، ولكنها
الأقرب تعبيراً عن العبودية، وفي التنزيل: (فك رقبة) (وفي الرقاب) ، (تحرير
رقبة) ، (فضرب الرقاب) ، وهنا نقترب من أجواء النص، ولكننا لن نتعجل في
تحديد الدلالة العامة، وسنكتفي بإثارة التساؤلات ليظل النص مفتوحاً لأكثر من
قراءة ولأكثر من إسقاط، وسوف أتحامى الوقوع في مصيدة النص فأكشف همي
ومعاناتي الذاتية، ومن ثم: أزيح الشاعر لأكون أنا المتحدث وأنا المعرف،
(جغرافيا الرقاب) هل تعني عالم العبيد والمستضعفين وهل المسُتْرِق (بالبناء للفاعل)
هم صناع الحياة والمُسْتَرَقّ (بالبناء للمفعول) الأغبياء، وما دواعي الرق، وما
مقاصد الثنائية المتناقضة إلى حد صارخ، ولماذا وجهت الرسالة لمتناقضين
متضادين؟ ، كيف يكون شكل التلقي؟ ، هنا يكون الشاعر بين أمرين، إما أن
يكون متورطاً، أو ساعياً للتوريط، وعلى الحالين فإن القارئ يجب أن يكون حذراً
ويقظاً لكي لا يقع في لعبة الكشف عن القارئ لا الكشف عن القائل.. هي رسالة
إلى فئتين تمثلان التناقض في أقصى درجاته صيغة مبالغة، وتأكيد (صناع، جدّاً) .
الإشكالية في صيغة التلقي وأسلوب الاستثمار والتوظيف. وثمة إشكالية ثانية: من يكون هؤلاء وأولئك، إن تفكيك النص يبرز تعادلية مجحفة وثنائية متدابرة
وليست متآزرة أو متوازية على الأقل، ليست الفكرة بحد ذاتها غائبة، إنها
مطروحة في الطريق الجديد في تشكيل الفكرة وأسلوب تناولها واستدعاء كم هائل
من الرموز التراثية لتكون أوعية للطارئ، ومن ثم فالقصيدة تذكرني بقصيدة
البردوني (غزو من الداخل) .
والشاعر هنا يتحدث من منطقة الحلم، فهناك مخيلة وذاكرة المخيلة تلعب بين
قطبين: قطب الصور المسترجعة، وقطب الصور المتخيلة، والذاكرة تركض
داخل أغلفة التراث تمتطي الإضاءات والعتمات: السليك بن السلكة، ابن ماجد،
الكميت الأسدي، وتركض داخل أغلفة الآخر: (دي جاما) (ماجلان) (رأس
السندباد) .
والذاكرة والمخيلة كقوتين فاعلتين في صناعة النص تتآزران بعيداً عن
المكاشفة الناصعة. إن هناك آتياً يحمل مهمة التحرير، قد لا يكون تحرير الأرض
ولكنه تحرير الأفهام والمدارك والتصورات، ومجيئه لن يكون ذاتيّاً، إنه عبر
رسائله المادية: (الزجاج) (الملابس) (المبيدات) (المأكولات) .
الشوط الأول يمدك ببعض الخيوط، يضيء مواقع قدميك، حتى إذا
استشرفت الآتيَ تفلت منك ممعناً في الهروب والتمويه والمغالطة، ولكن هذا الوعد
الذي يرويه الشاعر ليس إلا لوناً من السخرية بسذاجة وغباء المتلقي.
(باسم تحرير مواليك) لمن يكون الخطاب؟ ، ومن الآتي؟ ، ولماذا يأتي؟ ،
إن هناك مجيئاً ماديّاً، مجيئاً فكريّاً، وكلاهما خطر، ذاك يُضْعِف، وهذا يفسد،
والإضعاف والإفساد هدفان للعدو، فعن أي المجيئين تحدثنا القصيدة التحذيرية أو
التهكمية؟ .
لن أمضي وراء التخمين فأُحَجّم الدلالة وأحرم القارئ من احتمالاتها وأصادر
فضاءات القصيدة.. ولن أقف حائراً أمام التعددية الدلالية.. إن لي قراءتي
وفرضيتي، وليكن لغيري ما يشاء من القراءات والتأويلات، والشاعر الذي هرب
من التسطح وأحادية الدلالة له حقه، فالشعر الخالد هو الذي يتجاوز زمنه وقضاياه
ليكون في انتظار الآتي.
والشاعر لم يكن أسير أقليميته لقد احتوى الآخر فكانت فضاءات الدلالة أكثر
عمقاً واحتمالات التأويل المتعدد واردة. الشعر رسالة مفتوحة، ومن الجميل جدّاً أن
يتوقع الحاضر والآتي أنها تخاطبه، ترسم له طريق الخلاص، تقدم له رؤية
نخبوية، وعندما تتأطر الرسالة يتطامن الشعر ويتقزم الشاعر، ومقياس الانفتاح
والانغلاق: هذا الكم الهائل من الشعر، وهذا الجم الغفير من الشعراء الذين طواهم
النسيان ولم تتسع لهم صفحات التاريخ.
إن هناك حشداً من الرموز وحشداً من المناجاة وحشداً من الوعود يكتظ بها
النص في أضيق نطاق كلامي.
هذا التكثيف وهذه التداعيات، تضع القارئ أمام تكاثر لا يدري معه ما يصيد، وقد يؤدي ذلك إلى خروجه بدون أدنى قدر من الاستيعاب.
بقي أن أتساءل عن تكافؤ الفرص بين: تكثيف الدلالات وتوفير الجماليات
الصوتية والتصويرية، والنص ينطوي على قدر من كل ذلك، ولكنه يفقد التعادلية
بسبب لهاثه وراء الإشارات والرموز والجمل القصيرة والقفزات المتلاحقة التي
تقطع التراسل والتواصل.
والقصيدة بجملتها تأنيبية تتعمد الإدانة لإنسان العصر، وقد تنطوي على شيء
من التحذير، والرموز تمثل السفر، أو قل: تمثل الإبحار مبارحة الأرض، أو قل: تمثل مغامرة من أجل الاكتشاف، هذا الحشد من السفر والصعلكة يوحي بالهروب
والاغتراب، هروب الذات واغتراب النفس، وهي ظاهرة دلالية في الشعر الحديث
تكاد تكون مألوفة.