للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأرض الطيبة]

أحمد أبو شاور

لم أستطع ـ بالرغم ـ مما بذلته من محاولات أن أكفَّ بصري عن النظر إلى «أبي محمود» الذي لم يتوقف طوال المحاضرة ـ التي ألقاها علينا الخبير الزراعي ـ عن تدوين الملاحظات والتعليمات التي تهمّنا كمزارعين مثابرين، يسعون بكل طاقاتهم وإمكانياتهم لزيادة الإنتاج، وتحسينه من حيث النوع.

لا أنكر ـ في تلك اللحظات تحديداً ـ أنني غبطت «أبا محمود» على صفاء ذهنه، وكمال جاهزيته واستعداده للاستفادة من هذه المحاضرة القيمة، كما لا أنكر أنني جلدت نفسي بسياط اللوم والعتاب على تقصيري وإهمالي؛ إذ لم أتزود بورقة وقلم لأدوّن بعض تلك المعلومات التي قد يأتي عليها النسيان بمجرد الخروج من قاعة المحاضرة.

هذا الأمر على بساطته أطلق العنان لخيالي ليصوّر لي ما ليس في الحسبان.. وأنه ـ ربما ـ يكون بادرة من بوادر الفشل بالفوز بجائزة الدولة لأفضل منتج زراعي احتكرته لنفسي لثلاث سنوات متتالية كان فيها «أبو محمود» أشد المنافسين لي على هذا اللقب، وكادت شطحات خيالي أن تبعدني عن أرض الواقع، وعن الاستماع للمحاضرة، إلى أن هتف بي من داخلي هاتف:

ـ ستخرج من المحاضرة بخفّي حنين يا أبا جاسر! ما دمت تشغل بالك بأوهام وخيالات لا وجود لها، بدل أن تفتح عقلك وكل مداركك فتصغي للمحاضر وتستوعب كل ما يلقى عليك وإليك من تعليمات ... وامتثلت للهاتف من داخلي، وتحاشيت النظر إلى «أبي محمود» بل إلى الناحية التي يجلس فيها، خصوصاً بعد أن تعذّر عليّ الحصول على القلم، ولو وجدته ما استحييت أن أدوّن به بعض المعلومات على باطن كفّي أو حتى على كمّ قميصي. لكي لا تفوتني واردة أو شاردة من المعلومات، التي سرعان ما بدأت أتلقفها من فم المحاضر بكل حواسِّي، ولم تنته المحاضرة إلا وقد استوضحت عن كل لبس وغموض، فخرجت منها وفي ذهني يختمر كل ما ينبغي عليّ أن أفعله بدقة، للاستفادة من كل قطرة ماء تجود بها السماء، أو أستخرجها من جوف الأرض، بالإضافة إلى كل ما يمكن عمله من احتياطات لتجنيب مزروعاتي أخطار الموجات الهوائية الباردة، وما قد تشكله من صقيع يتلف المزروعات بالكامل. وبهذا اطمأنت نفسي، واستبشرت بالفوز بالجائزة للمرة الرابعة.. وربما بمقابلة متلفزة تخرج بصيتي عن دائرة المنطقة إلى كل أنحاء القطر، كما حدث في المرّة السابقة، فأقبل عليّ التجار والسماسرة من كل الأنحاء، واشتروا إنتاجي الزراعي بأسعار عالية لم أكن أحلم بها.

بعد أيام قليلة، هطلت خلالها الأمطار الغزيرة، وتشكل في بعض لياليها الصقيع، فألحق الأذى والضرر الواسع بالمزورعات المهملة من قِبَل أصحابها، قررت أن ألتقي بـ «أبي محمود» الذي سرعان ما قادني إلى مزرعته ولسانه يلهج بالدعاء والشكر للخبير الزراعي، الذي أبعدت تعليماته شبح الصقيع عن العديد من المزارع، ومنها مزرعة أبي محمود.

كان أبو محمود يرجع بين الحين والحين إلى الورقة التي دوّن عليها تعليمات الخبير أثناء المحاضرة؛ لينظر فيها قليلاً قبل أن يعيد حديثه عن الإجراءات التي اتخذها للمحافظة على مزروعاته، بكلمات تقطر ثقةً بالنفس. وحين شرعت في مناقشته بموضوع المحاضرة، اكتشفت أنه لم يستوعب جميع المعلومات على صحتها، وأنه قد أخطأ في فهم بعض منها، وتحوّل حوارنا إلى حوار تلميذين يراجعان دروسهما وهما في طريقهما إلى الامتحان. وكدت أُصعق حين سمعته يقول:

ـ حامض النتريك ألد أعداء المزروعات.

لكنني لذت بالصمت بينما كانت نفسي تموج بأسئلة عديدة.

ـ ماذا لو أبقيت «أبا محمود» يعوم في جهله؟ لِمَ لا أتركه يتخبط في أقوال مغلوطة قد تتحول عما قريب إلى أفعال مغلوطة تضمن لي إبعاده عن طريقي كمنافس عنيد لي على جائزة الدولة، فأبقى المرشح الأوفر حظاً لنيلها؟ وكدت أستسلم لهذا النداء الخفي بداخلي، لولا أن هتف بي من داخلي هاتف آخر:

ـ لست أنت «يا أبا جاسر» الشخص الذي يرى الخطأ ولا يسعى إلى تصويبه، كيف تفعل هذا وأنت تعلم أن «الدين النصيحة» ؟ وفكّرتُ قليلاً قبل أن أقول:

ـ لكن الخبير لم يقل هذا عن حامض النتريك يا أبا محمود!

ـ فماذا قال؟

ـ قال: إنه نافع.. بل وضروري للمزروعات، واستشهد بقول رب العزة والجلالة: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: ٢٤] .

ـ ها أنت تقولها بلسانك: يُنزل من السماء ماء، ولم يقل حامض النتريك.

ـ ماء المطر هو الذي يحمل حامض النتريك.

ـ ومن أين جاء حامض النتريك هذا؟

ـ من النيتروجين الموجود أصلاً في الهواء.

ـ فكيف تحوّل إلى حامض مذاب في ماء المطر؟

ـ بقدرة الله الذي نظّم هذا الكون بدقة؛ فما خلق من شيء من قبيل العبث، بل اقتضته حكمته، صغر ذلك الشيء أم كبر.

ـ سبحان الله العلي العظيم، لكنك لم تجبني عن سؤالي، وهو: كيف تحوّل النيتروجين إلى حامض مذاب في الماء؟

ـ بفعل الحرارة العظيمة التي تتولد في الجو أثناء تراكم الغيوم، وحدوث عمليات التفريغ الكهربائية.

ـ ومن أين تأتي هذه الحرارة العظيمة عندما يكون الناس يرتجفون من البرد؟

ـ تتولد هذه الحرارة من تفريغ الشحنات الكهربائية التي تكون في الغيوم، والدليل على ذلك ما نراه من توهّج..

ـ أتعني البرق؟

ـ بالتأكيد «يا أبا محمود!» البرق هو الذي يصنع لنا حامض النتريك الذي لا بد منه لنمو المزروعات.

ـ سبحان الله العلي العظيم، الذي جعل البرق بعيداً عن سطح الأرض كي يقي الناس شروره.

ـ للبرق حسناته ـ أيضاً ـ غير التي ذكرتها آنفاً، فمنظره وإن كان يثير الرعب في الناس فهو يجلّي لنا فكرة عظيمة ينبغي أن لا تفارق رأس أحد منا، وهي: فكرة الاعتقاد الجازم بوحدانية الله، وعظمته في تسيير أمور كونه بحكمة بالغة.

ـ أنا أستبشر الخير برؤيتي البرق، ولا أراه إلا في الساعات التي يشتد بها هطول الأمطار.

ـ البرق أصلاً لا يحدث إلا في الغيوم المتراكمة أو «الثقال» كما وصفها القرآن الكريم.

قلتها حين كانت يد «أبي محمود» تقطف حبة برتقال، سرعان ما دفعها إليَّ وهو يقول:

ـ خذ هذه، إنها أول حبة أقطفها من النوع الحسن!

ـ تأملت حبة البرتقال التي أصبحت بيدي، وبدت بحجم زائد، لم أرَ مثيلاً لها من قبل إلا في مزرعتي النموذجية، لكنني لذت بالصمت، ولم أعقِّب، كي لا يشتمّ من كلماتي رائحة التفاخر، أو التعالي، وما أن رفعت نظري عن حبة البرتقال حتى رأيت «أبا محمود» وقد همَّ بالابتعاد، والمجرفة في يده.

ـ إلى أين يا أبا محمود؟

ـ لأخرب القناة التي حفرتها قبل أيام من سقوط المطر.

ـ حفرتها؟ أين؟

ـ بإزاء التل!

ـ لِمَ؟

ـ لكي تبعد مياه المطر الساقط على التل عن مزرعتي.

ـ أحقاً ما تقول؟

ـ أجل! لقد فعلتها اعتقاداً مني أن حامض النتريك الساقط مع الأمطار يضر بمزروعاتي.

ـ وهل تظن أنني سأنتظرك حتى تنتهي من تخريب هذه القناة وحدك.

ـ يمكنك أن تشغل نفسك بتقشير البرتقالة، والتهامها.

انتزعت المجرفة من يده، وقلت:

ـ لن أذوق طعمها، إلا بعد أن أكسب ثواباً بتخريب تلك القناة التي حرمت مزروعاتك كل ما سقط مع الأمطار من حامض النتريك.

تابعت مسيري.. على حين ظل «أبو محمود» لابثاً في مكانه وعيناه تطفحان بالسرور، وربما بدمعة شكر حائرة، لم تجد بعدُ طريقها إلى الأرض الطيبة.