للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بأقلام القراء

[حياة القلوب]

عبد السلام بن محمد الحمدان

لابد للداعية في هذه الحياة المليئة بالفتن والمصائب أن يخلو بنفسه وأن يلتفت

إليها حتى لا يخسرها - بعد ذلك - وتكون عبئاً ثقيلاً عليه. فإذا تدارك الداعية

نفسه فلم يهملها وعالجها في وقتها يكون قلبه حياً ويصبح أمره سهلاً. وعجيب أمر

القلب! ! فهو لا يثبت على حال أبداً وما سمي القلب قلباً إلا لكثرة تقلبه ... فكل

شيء يؤثر فيه! ! وكل أمر يغير منه بقدر ... إذاً فلابد من تعاهده والمحافظة على

استقامته وإصلاح هفواته ولهواته ...

وأول سبب لحياة القلب هو الاستجابة لله ولرسوله ... ففيها حياة للقلب..

وحياة للنفس وحياة للمجتمع كله.. [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ إذَا

دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ واعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وقَلْبِهِ وأَنَّهُ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ]

[الأنفال: ٢٤] .

يقول سيد قطب - رحمه الله - في هذه الآية: إنها دعوة إلى الحياة بكل

صور الحياة، وبكل معاني الحياة.. إنه يدعوهم إلى عقيدة تحيي القلوب والعقول،

وتطلقها من أوهام الجهل والخرافة، ومن ضغط الوهم والأسطورة، ومن العبودية

لغير الله والمذلة للعبد أو للشهوات سواء..

ويدعوهم إلى شريعة من عند الله تعلن (تحرر) الإنسان وتكريمه بصدورها

عن الله وحده، ووقوف البشر كلهم صفاً متساوين في مواجهتها، لا يتحكم فرد في

شعب، ولكنهم ينطلقون كلهم أحراراً متساوين في ظل شريعة صاحبها الله رب

العباد.

ويدعوهم إلى الجهاد في سبيل الله، لتقرير ألوهية الله - سبحانه - في

الأرض وفي حياة الناس وتحطيم ألوهية العبيد المدَّعاة ومطاردة هؤلاء المعتدين

على ألوهية الله - سبحانه وتعالى - وحاكميته وسلطانه؛ حتى يفيئوا إلى حاكمية

الله وحده، وعندئذ يكون الدين كله لله. حتى إذا أصابهم الموت في هذا الجهاد كان

لهم في الشهادة حياة.

ذلك مجمل ما يدعوهم إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو دعوة إلى

الحياة بكل معاني الحياة.. بكل صورها وأشكالها، وفي كل مجالاتها ودلالاتها.

والتعبير القرآني يجمل هذا كله في كلمات قليلة موحية: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا

اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ]

استجيبوا له طائعين مختارين وإن كان الله - سبحانه - قادراً على قهركم على

الهدى لو أراد: [واعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وقَلْبِهِ] .

ويا لها من صورة رهيبة مخيفة للقدرة القاهرة اللطيفة..! [يَحُولُ بَيْنَ

المَرْءِ وقَلْبِهِ] ؛ فيفصل بينه وبين قلبه، ويستحوذ على هذا القلب ويحتجزه،

ويصرّفه كيف شاء، ويقلبه كما يريد. وصاحبه لا يملك منه شيئاً وهو قلبه الذي

بين جنبيه!

إنها صورة رهيبة حقاً يتمثلها القلب في النص القرآني، ولكن التعبير البشري

يعجز عن تصوير إيقاعها في هذا القلب، ووصف هذا الإيقاع في العصب والحس! إنها صورة تستوجب اليقظة الدائمة، والحذر الدائم، والاحتياط الدائم.

اليقظة لخلجات القلب وخفقاته ولفتاته، والحذر من كل هاجسة فيه وكل ميل

مخافة أن يكون انزلاقاً، والاحتياط الدائم للمزالق والهواتف والهواجس.. والتعلق

الدائم بالله - سبحانه - مخافة أن يقلب هذا القلب في سهوة من سهواته، أو غفلة

من غفلاته، أو دفعة من دفعاته.. ولقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو

رسول الله المعصوم يكثر من دعاء ربه: (اللهم يا مقلب القلوب ثَبِّتْ قلبي على

دينك) .. فكيف بالناس وهم غير مرسلين ولا معصومين؟ !

ومما يعين على حياة القلب: دوام ذكر الله - عز وجل - فنعم الزاد الذي كان

يتغذى به الصالحون وينعم به العارفون كما قال ابن تيمية - رحمه الله -: الذكر

للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟ ! .

هذه غدوتي!

يقول ابن القيم: وحضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر، ثم جلس

يذكر الله - تعالى - إلى قرب من انتصاف النهار، ثم التفت إليَّ وقال: (هذه

غدوتي، ولو لم أتغدَّ هذا الغداء لسقطت قوتي) ، أو كلاماً قريباً من هذا. وقال لي

مرة: لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها لأستعد بتلك الراحة لذكر آخر) ..

فمتى كان القلب حياً.. كانت صلته بالله - تعالى - أعظم وأقوى ... والقلب

الموصول بالله دائماً هو الذي لا يشغله عن ذكره شاغل ولا يلهيه عنه لاهٍ.. ففي كل

أمر يذكر الله - تعالى -.. في نومه وانتباهه.. وأكله وشربه.. ودخوله وخروجه.. وجلوسه وقعوده.. وجميع أمور حياته.. [الَذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وقُعُوداً

وعَلَى جُنُوبِهِمْ] [آل عمران: ١٩١] .

فهذه هي الحياة الحقيقة.. حياة القلوب.. لا حياة الجسد وحده.. فكم من حي

ميت وكم من ميت حي..

مَن هو القدوة؟ !

(فإذا أراد العبد أن يقتدي برجل فلينظر: هل هو من أهل الذكر؟ أو هو من الغافلين؟ وهل الحاكم عليه الهوى أو الوحي؟ ! فإن كان الحاكم عليه الهوى وهو من أهل الغفلة، وأمره فُرُط، لم يُعتدّ به ولم يتبعه فإنه يقوده إلى الهلاك؛

قال - عز وجل -: [ولا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتَّبَعَ هَوَاهُ وكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً] [الكهف: ٢٨] .