المسلمون والعالم
القضية البوسنية..
(دروس وعبر)
بقلم: عبد العزيز بن عبد الله
لقد بلغت الفواجع التي تعرض لها المسلمون في البوسنة والهرسك من الهول
والفظاعة الشيء العظيم الذي سمع به القاصي والداني، ولم يعد خافياً على أحد من
المسلمين أو من أعدائهم مدى ما يعانيه إخوانهم في البوسنة والهرسك من استهتار
بحقوقهم الإنسانية، ورفض لحقهم في تقرير مصيرهم كغيرهم من الشعوب.. كل
ذلك على ضوء تعاليم هيئة الأمم المتحدة أو بمباركة من النظام العالمي الجديد الذي
فتح المجال للحرب العنصرية القائمة على ما يسمى بالتطهير العرقي وما أدت إليه
من مآس كبرى من الصرب (الأرثوذكسي) ، تلك التي سماها (بطرس الأصغر)
حرب الأغنياء، والشيء من معدنه لا يستغرب، فهو (أرثوذكسي) يحدب على بني
ملته ولو على حساب مهمته الإنسانية! .
ولقائل أن يقول: ماذا عسى أن يكون في هذه الأحداث المؤلمة من الخير
والرحمة، وما رأينا إلا سفك الدماء وهتك الأعراض وتشريد الأسر وسلب
الأموال؟ ! إن الجواب على هذا السؤال سهل وميسر إن شاء الله.
ولن يقدر مثل هذا الكلام إلا المؤمن بالله (عز وجل) الواثق بحكمته، المدرك
لمعاني أسمائه (عز وجل) وصفاته ولآثارها الكريمة الجليلة.
وهذا لا يعني التواكل وترك الدفع، كلا.. بل يجب إعانة المسلمين هناك بكل
ما يمكن لجهاد عدوهم، والدفاع عن الديار والأنفس والأعراض، لكننا يجب أن
نستثمر الدروس والعبر من هذه الأحداث لكي تكون رصيداً ورافداً من روافد الدعوة
إلى الله (عز وجل) ، وذلك بتوظيفها في معرفة الأعداء وشحذ العزائم، واستنهاض
الهمم، ووحدة الصف، وغير ذلك من الآثار الإيجابية.
وما سيقال هنا من الحِكَم والغايات المحمودة في أحداث البوسنة يسري أيضاً
على مآسي المسلمين الأخرى في مشارق الأرض ومغاربها.
ويمكن إجمال الدروس والعبر المحمودة
في هذه الأحداث فيما يلي:
أولاً: رجوع الناس في تلك البلاد إلى الإسلام، حيث برز من بينهم من
يفهمه فهماً صحيحاً بعد أن كان إسلاماً صوريّاً بالهوية فقط، وما نتج عن ذلك من
التمايز عن الكفار بعد أن كانوا في حالة من الانصهار والذوبان معهم دون علم
بحقيقة الإسلام وحقيقة الكفر، لكن ما إن اشتعلت الأحداث حتى عرف المسلمون
هناك أعداءهم، وبدأ التمايز، ووضح أنه لا التقاء بين الإسلام والشرك والكفر،
وبخاصة بعد انتشار الدعوة بينهم، وما ساهم به المسلمون في كل مكان من جهود
في الدعوة والتعليم والإغاثة، فأحس الناس هنالك برابطة العقيدة بإخوانهم المسلمين، فعرفت عقيدة الولاء والبراء، وظهرت الشعائر الإسلامية، حيث عمرت المساجد
بالصلاة، وبرزت ظاهرة الحجاب بين المسلمات بعد أن كن هن والكافرات سواء.
كل ذلك من الخير الذي ظهر بعد هذه الأحداث، ولو لم يقدر الله هذه الأحداث
المؤلمة لبقي الوضع والله أعلم على ما هو عليه قبل الأحداث من الجهل والفساد
ومسخ الإسلام في النفوس وعلى أرض الواقع، ولكن الله لطيف خبير، بر رحيم،
عليم حكيم، وهذا الخير الذي حصل من آثار لطف الله ورحمته حيث لم يتركهم
(سبحانه) في انحدارهم الشديد إلى الجهل والفساد والكفر، بل أيقظهم (سبحانه) بهذه
الأحداث المؤلمة التي كانت سبباً في انتباههم من نومهم العميق، وسبباً في شعورهم
ببعدهم عن الإسلام، وانحرافهم الشديد عن عقيدته النقية، وماذا تساوي كل
التضحيات إذا كانت نتيجتها النجاة من عذاب الهوان والذل في الدنيا، والنجاة من
عذاب النار يوم القيامة؟ إنها تصبح ضئيلة بجانب تحصيل هذه المصالح العظيمة،
وفي ذلك عبرة للمجتمعات الآمنة في أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وإلا
أصابهم ما أصاب غيرهم؛ قال (تعالى) : [وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ القُرَى
وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ] [الأحقاف: ٢٧] .
ثانياً: شعور المسلمين في كل مكان بعداوة الكفار وحقدهم الشديد على الإسلام
والمسلمين مهما اختلفت مللهم وأوطانهم شرقاً كانوا أو غرباً؛ فالكفر ملة واحدة،
والحرب التي يشعلونها حرب عقدية مهما أظهروا من دوافع مزورة يغطون بها
كيدهم ومكرهم. وهذا والحمد لله معروف من كتاب الله (عز وجل) ، وما فيه من
فضح للكفار والتحذير من الاغترار بكلامهم والركون إليهم، لكن هناك من المسلمين
من بَعُد عن كتاب الله (عز وجل) ، واغتر بالكفار وبمعسول كلامهم، فجاءت هذه
الأحداث المؤلمة لتؤكد للمسلمين في كل مكان، حتى لمن عشي بصره: أن الكفر
ملة واحدة على المسلمين ودينهم، وقد حذر الله (سبحانه) المسلمين من هذا الكيد منذ
أربعة عشر قرناً من الزمان؛ قال (تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً
مِّن دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي
صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا
يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ
مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ
وَإن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إنَّ اللَّهَ بِمَا
يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ] [آل عمران ١١٨ ١٢٠] .
كما ظهر من خلال هذه الأحداث كذب الكفار، وافتضاح أمرهم وغدرهم
وظلمهم حيث ظهرت المعايير المزدوجة، والموازين الجاهلية، وهذا الأمر والحمد
لله يفهمه المسلم من عقيدته قبل هذه الأحداث وذلك من الآية الآنفة الذكر وغيرها،
ولكن كما أسلفت هناك من الناس الذين بعدوا عن فهم العقيدة الصحيحة، من لا ينفع
معه الكلام، ولايقتنع إلا بالأحداث، وما أكثر هذا الصنف من الناس الذي لايستيقظ
من نومه إلا بضربات عنيفة تفتح عينيه وتنبهه من نومه العميق، فجاءت هذه
الأحداث لتؤكد لكل من عنده أدنى مسكة من دين أو عقل تهافت الشعارات التي
ترفعها هيئة الأمم ومجلس الأمن.. من مثل: رفع الظلم عن المظلومين، وردع
الطرف المعتدي، والقضاء على أسلحة الدمار الشامل.. إلخ.
لقد ثبت من خلال هذه الأحداث أن تلك الشعارات ذات معيارين، فإن كان
الخطر من المسلمين ولو بالهوية طبقت، وإن كان الخطر عليهم ضاعت الشعارات
وتلاشت، وترك المعتدي يقتل ويهتك ويدمر على مرأى منهم ومسمع، وهذه
المواقف على كل حال لاتستغرب منهم، ولكن المستغرب هو أن ينخدع بكلامهم
ووعودهم من يدعي أنه يفهم شهادة (أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) فلعل
هذه الأحداث توقظ هذا الصنف من الناس وتساعدهم في الرجوع إلى عقيدتهم،
واعترافهم بالجهل الذي كانوا عليه من دينهم، وفي ذلكم خير.
ثالثاً: إحياء شعيرة الجهاد بين المسلمين؛ هذه الشعيرة التي غابت ردحاً من
الزمن حتى وصل الأمر في وقت من الأوقات إلى التهيب من الخوض في موضوع
الجهاد، والحديث حوله، أما الآن فأصبح هو حديث المسلمين الجادين في كل مكان، وقد ساهم الجهاد الأفغاني على علاته وسلبياته في ذلك مساهمة فعالة، وكذلك ما
تزامن معه وما تلاه من حركات جهادية في العالم، هذا، وإن كان هناك بعض
التحفظ على بعض هذه الحركات الجهادية لحاجتها إلى مزيد من التأصيل الشرعي،
إلا أنه وبشكل عام كان لرفع علم الجهاد أثر عظيم في ارتفاع المعنويات والأمل في
عودة الإسلام عودة صادقة شاملة.
ولقد أحست ملل الكفر جميعها بخطر الجهاد وأثره في إحياء النفوس
واستنهاض الهمم، فوجهت حربها على هذه التيارات الجهادية في شخص من
أسمتهم بالأصوليين، وصدق الله العظيم: [وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن
رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ
وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لا تُظْلَمُونَ] [الأنفال: ٦٠] .
وهذه النتائج الطيبة أفرزها التحدي السافر، والصراع المرير، والكيد العظيم
من الكفار للمسلمين في كل مكان، وفي ذلك خير إن شاء الله تعالى إن أُحسِن
استثماره، ووجه التوجيه الصحيح، وتعاون المسلمون جميعاً تحت راية الجهاد ضد
أعدائهم، ونبذوا الفرقة التي بينهم، وهذه الثمرة قد وضحت بجلاء في جهاد
المسلمين في البوسنة أمام أعدائهم الصرب الكافرين، وجهاد نفر من المسلمين في
فلسطين أمام اليهود الكافرين المغتصبين.
رابعاً: أظهرت هذه الأحداث طرفاً من خيرية هذه الأمة، وأن الشعوب رغم
ما دهاها في دينها فلا تزال فيها بقية من خير وحب للإسلام، وذلك فيما ظهر من
التعاطف الشديد من المسلمين بعامة مع إخوانهم المنكوبين، حيث برزت أمثلة
رائعة في البذل والتضحية والدعوة إلى الله والتعليم والجهاد، وذلك بما وقفه بعض
دعاتها وخطبائها وأغنيائها ومجاهديها من المواقف النبيلة التي تعكس الهم الإسلامي
في النفوس.
وهذا الخير الموجود في هذه الأمة يعد رصيداً مهمّاً للعودة الشاملة للإسلام إن
استغل ووظف في مكانه المناسب.
خامساً: أن الاتكال على الله ثم الأخذ بالأسباب المشروعة هما طريق النصر
المؤزر إن شاء الله ولاشك أن المواجهة التي تحصل هناك على الرغم من كل
المؤامرات الدولية وعلى الرغم من قلة العدد والعدة.. كل ذلك جعل المسلمين
ينتصرون في كثير من المواقع ويستولون على سلاح العدو ويقاومونه بكل بسالة،
وأن جمع الكلمة ووحدة الصف والانطلاق من المنطلقات الإسلامية الحقة بإذن الله
كفيل بتعجيل النصر، وما ذلك على الله بعزيز.
سادساً: إن التوجهات التي تلوح في الأفق بالتهاون في إقامة الدولة الإسلامية
بدعوى أن الغرب والشرق سيقفون ضدها وبدء ظهور اتجاهات مشبوهة بإقامة دولة
مدنية (علمانية) إنما هو طريق الهلاك والخسار وتضييع للإمانة التي وضعها الشعب
المسلم بل والأمة الإسلامية في أعناق المسؤولين بهذه الدولة، بل وفي ذلك شق
للصف ونكوص عن الأهداف التي رسمها العلماء والمفكرون لإقامة هذه الدولة، بل
وخيانة للدين، وقد علمتنا الأحداث بأن الحرب القائمة حرب عقيدة، ومهما تساهل
بعضهم فيها وتخاذل في أدائها فهم في نظر أعدائهم مسلمون، فلابد الحذر من
التساهل في ذلك الهدف الإسلامي العظيم الذي قامت الدولة باسمه حتى لا يبوء
المسلمون بخزي الدنيا والآخرة.
سابعاً: الحذر كل الحذر يا أهل البوسنة والهرسك من أولئكم الذين لا يحملون
من الإسلام إلا اسمه، ولا سيما المنضوين تحت مظلة الشيوعية البائدة وذوي
الأهداف المادية والذين يركبون الأمواج لتحقيق أهدافهم الرخيصة ولا يشعرون
بشعور العقيدة الحقة التي يجب أن ينطلق من أصولها كل عمل مهما كان وبخاصة
في مثل هذه الظروف الحرجة.
فالمسؤولون عن هذا الجهاد في بحر من الأمواج المعادية لهم، وقد عرفوا
أمثال هذه الفئات (كعبديتش) وإخوانه ممن اشترى دنياه بدينه واستعان بقوى أجنبية
ضد إخوانه المسلمين، ومازال سادراً في غيه، فهؤلاء الأشخاص وأمثالهم يجب
الحذر كل الحذر منهم والضرب بيد من حديد على كل توجه انهزامي ومصلحي؛ إذ
سيكون في ذلك عبرة لكل معتبِر.
والله أسأل أن يعلي كلمته وأن يعز جنده وينصر حزبه وأن يرينا في أعدائنا
جميعاً يومااًسوداً.. إن الله على كل شي قدير وبالإجابة جدير، والله المستعان.