ملفات
مناهجنا.. آخر الحصون
[حاجتنا إلى منهاج إسلامية]
د. سعد الشدوخي [*]
التربية عملية شاملة يتم بها الانتقال بالفرد أو المجتمع من الواقع الذي هو
عليه إلى المثل الأعلى الذي ينبغي أن يكون عليه، وهي وفق هذه الرؤية عملية
تغيير مستمرة تتكامل مؤسسات تربوية اجتماعية كثيرة في تحقيقها؛ فالأسرة
والمدرسة والمسجد ونحوها تشترك في وظائف تربوية كثيرة، وقد يتميز بعضها
عن بعض في أدائها لبعض وظائفها التربوية، كما قد يستقل بعضها بأداء وظائف لا
يشاركه فيها مؤسسات أخرى. وهذه المؤسسات التربوية تتكامل أيضاً مع مؤسسات
اجتماعية أخرى غير معنية بالتربية كالمؤسسات الإعلامية والثقافية؛ وأدنى درجات
التكامل الذي تتوقعه المؤسسات التربوية من المؤسسات الاجتماعية الأخرى هو عدم
المناقضة أو الإعاقة: أي أن لا تعوق تلك المؤسسات الاجتماعية المؤسسات
التربوية في أداء وظائفها.
والمدرسة واحدة من أكثر المؤسسات التربوية أهمية، وهي تضطلع بوظائف
تربوية كثيرة منها ما هو اجتماعي ثقافي ميدان التغيير فيه هو المجتمع، ومنها ما
هو تربوي نفسي ميدان التغيير فيه هو الفرد المتلقي للتربية.
والمنهج هو وسيلة المدرسة لتحقيق أهدافها ووظائفها التربوية وكثير من
وظائفها الاجتماعية، ويعرّف المنهج بأنه «مجموع الخبرات والنشاطات التي
تقدمها المدرسة تحت إشرافها للتلاميذ بقصد احتكاكهم بها وتفاعلهم معها، ومن نتائج
هذا الاحتكاك والتفاعل يحدث تعلّم أو تعديل في سلوكهم، ويؤدي هذا إلى تحقيق
النمو الشامل المتكامل الذي هو الهدف الأسمى للتربية» وهو بهذا التعريف لا
يقتصر على الكتاب المدرسي وإنما يمتد ليشمل عناصر كثيرة منها الخطة الدراسية،
وطرق التدريس، والمواقف التعليمية والتربوية، والنشاطات الصفية وغير
الصفية، وكثير من عناصر البيئة المدرسية.
أسس بناء المنهج:
إن عملية بناء المنهج حينما تتم على أسس علمية تربوية عملية معقدة نوعاً ما
بحيث تتضمن عمليات فرعية دقيقة ومتداخلة في أحيان كثيرة، تضع في الحسبان
المجتمع وقيمه ومعتقداته وتطلعاته ومشكلاته والتحديات التي تواجهه من جهة،
والتلميذ وخصائص مرحلة نموه ولغته وطرائق تفكيره واحتياجاته ومشكلاته
وتوقعات مجتمعه منه من جهة ثانية، والمعرفة وطبيعتها وخصائصها من جهة ثالثة
حتى يصير المنهج نسيجاً متكاملاً محكم الحياكة وليس مجرد خيوط مهلهلة.
ومن أكثر مدخلات هذه العملية أهمية تحديد الأسس التي يبنى عليها المنهج.
ويتفق كثير من التربويين على تصنيف هذه الأسس بالنظر إلى مجالاتها في أربعة
أنواع: الأسس العقدية، الأسس المعرفية، الأسس الاجتماعية، الأسس النفسية.
الأسس العقدية:
أشرت في بداية هذه المقالة إلى أن التربية عملية تغيير يتحقق بها الانتقال
بالفرد والمجتمع من الواقع الذي هو عليه إلى المثل الأعلى الذي ينبغي أن يكون
عليه، وهذا الوصف للتربية وإن كان يصدق على جميع التربيات سواء كانت
إسلامية أم غير إسلامية إنما تتحدد فيه هوية التربية بتحديد تصورها للمثل الأعلى
الذي ينبغي أن يصار إليه سواء في تربية الفرد أم في تربية المجتمع. ولكل أمة
من الأمم رؤيتها الخاصة بها للإنسان الأمثل، ولذا فإن من نافلة القول أن المثل
الأعلى للإنسان في المجتمعات الاشتراكية مثلاً مغاير للمثل الأعلى للإنسان في
المجتمعات الرأسمالية، والمثل الأعلى للإنسان في الإسلام يختلف عنه في كل من
اليهودية والنصرانية.
والتصور عن الإنسان في وضعه الأمثل (فرداً أو مجتمعاً) لا يمكن فصله
عن التصور عن الكون والوجود والحياة. إن التصور عن هذه القضايا الكلية
الكبرى يشكل جزءا من الأسس العقدية التي يبنى عليها المنهج، وتتحدد على
أساسها مع بقية الأسس الأخرى أهدافه ووسائله ومحتواه؛ وعلى هذا الاعتبار فإنه
لا يمكن أن يُتصور منهجٌ تربوي لأمة من الأمم دون أن يكون مبنياً على معتقداتها
وتصوراتها عن الوجود والكون والإنسان والحياة، ومن ثم فإنه لا يمكن أيضاً أن
يُتصور إمكان استعارة أمة من الأمم مناهج تعليمية من أمة أخرى أو أن تبني أمة
مناهجها أو تطورها وفق مواصفات تحددها أمة أخرى.
ولا يتسع المقام هنا للحديث المفصل عن الأسس العقدية للمنهج في المجتمعات
المسلمة، ولكن أقتصر على الإشارة إلى بعض منها:
الإنسان في وضعه الأمثل هو الإنسان الذي تحققت فيه غاية وجوده، وهي
تحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى. يقول الله سبحانه: [وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ
إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] (الذاريات: ٥٦) ، وعلى هذا الأساس تتحدد رسالة التربية في
المجتمع المسلم بأنها العمل على مساعدة الإنسان على إدراك غاية وجوده ومن ثم
تحقيقها، وفي هذا الإطار تفعّل التربية في الإنسان خصائصه الفكرية والوجدانية
والحركية على نحو يجعله قادراً على التفاعل مع الأشياء والأحياء بما يحقق هذه
الغاية، ويجعله منتجاً في عمارة الأرض وفق منهج الله. وكل هذا يقتضي إثراء
المنهج بالمعارف والخبرات التي من شأنها أن تعرّف الطالب بغاية وجوده، وتنمي
فيه الاتجاه لتحقيقها.
- الله خالق كل شيء ورب كل شيء ومليكه، وهو وحده المستحق للعبادة؛
وبناء المنهج على هذا الأساس يقتضي في جملة أمور أخرى تعريف الطالب بربه
وحق ربه على نحو يجعله يدرك استحقاقه سبحانه للعبادة دون سواه، ويجعله يعبد
الله مخلصاً له الدين.
- أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين يطاع
فيما أمر، ويصدَّق فيما أخبر، ويُنتهى عما نهى عنه، وقد وصفه الله بأنه لا ينطق
عن الهوى.
- أن الكون خلق لله، وأنه ليس إلهٌ ولا أي من أجزائه كذلك، كما أنه ليس
عبداً للإنسان، وأن العلاقة بينه وبين الإنسان إنما هي علاقة تسخير؛ حيث سخّر
الله للإنسان ما في السماوات وما في الأرض؛ يقول تعالى: [وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي
السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ] (الجاثية:
١٣) ، وأن الإنسان مستخلف في الأرض ليعمرها وفق منهج الله، وأن الله يسيّر
هذا الكون وفق سنن ونواميس سنّها لتستقيم بها حياة الإنسان على هذه الأرض،
وهي مظاهر من مظاهر التسخير لكنها ليست حدوداً لقدرة الله. وهذه السنن
والنواميس الكونية يمكن أن تكون مجالاً للبحث والدراسة وكلما تمكّن الإنسان من
اكتشاف المزيد منها أمكنه توسيع دائرة استفادته من التسخير على نحو يسهّل عليه
أمر معاشه ويعينه في تحقيق عبوديته لله وعمارته للأرض وفق منهج الله.
- أن الحياة ميدان للابتلاء؛ يقول الله تعالى: [تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وَهُوَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ
العَزِيزُ الغَفُورُ] (الملك: ١-٢) ، وجعل من طبيعة الحياة أنها مليئة بعناصر
الابتلاء بالخير والشر، وجعل الأصل في الإنسان الخيرية. يقول الله سبحانه:
[لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ] (التين: ٤) ، وجعله ذا طبيعة مزدوجة
فيها استعداد لتمييز الخير والشر، وللاستجابة لنوازع الخير ودواعي الشر؛ يقول
الله تعالى: [وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا *
وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا] (الشمس: ٧-١٠) ، ويتم تفاعل النفس الإنسانية مع
عناصر الابتلاء في الحياة من خلال ما ركّب في النفس من دوافع وغرائز فطرية
تتأثر بما ركّب في الحياة من عناصر الابتلاء بحيث يمثل عنصر الابتلاء
«مثيراً» ، ويمثل السلوك الذي يصدر عن الإنسان في مواجهة عنصر الابتلاء
«استجابة» .
ومن أمثلة عناصر الابتلاء في الحياة ما زيّنت به من مال وبنين وأزواج
ومنازل ومراكب وغبرها؛ يقول الله تعالى: [المَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً] (الكهف: ٤٦) . وقد ركّب
الله في النفس الإنسانية القابلية لإدراك جانب الزينة (الجمال) في هذه العناصر
والقابلية للانجذاب إليها والسعي لتحصيلها؛ وذلك ليتحقق بها الابتلاء، ولو لم
تفطر النفس الإنسانية على ذلك لما كان ثمة فرق بين رؤية الفتاة الجميلة اللعوب
الطروب وبين رؤية القرد أو الحجارة مثلاً. يقول الله تعالى: [زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ
الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ المُسَوَّمَةِ
وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ المَآبِ] (آل عمران:
١٤) ، وجاء الشرع لينظم للإنسان منهج التعامل مع عناصر الابتلاء متضمناً
الاعتراف بالدافع الفطري وتنظيم إشباعه ببيان ما يحل وما يحرم، وتوجيه الإشباع
بربطه بغاية وجود الإنسان (عبادة الله) ، وترتيب الجزاء على سلوك الفرد في
مواجهة الابتلاء بناء على مدى قرب ذلك السلوك أو بعده من أن يكون مظهراً
لتحقيق تلك الغاية. وقد أورد الله في كتابه الكريم نماذج كثيرة لمواقف ابتلاء
اختلفت استجابات الذين مروا بها باختلاف نظرتهم إلى الحياة ومدى ارتباط
مناشطهم فيها بغاية وجودهم، ولا يتسع المقام هنا لذكر أمثلة لهذه المواقف.
الأسس المعرفية:
بالنظر إلى أن المعرفة تشكّل جانباً مهماً من محتوى المنهج فإن بناء المنهج أو
تطويره يتأثر بالموقف الذي يُنطلق منه فيما يتعلق بالمعرفة من حيث غايتها
وطبيعتها وموضوعها ومصادرها وحدودها وعلاقتها بالمنهج وإحلالها فيه ووضع
المعرفة في عصر الانفجار المعرفي ووحدات المعرفة ومستوياتها في المنهج.
إن من أهم ما يميز «المعرفة» في المنظور الإسلامي مصادرها؛ ففي حين
تنحصر المصادر الرئيسة للمعرفة في كثير من الفلسفات في مصدرين رئيسين هما:
الحس والعقل، نجد أن المنظور الإسلامي للمعرفة يتفق مع تلك الفلسفات على
اعتبار كل من الحس والعقل مصدراً رئيساً من مصادر المعرفة، لكنه يضيف إليهما
مصدراً ثالثاً أكثر أهمية وهو (الوحي) المتمثل في القرآن الكريم كلام الله والسنة
النبوية الصحيحة، والوحي يستقل بمصدريته للمعرفة في مجال الغيبيات، ويشترك
مع كل واحد من المصدرين الآخرَيْن في مجاله ويهيمن عليه فيه. وما جاء عن
طريق الوحي مما ينتمي في موضوعه إلى أي من المجالين فهو ضابط للمعرفة في
ذلك المجال.
والمعرفة في الإسلام لا تنفصل عن التصور الإسلامي للكون والوجود والحياة
والإنسان، وإنما تستند إليه وترتكز عليه، ومن ثم فهي مبنية على مسلَّمات عقديه
من أهمها:
- أن الله خالق كل شيء وإرادته ماضية في خلقه، وأنه ذو العلم المطلق،
وأن القرآن الكريم كلام الله، وأن محمداً رسول الله، وأنه لا ينطق عن الهوى،
وأن قوانين السببية جزء من النواميس الكونية التي سنها الله لتستقيم بها حياة
الإنسان، وهي جزء من إرادة الله وتقديره وليست حداً لها؛ يقول تعالى: [إِنَّمَا
أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ] (يس: ٨٢) .
كما يمتاز المنظور الإسلامي للمعرفة بتفسيره لغاية المعرفة؛ إذ إن غاية
المعرفة في التصور الإسلامي معرفة الله، ومعرفة حق الله، ومعرفة كيفية أداء ذلك
الحق وأداؤه فعلاً؛ ويتضح هذا عند التأمل في سياق ذكر الحقائق الكونية أو النفسية
أو التاريخية أو غيرها في القرآن الكريم. إن تلك الحقائق لا ترد في القرآن لمجرد
العلم والمعرفة، وإنما ترد في سياق التعريف بالله وبحق الله. انظر مثلاً في مثل
هذه الآيات المتضمنة لحقائق كونيه غايتها التعريف بالله وبحق الله: [وَآيَةٌ لَّهُمُ
الأَرْضُ المَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَباًّ فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن
نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ العُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلاَ
يَشْكُرُونَ * سبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ
يَعْلَمُونَ * وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي
لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ
القَدِيمِ * لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ
يَسْبَحُونَ] (يس: ٣٣-٤٠) .
وانظر مثلاً في مثل هذه الآيات المتضمنة لحقائق تاريخية وردت في سياق
التعريف بالله وبحق الله: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ
جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً * إِذْ
جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ
وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً * وَإِذْ يَقُولُ
المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً * وَإِذْ قَالَت
طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ
بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ
سُئِلُوا الفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيراً * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ
يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً * قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ المَوْتِ أَوِ
القَتْلِ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً * قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً
أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِياًّ وَلاَ نَصِيراً]
(الأحزاب: ٩- ١٧) .
ثم إن معرفة الله ومعرفة حقه ومعرفة كيفية أداء ذلك الحق لا تكفي وحدها،
بل لا بد من أداء حق الله فعلاً؛ ولذلك عاب الله على الذين يعلمون ولا يعملون؛
فقال تعالى: [مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً
بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ] (الجمعة:
٥) كما بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من أوائل من تسعّر بهم النار يوم
القيامة: « ... ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتى به فعرفه نعمه، قال:
فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيهكِ القرآن، قال: كذبتَ،
ولكنك تعلمتَ العلم ليقال عالم، وقرأتَ القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل. ثم أمربه
فسحب على وجهه حتى ألقي في النار» [١] .
ولا يُفهم من قولنا إن غاية المعرفة في التصور الإسلامي هي معرفة الله
ومعرفة حق الله ومعرفة كيفية أداء ذلك الحق وأداؤه فعلاً أن هذا يقتضي قصرها
على ما يسمى بالمعرفة الدينية أو على علوم الشريعة، بل هي أعم من ذلك وأشمل؛
وذلك بالنظر إلى أن عمارة الأرض وفق منهج الله داخلة في عموم حق الله،
وعمارة الأرض هذه تتطلب العلم بكل الميادين المشروعة سواء ما كان منها
موضوعه الشريعة أو ما كان منها موضوعه الطبيعة؛ ولذا فإن المنظور الإسلامي
للمعرفة تتكامل فيه علوم الشريعة وعلوم الطبيعة على أساس أن الوجود الموضوعي
للأشياء والأحياء خلق لله والقرآن الكريم كلام الله، ومحمد صلى الله عليه وسلم
مبلّغ عن الله، وكل خبر من الله عن خلقه جاء في كتابه أو على لسان نبيه صلى
الله عليه وسلم لا يمكن أن يخالف حقيقة المخلوق، هذا من جانب، ومن جانب آخر
فإن العلم بسنن الله في الأنفس والآفاق وحياة الأمم والمجتمعات يزيد في معرفة
الإنسان لله، كما يزيد في قدرة الإنسان على الاستفادة من التسخير ومن ثم عمارة
الأرض وفق منهج الله.
الأسس الاجتماعية:
بالنظر إلى كون المدرسة مؤسسة اجتماعية وتتولى تربية أفراد ينتمون إلى
مجتمع يرتبط مستقبله بمستقبلهم، ويتطلع إليهم من حيث هم حملة هويته وعدّته في
مواجهة التحديات المحيطة به وحل مشكلاته، كانت الأسس الاجتماعية من أهم
الأسس التي يبنى عليها المنهج.
ويقصد بالأسس الاجتماعية المقومات والقضايا ذات العلاقة بالمجتمع الذي
يعيش فيه الطلاب التي يجب على مخططي المنهج أو مطوريه أن يأخذوها
بالحسبان.
وفي هذا الإطار لا بد أن يراعى في بناء المنهج ما يلي:
- ثقافة المجتمع: لكل مجتمع ثقافته التي يتميز بها عن غيره، ومن
خصائص الثقافة أنها متجددة، وتختلف المجتمعات في درجات الثبات والتغير في
ثقافاتها، وثقافة المجتمع المسلم شأنها شأن غيرها من الثقافات فيها عناصر ثابتة
وعناصر متغيرة، والعناصر الثابتة هي القيم والمقومات التي تشكل هوية المجتمع،
ومن ثم تضطلع المدرسة بالتكامل مع مؤسسات اجتماعية أخرى بوظيفة الحفاظ
على ثقافة المجتمع ونقلها إلى الأجيال الجديدة، ويتم ذلك من خلال المنهج الدراسي
حيث يجب أن يعنى بتأصيلها أي بربطها بأصولها التي تنامت منها، وبتسهيلها
وتيسيرها حتى يفهم الطالب عناصرها ويتشربها وينصبغ بصبغتها ويعتز بحمله لها
وانتمائه إليها.
أما المتغيرات فهي تلك العناصر ذات العلاقة بمظاهر الحياة التي تتشكل بالقيم
والمقومات؛ فهي أشكال تدور حول القيم والمقومات وتنضبط بها. وتسهم عوامل
كثيرة في حركة هذه المتغيرات كالاحتكاك الثقافي والتقدم العلمي وغيرهما.
وفي إطار مهمة المدرسة في الحفاظ على ثقافة المجتمع وتجديدها يجب أن
يعنى المنهج بهذه المتغيرات؛ وذلك بتقويمها على أساس من الثوابت؛ وأي متغير
يحقق مصلحة ولا يعود على ثابت بضرر فإنه يمكن للمنهج أن يسهل اندماجه في
ثقافة المجتمع. وعلى العكس فإن المتغيرات التي لا تحقق مصلحة أو تعود على
الثوابت بالضرر يتوقع من المنهج أن يبصّر الطلاب بجوانب عوارها، وأن يكسب
الطلاب المعايير، وينمي لديهم القدرات ومهارات التفكير التي بها يستطيعون أن
يواصلوا مهمة التقويم بأنفسهم في ميادين الحياة الاجتماعية الواسعة.
ولبناء المنهج على ثقافة المجتمع وعنايته بها سواء في تأصيل ثوابتها أو
تقويم متغيراتها أهمية كبيرة في تنمية الشعور بالانتماء الاجتماعي والثقافي عند
الطلاب، والاعتزاز بالهوية، ومن ثم تنمية الشعور بالمسؤولية الاجتماعية عند
الطالب، كما أن لعناية المنهج بتأصيل الثوابت الثقافية وإكساب الطالب معايير
التقويم الثقافي أهمية كبيرة في تحقيق التجانس الاجتماعي الذي يعدّ شرطاً للأمن
الداخلي للمجتمع؛ إذ إن هناك علاقة طردية بين التجانس الاجتماعي والأمن
الداخلي للمجتمع.
- التحديات الثقافية والحضارية: تواجه المجتمعات المسلمة في هذا العصر
تحديات حضارية وثقافية كثيرة، ومن أكثرها أهمية التحديات ذات العلاقة بالعولمة
وأدواتها الاقتصادية والسياسية والإعلامية والمعلوماتية، وحينما تراعى الأسس
الاجتماعية في بناء المنهج أو تطويره فإن الطالب يُعدّ ليكون جزءاً من مشروع
الأمة لمواجهة هذه التحديات.
- المشكلات الاجتماعية: لا يكاد يخلو مجتمع من المجتمعات من وجود
مشكلات اجتماعية يعاني منها، وتختلف هذه المشكلات من مجتمع إلى آخر،
والمجتمعات الإسلامية ليست استثناء وإنما لديها مشكلاتها التي يتوقع من المنهج أن
يسهم في تربية أبنائها ليكونوا جزءاً من حلولها. وتعاني كثير من المجتمعات
الإسلامية من مشكلات مثل ارتفاع معدلات البطالة ومعدلات الطلاق ومعدلات
حوادث المرور، وتفشي المخدرات وانخفاض معدلات الإنتاج وغيرها؛ وبناء
المنهج على الأسس الاجتماعية يقتضي أخذ مشكلات المجتمع بالحسبان.
ونختم حديثنا حول الأسس الاجتماعية للمنهج وأهمية أخذها بالحسبان عند بناء
المنهج أو تطويره بالتأكيد على أن لكل مجتمع هويته التي تميزه عن غيره من
المجتمعات، كما أن لكل مجتمع ظروفه ومشكلاته وتطلعاته والتحديات التي تواجهه
وطريقته في المواجهة، وكل هذه الأمور تُعدّ من الخصوصيات الاجتماعية التي
ينفرد بها المجتمع عمّا سواه، ومن ثمّ تقتضي بناء مناهجه التعليمية والتربوية على
ما يعزز هويته ويُعدّ أبناءه وبناته ليكونوا عُدّته في بناء مستقبله على نحو يحقق
التوازن بين ثبات مقوماته وتغيّر أدواته، وأي إخلال بهذا التوازن أو تجاهل له
يُنتج مجتمعاً مأزوماً تتوالد مشكلاته حتى تقعد به ليس فقط عن أن يكون له موقع
صدارة بين الأمم وإنما عن أن يكون جديراً بأي احترام.
الأسس النفسية:
إن كل ما سبق أن ذكرناه في سياق حديثنا عن الأسس السابقة إنما ينبغي أن
يتجلى أثر العناية به في سلوك الطالب وفكره ووجدانه من حيث هو مُنتَجٌ للعملية
التعليمية والتربوية، وقد سبقت الإشارة في بداية المقالة إلى أن التربية عملية تغيير
ميدانها الإنسان، ومن ثم فإن تحقيق التغيير في الإنسان يتوقف على مدى فهم
المربين له وإدراكهم لمراحل نموه ومجالات ذلك النمو وسماته وخصائص كل
مرحلة نمائية، وإدراكهم لعملية التعلم ذاتها وكيف تتحقق، وإدراكهم لاحتياجات
المتعلمين ومشكلاتهم وسبل تحقيق ذواتهم، ونحو ذلك من المعلومات التي تمثل
معطيات يقدمها علم النفس للتربية وتشكل أسساً نفسية ينبغي لمعدي المنهج
ومطوريه أخذها بالحسبان عند تنظيم محتوى المنهج وبيئة التعلم وتصميم المواقف
التعليمية والتربوية سواء في الكتاب المدرسي وبقية المواد التعليمية أو في مكان
التعلم أو زمانه.
إن المعرفة المضمّنة في المنهج المدرسي ليست مقصودة بذاتها، وإنما
المقصود تنمية شخصية الطالب بها وبالسياق النفسي والاجتماعي الذي تقدّم من
خلاله، وبالخبرات التي يهيئها المنهج، وذلك كله ينبغي أن يتتوّج بتحقيق النمو
السليم للطالب في جميع مجالات النمو حسب طبيعة المرحلة النمائية التي يمر بها
الطالب وخصائصها.
إن كل ما سبق ينبغي توظيفه في إحكام حياكة المنهج على نحو يمكن أن
يتجسد مُخرَجُه في سمات الطالب من حيث انتماؤه إلى دينه واعتزازه بهوية مجتمعه
وتمكنه من مهارات التفكير بأنماطه المختلفة بما يتناسب مع سنه وميوله واستعداده،
وتمكنه من مهارات الاتصال الاجتماعي والثقافي وتمكنه من مهارات التعلم الذاتي،
وشعوره بالمسؤولية تجاه نفسه وأسرته ومجتمعه، وتقديره للعمل والإنتاج والتزامه
بقيمه وإدراكه لأهمية الوقت وحفاظه عليه وحسن استثماره له.
(*) عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، بالرياض، قسم التربية.