للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[البراجماتية]

محمد إبراهيم مبروك

عندما أراد (وليم جيمس) أهم فلاسفة البراجماتية عرض مذهبه ـ وإن كان هو نفسه رفض اعتباره مذهباً ـ في كتاب البراجماتية؛ فقد قدم له بهذا العنوان الجانبي: (اسم جديد لبعض الأساليب القديمة في التفكير) ، وما نراه هو أن هذا المذهب ـ كما سنثبت لاحقًا ـ هو عبارة عن تطوير جديد لمزاوجة فلسفية بين مذهبين تليدين هما: السوفسطائية، والأبيقورية. ولذا لزم الإشارة إلى أسس هذين المذهبين أولاً قبل تناول مذهب البراجماتية الذي نحن بصدده.

- السوفسطائية:

قد يكون المحور الأساسي الذي يقوم عليه تيار الفلسفة السوفسطائية هو تلك المقولة للفيلسوف اليوناني القديم (بروتاجوراس ٤٩٠ ـ ٤١٠) قبل الميلاد: «الإنسان هو مقياس كل شيء؛ فهو مقياس وجود ما يوجد من الأشياء ومقياس لا وجود ما لا يوجد منها» (١) ؛ فالعبارة تلخص نظرية السوفسطائيين في المعرفة؛ إذ يعتقدون أن الإنسان هو وحده معيار المعرفة فإن قال عن شيء إنه موجود فهو موجود، وإن قال إنه غير موجود فهو غير موجود؛ فالحواس أو الإدراك الحسي تحديدًا هو المعيار الذي يقيس به الفرد وجود الأشياء جميعاً، أو بحسب تحديد أفلاطون لهذه النظرية: «فإن كل إنسان فرد هو مقياس ما هو حقيقي بالنسبة له، وليست هناك حقيقة سوى إحساسات وانطباعات كل واحد منا؛ في ما يبدو حقيقياً بالنسبة لي فهو كذلك، وما يبدو صادقًا بالنسبة لك هو كذلك أيضًا» (٢) .

وهذا الإقرار بنسبية الحقيقة هو ما جعل (بروتاجوراس) يقول ببساطة ودون أن يتنصل من نتيجة فكرته الأساسية إن القضيتين المتناقضتين يجب أن تكون كلتاهما صادقتين. ثم تمضي هذه النسبية المعرفية على يد (جورجياس ٤٨٠ ـ ٣٧٥ ق. م) إلى عدم إمكانية المعرفة تماماً من خلال قضاياه الثلاثة: لا يوجد شيء ـ إذا وجد شيء فلا يمكن معرفته أو إدراكه ـ إذا أمكن معرفته أو إدراكه فإنه لا يمكن نقله إلى الغير.

ثم يأتي أحد تلامذة السوفسطائيين (جلوكون) فيقول: «إن أفعال العادل مماثلة لأفعال الظالم» (٣) ، وإن كل إنسان لا يفعل إلا ما فيه منفعته ومصلحته الشخصية حتى أولئك الذين يمارسون العدل يفعلون ذلك مكرهين؛ لأنهم عاجزين عن أن يقترفوا الظلم» (٤) .

أما موقفهم من الدين فقد عبر عنه (بروتاجوراس) بقوله: «لا أستطيع أن أعلم إذا كانت الآلهة موجودة أم غير موجودة ولا هيئتها ما هي؛ لأن أمورًا كثيرة تحول بيني وبين هذه المعرفة، منها غموض الموضوع، وقِصَر الحياة» (١) .

والنتيجة الطبيعية لكل ما سبق هو هؤلاء الفلاسفة السوفسطائيين بمهنة تعليم أبناء الطبقة الأرستقراطية من اليونانيين كيفية البرهنة على القول ونقيضه مقابل أجور مرتفعة كوَّنوا منها ثروات كبيرة.

- الأبيقورية:

كان لأبيقور (٣٤١ ـ ٢٧٠) ق. م تأثير رهيب على الجماهير، حتى إن أهل إحدى المدن قد جمعوا له مبلغًا كبيرًا من المال، اشتروا به بيتًا وحديقة في أثينا؛ ليتخذ من هذه الدار مدرسة ينشر من خلالها فكره في عاصمة الفلسفة في ذاك الحين، «وما من شك في أنه كان يرقب بكثير من الاهتمام حياة معاصره (ثيودورس القوريني) الذي كان يخطب في أثينا داعيًا إلى الخروج على الدين والأخلاق جهرة، وفي صراحة جعلت الجمعية توجه إليه تهمة الإلحاد، وكان درساً لم ينسه (أبيقور) قط.. وكان أصدقاؤه من الكثرة بحيث تضيق بهم مدن بأكملها» (٢) .

وكان (أبيقور) يدعو الناس إلى حياة اللذة السهلة وهو يقول: «لا يبطئن الشاب في التفلسف، ولا يكلَّن الشيخ من التفلسف؛ فإن كل سن ملائمة للعناية بالنفس» (٣) .

وقد بدأ (أبيقور) بتقرير المبدأ القائل: إن هدف الفلسفة هو أن يحرر الناس من الخوف، وخاصة من خوف الآلهة وهو يكره الدين؛ لأن الدين في رأيه يقوم على الجهل ويزيده، ويظلم الحياة بما يبثه في النفس من رهبة جواسيس السماء على حد تعبيره. وعندما رأى نفور اليونانيين من رأيه في كون الآلهة ليست هي التي أنشأت العالم، وليست هي التي ترشده وتسيره قال لهم: «فإن كان هذا لا يرضيكم فلتعزوا أنفسكم؛ بأن تفكروا في أن الآلهة بعيدة عنكم إلى درجة لا تستطيع معها أن تضركم أو تنفعكم» (٤) .

والإحساسات برأي (أبيقور) كلها صادقة على السواء، وغاية الحياة هي اللذة، ومتى تقرر أن اللذة غاية لزم أن الوسيلة إليها فضيلة، وأن العقل والعلم والحكمة تقوم في تدبير الوسائل وتوجيهها إلى الغاية المنشودة، وهي الحياة اللذيذة السعيدة؛ فليس من الحق وصف اللذة بأنها جميلة أو قبيحة شريفة أو خسيسة؛ فإن كل لذة خير، وكل وسيلة إلى اللذة خير كذلك. وبحسب (أبيقور) : «ليس في الفلسفة إلا قضيتان اثنتان مؤكدتان وهما: اللذة خير، والألم شر» (٥) .

- ما هي البراجماتية؟

لو أردنا توضيح نمطي التفكير الفلسفي الأساسيين في التاريخ الغربي فإننا نضع خصائصهما في عمودين متقابلين على طريقة الفيلسوف الأمريكي وليم جيمس (منظِّر البراجماتية الأبرز) عند تقديمه لأفكاره في كتابه (البراجماتية ـ ١٩٠٧) هكذا:

مثالي مادي

عقلي تجريبي

ديني لا ديني

وعلى الرغم من الخلاف بين المذهبين فإنهما قد اتفقا على أن هناك مرجعاً ما، أو أصلاً قائماً يمكن الرجوع إليه في معرفة مدى صحة فكرة مطروحة، أو رأي أو قول ما؛ هذا الأصل القائم هو أفكار قبلية في العقل عند العقليين، أو واقعة خارجية تدرك بالحواس عند التجريبيين.

ولأن المنازعات الفكرية بين الفريقين لا تنتهي؛ فلقد ادعى البراجماتيون أنهم يقدمون طريقة جديدة في التفكير لحسم هذه الخلافات؛ وهي التجريب العملي لأي فكرة من الأفكار؛ فالفكرة تكون صحيحة أو باطلة بحسب ما يمكن أن تحققه للإنسان من نفع في حياته العملية، لا لأنها صحيحة في ذاتها، أو لأنها مطابقة للواقع أو غير ذلك.

وأول من أدخل لفظ البراجماتية في الفلسفة هو الفيلسوف الأمريكي تشارلز بيرس (١٨٣٩ ـ ١٩١٤م) في مقال له بعنوان «كيف نجعل أفكارنا واضحة» حيث ذكر فيه أنه «لكي نبلغ الوضوح التام في أفكارنا من موضوع ما فإننا لا نحتاج إلا إلى اعتبار ما قد يترتب من آثار يمكن تصورها ذات طابع عملي، قد يتضمنها الشيء أو الموضوع» .

وعلى ذلك فإن بيرس يزعم «أن كل اصطلاح يكون حقًا إذا كان له مدلول، والمدلول له وجود حقيقي إذا كان ينتج بعض النتائج في هذه الدنيا التي نشاهدها، وإلا فلا معنى للاصطلاح ولا جود للمدلول أو الشيء» (٦) .

وذهب وليم جيمس (١٨٤٢ ـ ١٩١٠م) إلى أن المنفعة العملية هي المقياس لصحة هذا الشيء. وذهب الفيلسوف الأمريكي جون ديوي (١٨٥٩ـ ١٩٥٢م) إلى أن «العقل ليس أداة للمعرفة وإنما هو أداة لتطور الحياة وتنميتها؛ فليس من وظيفة العقل أن يعرف ... وإنما عمل العقل هو خدمة الحياة» (٧) .

أما الإنجليزي (فرديناند شيلر: ١٨٦٤ ـ ١٩٣٧م) فهو «يأخذ لنفسه تعبير بروتاجوراس المشهور: «الإنسان مقياس كل شيء» ويؤيد السوفسطائيين اليونان، ويدافع عنهم ضد المذهب العقلي لأفلاطون (١) .

وإذا كان هؤلاء هم فلاسفة البراجماتية الأساسيين فإننا سنركز بوجه خاص على (وليم جيمس) الذي شرحها شرحًا وافياً في كتابه «البراجماتية» الذي سنعتمد عليه في ذكر أفكاره.

- الاتجاه البراجماتي (٢) :

لا بد أن نذكر أولاً أن الفلسفة البراجماتية قد جاءت فلسفة أمريكية في الأساس؛ لأنها الفلسفة التي تتسق مع أسلوب الحياة الأمريكي نفسه؛ أي أنها جاءت لتعبر عما هو واقع بالفعل.

ويقول (ويلسون آلن) في ذلك في كتابه (الثقافة الأمريكية) : «إذا كانت النظرة البراجماتية للحياة سائدة ومبتغاة في الولايات المتحدة بأسلوب أكثر انتشارًا وأكثر صدقًا منه في أي مكان آخر في العالم الغربي؛ فقد كان لها السيطرة الحازمة على أغلبية الأمريكيين لمدة طويلة قبل أن يحاول أحد وصفها بأسلوب الفكر المجرد. وربما كانت الخاصية الطبيعية لهذه النظرة السبب في منع مناقشتها نظرياً، لكن بمجرد أن بدأ هذا فإنه لم يتوقف، وأدى إلى عدد من أكثر الاتجاهات الحاسمة تأثيرًا في الفكر الحديث» .

يقول (وليم جيمس) عن الاتجاه البراجماتي: «إنه اتجاه تحويل النظر بعيداً عن الأشياء الأولية، المبادئ والنواميس والفئات، الحتميات المسلَّم بها، وتوجيه النظر نحو الأشياء الأخيرة: الثمرات، النتائج، الأثار، الوقائع الحقائق» .

و «البراجماتية» ليس لها أية عقائد يقينية أو جزمية أو أية مذاهب أو مبادئ، اللهم إلا طريقتها؛ فنحن علينا أن نضع «كل المفاهيم المطروحة على بساط البحث على المحكك البراجماتي، وسنفوز عند ذلك بالنجاة من الجدل الباطل العقيم، فإذا لم يكن ثمة فرق عملي بين قولين بالقياس إلى صحة هذا أو ذاك؛ إذن فالاثنان حقًا عبارة واحدة في شكلين كلاميين، وإذا لم يكن ثم فرق عملي يحدث سواء كانت عبارة معينة صحيحة أو باطلة؛ إذن فالعبارة ليس لها معنى حقيقي، وفي كلتا الحالتين فليس هناك شيء يستحق أن نتنازع من أجله، وأوْلى بنا أن نوفر جهدنا، ونمضي إلى أمور أكثر جدوى وأهمية» .

إن الحقيقي في أوجز عبارة لدى وليم جيمس «ليس سوى النافع المطلوب في سبيل تفكيرنا تمامًا، كما أن الصواب ليس سوى الموافق النافع المطلوب في سبيل مسلكنا» .

و «البراجماتية» لا تمثل ولا تناصر أي نتائج معينة من طريقتها، كما أن حيازة الحقيقة عندها بعيدة كل البعد عن أن تكون غاية في ذاتها؛ فهي لا تزيد عن كونها مجرد وسيلة أو أداة أولية لبلوغ الإشباع والرضا والسرور، والحق يفضل على الباطل عندما يرتبط كلاهما بالموقف ـ أي البحث عن أيهما أنفع ـ أما إذا لم يرتبط بذلك فإن الحق يتساوى مع الباطل؛ ولأن الحقيقة ترتبط بالنتائج البراجماتية فهي نفسها في حالة تغير وتبدل وانتقال.

- ولا بد لنا الآن أن نتساءل:

إنه حتى لو كانت المنفعة هي الهدف الوحيد فكيف يمكننا بغير الحق أن ندرك ما هي هذه المنفعة، ولكن جيمس يقلب الأمور رأساً على عقب؛ فهو لا يبحث عن الحق كهدف أو غاية؛ لأن غاية جيمس هي التوافق مع الحالة الشعورية القائمة بالفعل، وهذا هو النفع المطلوب براجماتياً، وكل ما يؤدي إلى هذا التوافق وهذا النفع يكون حقاً. وما دامت الحالات الشعورية في تبدل مستمر، وما دامت المنافع تتبدل وتتغير بتغير الظروف والأحوال فلا بد أن يكون الحق في حالة تغير وتبدل وانتقال كما يقول؛ فالحق ليس قائداً يقود وإنما هو تابع يتبع.

إن خلاصة الموقف في هذه الفلسفة هو اتخاذ المنافع الأبيقورية غاية يتم تسويغها بوسائل سوفسطائية، وهكذا تمت المزاوجة بين المذهبين القديمين في تطوير جديد تعبر عنه هذه الفلسفة.

ووليم جيمس يعي جيدًا مدى ضعف نظريته منطقيّاً، وأنه لا يقدم أي مفهوم حقيقي للحق أو حتى راجح الصحة، وهو كذلك لا يطالبنا بأن نعتقد ذلك.

إنما هو يقول لنا: إنه ما دامت كل الوسائل المعرفية التي لديكم تم هدمها ـ وهذا الكلام موجه إلى الفكر الغربي تحديداً ـ فينبغي لكم أن تأخذوا كلامي ولو على سبيل الظن، أو الفرض، أو حتى الاحتمال؛ فالأنماط المتعددة من التفكير كما يقول جيمس: «كلها متعارضة، وليس فيها واحد على سبيل الحصر يستطيع أن يقيم الحجة على دعوى الصحة المطلقة، أفلا ينبغي أن يثير ذلك احتمالاً أو فرضًا أو ظنًا أو حَدْسًا مناصرًا لوجهة النظر البراجماتية؟ وما دامت هذه الأنماط المتعددة من التفكير غير صحيحة، ولكنها خدمت أغراضًا معينة لكم فلماذا لا يثير ذلك ولو حتى احتمالاً مناصرًا لمقولتنا: إن الحقائق ينبغي أن تكون هي الوسائل التي نستطيع بها أن نصل إلى ما نريد؟» .

أي أن الرجل يبدأ بموقف عبثي من الكون، ثم ينتهي بنا إلى موقف عبثي، ثم يقول لنا: إنه ما دام الأمر كذلك فبدلاً من اليأس والمرارة والسأم على كل منا أن ينتفع بما يريح نفسه، ويجد فيه اللذة ولو بشكل مؤقت ومتغير، وعليه لكي يستريح تمامًا أن يعتقد أن ذلك الذي يفعله هو الحقيقة. وبهذا تكون خلاصة المذهب هي: «البحث عن تسويغ المنافع كما يراها أصحابها في عالم يخلو من الحقيقة، وقد أرهقه البحث عنها» .

ويشاع بين بعض الناس أن «البراجماتية» تمثل تسويغاً فلسفيّاً لمبدأ الغاية تسوغ الوسيلة، وهذا اعتقاد ساذج؛ لأن «البراجماتية» أبعد شراً من ذلك؛ فهذا المبدأ يعني أن الوسيلة القذرة قد تسوغها الغاية الشريفة، لكن «البراجماتية» لا يهمها الغايات الشريفة في شيء وإنما المهم لديها هو أن تكون الوسائل قادرة على تحقيق الغايات، كما أن «البراجماتية» لا تمارس ذلك على أنه عمل لا أخلاقي أو حتى مكيافيللي تسوغه الضرورة، ولكن على أن ذلك هو الحق والحقيقة، وما غيره لا شيء البتة، وسندها الوحيد في ذلك هو ما يدرُّه هذا السلوك من نفع على صاحبه.

- الدين البراجماتي وإرادة الاعتقاد:

يذهب (وليم جيمس) إلى أن هناك أفكاراً ليس في استطاعتنا أن نحكم عليها بأنها صحيحة أو كاذبة؛ لأن المعرفة العلمية الصحيحة مستحيلة تماماً في دائرتها؛ فماذا يكون موقفنا إذن من هذه الأفكار؟ هل ينبغي علينا أن نتوقف عن الحكم عليها، أم يحسن بنا أن نفترض عدة فروض من أجل تفسيرها؟

لقد فكر (وليم جيمس) كما جاء في كتابه «البراجماتية» ما يلي: «الواقع أننا لا نستطيع أن نحيا أو نفكر دون قدر من الإيمان أو الاعتقاد، وليس الاعتقاد ـ من وجهة نظره ـ إلا فرضاً ناجحاً؛ فلماذا لا نلتجئ إلى إرادة الاعتقاد؛ حيث يعسر الوصول بداهة على حقيقة يقينية؟ ألا يحدث أن يكون الاعتقاد نفسه عاملاً فعالاً من عوامل تحقق ما نؤمن به أو ما نعتقده؟

إننا بدلاً من أن نتساءل عما يسيِّر الأشياء: هل هي المادة أو الله؟ يجب أن يكون تساؤلنا هو التالي: ما هو الفرق العملي الذي يمكن أن يحدث الآن إذا قدر للعالم أن تسير دفته بواسطة المادة أو بواسطة الله؟

بالنسبة لماضي العالم فليس ثمة فرق سواء اعتبرناه من عمل المادة أم حسبنا أن روحاً قدساً هو خالقه ومنشؤه. أما بالنسبة للمستقبل فإن المادة لا تبشر بشيء من النجاح الذي نسعى إليه، بل تبشر بالتحطيم النهائي المطلق للكون وتحوله إلى مأساة في نهاية المطاف؛ لذلك يجب أن يكون اعتراضنا الحقيقي على المادة ـ في زعمه ـ هو قنوط نتائجها العملية.

هذا في حين أن فكرة الله مهما تكن أقل وضوحاً من تلك الأفكار الحسابية التي أصبحت سارية رائجة في الفلسفة المكانيكية فإن لها على الأقل الميزة العملية المتفوقة عليها من حيث نتائجها العملية التي تمنح الأمل في المستقبل.

والمنافع التي يريدها (جيمس) من الدين هي: الراحة والهدوء، والسكينة والطمأنينة، والسلام والاغتباط والمشاعر المتدفقة التي تلهب الصدور، وتبعث الحركة في الحياة ولكن دون أية التزامات.

أي أن جيمس يريد من الدين أن يكون مجرد مسكِّن أو مخدر يستطيع الإنسان باعتياده إياه أن يواصل حياته بقوة وحماس أكبر؛ ولهذا فإنه لم يهتم كثيراً بالتفرقة بين كون الخالق هو الله ـ جلا شأنه ـ أو المادة، أو البحث عن كون الله موجوداً أو غير موجود، أو على فرض وجوده هو واحد أو ثلاثة، أو أكثر بل على كل إنسان أن يحدد صفات الإله الذي من الممكن أن يفيده الاعتقاد به. أي أنه لا يؤمن بإله خالق، بل هو يخلق من عند نفسه إلهاً محدد الصفات يعمل على خدمة وإرضاء من يؤمن به، وذلك على أساس قوله: «في مقدورنا أن نتمتع بإلهنا إذا كان لدينا إله» .

لقد استعاض (جيمس) بالاعتقاد في إله من خلقه عن الله نفسه، واعتقد أن ذلك سيحقق له المنافع التي يبغيها؛ فهل من الممكن أن يتحقق شيء من ذلك.

إن هذه المنافع وغيرها لا يمكن أن تتحقق إلا بشرط واحد هو أن يكون الإنسان مقتنعاً بوجود الله بالفعل، أما إذا لم يكن مقتنعاً بذلك فإنه من المستحيل أن يجد هذا العون من إله هو الذي خلقه، أو حتى اعتقد في وجوده من أجل إيجاد هذا العون؛ لأن ذلك أشبه ما يكون برجل يدرب نفسه على الاعتقاد بأنه غني، ثم يحاول أن يستمد من هذا الغنى الوهمي المال الذي يبتغيه.

- الإسلام البراجماتي:

والإسلام البراجماتي يعني بإيجاز شديد: التعامل بهذا المنظور النفعي مع الإسلام؛ أي استغلال الإسلام للمنفعة كما يراها البراجماتيون، دون التقيد بإطاراته أو شروطه أو تعاليمه، هذا بالإضافة إلى التوفيق أو بقول أكثر دقة: التلفيق المستمر بين مفاهيم البراجماتية الدينية التي تتعامل مع الدين بوجه عام على أنه مخدّر ذو مفعول متجدد دائماً، وعلى أنه وسيلة سياسية لتطويع الشعوب لإدارة الطغاة وبين بعض المظاهر والشكليات الإسلامية التي يمكن استغلالها لصالح تلك المفاهيم، وكلٌ له شرعيته ومنهاجه في أشكال هذا الاستغلال بحسب المصالح التي يبتغيها. (١) نقلاً عن د. مصطفى النشار ـ تاريخ الفلسفة اليونانية: ص ٤٦.


(٢) نقلاً عن المرجع السابق: ص ٤٧: ٤٨.
(٣) نقلاً عن المرجع السابق: ص ٥٩.
(٤) نقلاً عن المرجع السابق: ص ٥٠.
(١) نقلاً عن المرجع السابق: ص ٥٩.
(٢) ول ديورانت ـ قصة الحضارة: مج ٤ ج ٢ ص ١٦٧، ١٦٨.
(٣) يوسف كرم ـ تاريخ الفلسفة اليونانية: ص ١٢٥.
(٤) ول ديورانت ـ المرجع السابق: ص ١٦٨.
(٥) المرجع السابق: ص ٢٧١.
(٦) يعقوب فام والبراجماتية مذهب عملي: ص ١٤٠.
(٧) المرجع السابق: ص ١٤٧.
(١) أ. م بوشنسكي ـ الفلسفة المعاصرة في أوروبا: ص ١٩٧.
(٢) يراجع في الموضوع بوجه عام كاتب المقال: الإسلام النفعي (البراجماتي) .