للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[جيل الصحوة بين الهزيمة والانطلاق]

(٢ - ٢)

التحرير

- ضيوف الندوة:

- فضيلة الأستاذ الدكتور ناصر بن سليمان العمر: المشرف على موقع المسلم على الشبكة العالمية.

- فضيلة الأستاذ الدكتور عبد الرحمن بن زيد الزنيدي: الأستاذ بكلية الشريعة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.

- فضيلة الدكتور عبد الله الصبيح: الأستاذ بكلية العلوم الاجتماعية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.

في العدد الماضي دارت الأسئلة والأجوبة حول: هل نحن أمام هزيمة نفسية في جيل الصحوة، وهل هي موجودة في أوساط العامة؟ وقد بين المشاركون أن الصحوة من حيث العموم لا تشهد هزيمة وإنما هناك ارتباك فكري أدى إلى بعض الظواهر التي قد تفسر عند بعضهم بالهزيمة، وتفسر عند آخرين بالارتباك الفكري. وتطرقت الندوة إلى أمور عدة منها الأطروحات العصرانية. - البيان -

البيان: نعود لقضية تطويع النص على اعتبار أنها من الممارسات التي بدأت تظهر بشكل أوسع، ومن نتائجها محاولة التأقلم مع المتغيرات الحضارية والمتغيرات الثقافية والتأثر بطوفان العولمة؛ فهل أصبحت قضية تطويع النص ظاهرة؟ وهل تمثل هذه القضية مشكلة في واقع الصحوة أم أنها مجرد ممارسات فردية يمكن تجاوزها بيسر وسهولة؟ مثلاً أصبح الآن عدد من المفكرين والمثقفين يحاول أن يبحث عن اجتهادات فقهية سابقة، ويحاول أن يعيد الحياة إليها من جديد؛ ليس لأن الدليل الشرعي يقويها، وليس لأن المصلحة الشرعية تقتضيها، ولكن لأن الواقع السياسي أو الواقع الثقافي والاجتماعي ربما يتجاوب معها؛ فبدأت تظهر بعض الاجتهادات الفقهية التي قد يعدها بعضهم جزءاً من الهزيمة.

- د. عبد الرحمن الزنيدي: حتى يكون في الأمور شيء من الوضوح أريد أن أبين أن حديثي هنا يتناول تيارين مختلفين:

١ - تيار تحريف النصوص.

٢ - تيار منهج التيسير أو ما يسمى الآن: منهج أصحاب التيسير؛ وهما خطان مختلفان.

بالنسبة لمنهج تحريف النصوص؛ فهذا لا يوجد في دائرة الصحوة، بل هو خارج دائرة الصحوة، وهذا له مقتضى ظرفي؛ فهو ما ظهر إلا لبروز الصحوة. ومشكلة أعداء الإسلام قديماً وحديثاً هي قضية قدسية النص القرآني لديهم؛ هذه هي أعمق مشكلة لدى أعداء الإسلام قديماً وحديثاً، وقد صرحوا بهذا كما تعلمون في فرنسا؛ حيث حاول المستشرقون جهدهم عبر قرون أن يسقطوا قدسية النص، واستبشروا حينما رأوا الالتزام بالقوانين الوضعية بعد دخول الاستعمار، إلا أن المشكلة التي فاجأتهم هي عودة الصحوة الإسلامية لتجعل شعارها العودة إلى القرآن والسنة، يعني أن الأمر انعكس عليهم، وكما يقولون: انقلب السحر على الساحر، وهنا أصبحت الصحوة الإسلامية مزعجة لهم، وقامت دراسات ومراكز دراسات متخصصة في الغرب، وعقدت مؤتمرات في الغرب لدراسة واقع الصحوة وفكرها.

ومن هنا برزت جهود متعددة منها الجهد المتمثل بدراسات مفكرين عرب والذي يمكن تسميته بالاستشراق العربي، وهو قيام أناس بالتعامل مع النصوص الشرعية، وهم في الأصل غير إسلاميين، وقد يكون أصلاً بعضهم غير مسلمين بالمعنى الفكري، يعني أنهم يتبنون الماركسية المخالفة للإسلام تماماً، لكنهم جاؤوا ليدرسوا النص الشرعي، وليقدموا للمسلمين صورة منه تنتهي بهم في مجملها بنظرة استشراقية، والمقصود بالنهاية هو هدم قدسية هذا النص، وقد ذكرت النماذج من خلال الأسماء مثل: (حامد نصر أبو زيد) ، وكل كتبه تتعلق بهذه القضية، ومثله (الدكتور محمد شحرور) في كتابه (القرآن والكتاب.. قراءة معاصرة) ، ومثله (محمد أركون) الذي يقرأ القرآن من خلال المنهج الألسني.

البيان: لا شك أن هذا الكلام مهم جداً، لكنه استطراد في محور آخر، وكلامنا هنا عن تطويع النصوص في دائرة الصحوة، وهؤلاء ليسوا من أوساط الصحوة؟

- د. عبد الرحمن الزنيدي: هذا الذي ذكرته موجود خارج دائرة الصحوة، وكما قلت هم لا يعدون أنفسهم من الصحوة، بل يعدون أنفسهم من أعدائها، والصحوة لا تعدهم منها، ولا غيرهم أيضاً من المحايدين يعدهم من الصحوة.

أما المسار الثاني فهو مسار ما يسمى (منهج التيسير) ، وهو الذي ذكر فضيلتكم أنه ظهر نتيجة تفاعلهم مع الواقع المعاصر. ربما يقول بعض الناقدين إنه نتيجة ضغط الواقع عليهم، ويمكن أن نعبر تعبيراً آخر فنقول: نتيجة تفاعلهم المباشر مع الواقع. والحقيقة أن الواقع له ضغطه بلا شك، ونتيجة لهذا حاولوا أن يبحثوا فيما يعتبرونه هم الدائرة الإسلامية التي تشمل النصوص المباشرة وقطعيتها.

ثم في مجال الاجتهادات فإن هذه الاجتهادات الموجودة منها اجتهادات راجحة، واجتهادات مرجوحة. المذاهب المشهورة عندنا أربعة؛ لكن هناك اجتهادات خارج هذه المذاهب، فيقولون: لماذا لا نأخذ بها؟ عندهم عدة مناهج في قضية منهج التيسير أو بناء أحكام جديدة غير ما توافَق عليه المسلمون في عصور سابقة، وإن كانت هي موجودة ولكنها مطمورة في هذا. حقيقة أنا لا أُدخل هذا فيما يسمى بـ (الهزيمة النفسية) ، أنا أُدخله في (قضية التفاعل مع الواقع) الذي كان لهذا الواقع فيه ضغط عليه، وأن هذا وضع طبيعي. أقول: إن هذا وضع طبيعي لمن يلابس الواقع، ولا بد لمن يلابس الواقع ألا يبقى في دائرة صورة مثالية؛ فما كان نظرياً مثالياً يتغير في دائرة التطبيق؛ فالتطبيق يستلزم مرونة في التدرج ومراعاة الظروف وما تعم به البلوى ... إلخ. أنا باستطاعتي أن أجمع مجموعة من الكتب في التربية فأصوغ خطبة عن تربية الأولاد التي تخرج الملائكة، وأخطب في الناس، ويتخيلون أنني ملاك، لكن أنا إذا ذهبت إلى بيتي أجد أنني لا أستطيع أن أطبق لا نصف ولا ربع ما أتحدث به إليهم أحياناً؛ فالأمر النظري شيء، والأمر التطبيقي الواقعي شيء آخر. أمامك وضعيات، أمامك نفسيات، أمامك بشر له اهتماماته ومصالحه وأعرافه وعلاقاته.

البيان: لكن ألا تلاحظ أنه حصل في هذا الاجتهاد نوع من الارتباك؛ بمعنى أن الفقهاء تفاوتوا في هذه القضية، فتوسع أقوام وانضبط أقوام آخرون؛ وبعض الذين توسعوا كانت توسعاتهم غير مرضية وغير متزنة؟

- د. عبد الرحمن الزنيدي: القضية نسبية؛ لأن كل واحد يحكم من موقعه، ويرى أن دائرته منضبطة، وما تجاوزه هو نوع من الارتباك. أما الارتباك فهو سيحدث حتماً. المسلم العالم الداعية حينما يعالج هذه القضية، ويتنزل فيها تجاوباً مع الواقع سيشعر بحرج، ليس فقط حرجاً نفسياً، بل أيضاً حرجاً فكرياً، يعني هو يشعر بأنه مسؤول أمام الله في فتواه إن أفتى بها، ومسؤول أمام الله إن نأى بنفسه عنها.

- د. ناصر العمر: أما جانب تحريف النصوص فإنه بيّن، لكن ما يسمى بالتيسير أرى أنه يجب أن نفرق بين أمرين: ما ندعو إليه الناس وبين تطبيقات الناس، وقد نجد للناس مخارج أو حلولاً بعدما يقع منهم الفعل، الخطورة في أن يتابع واقع الناس المتردي، وذلك بسبب ضغط الواقع على المفتين وعلى الناس.

والإشكال هو أن يتحول الاستثناء إلى منهج، أو أن تتحول الرخص في الشريعة إلى منهج، ويبدو لي أن هذا هو الذي وقع فيه بعض الفقهاء. يقابل هذا المنهج جانب متشدد فتراه يتعامل بمثالية، وكِلا هذين المنهجين خطأ. والخلاصة أن نكيِّف الواقع مع الإسلام، ولا نكيف الإسلام مع واقعهم.

- د. عبد الله الصبيح: في قضية تطويع النص للواقع كما قلت بعضهم يسميه نوعاً من الاجتهاد، وقد يكون كذلك، وقد يسميه الطرف الآخر تطويعاً للنص؛ فالقضية موضع إشكال وتباين في وجهات النظر، وهذا الأمر له أسباب في واقعنا المعاصر، ومنها:

١ - انتشار الفتوى وشيوعها بسبب الفضائيات؛ فالفتوى الآن لم تعد خاصة بالمجتمع الذي تصدر له فلا يطَّلع عليها غيره؛ والأصل في الفتوى أن تكون خاصة بمن صدرت له، ولكن الفضائيات نشرتها وأصبحت الفتوى التي يفتي بها الفقيه لشخص يعيش قضية خاصة في فرنسا يسمعها الشخص في السعودية وفي اليمن وفي غيرهما من بلاد المسلمين، وهذا يجعل الشخص المستفتي ربما يعترض على مفتيه في بلده الذي يعرف ظروفه ويقدر وضعه، ويبحث عن فتوى أخرى ربما يظنها أيسر أو ربما يظنها أتقى لله عز وجل.

٢ - أن بعض ما نظنه ليّاً للنصوص هو نوع من الخلاف الفقهي الذي ربما يكون أحياناً معتبراً، ومن الأمثلة على ذلك ما يحصل من خلاف حول قضية تغطية الوجه: الرأي الفقهي المعتبر في السعودية هو وجوب تغطية الوجه، وعلماء آخرون لهم رأيهم ولهم أدلتهم يرون خلاف ذلك، ومن هؤلاء (الشيخ ناصر الألباني) ، ولا يمكن أن تتهم الشيخ ناصر الألباني بأنه أراد أن يجاري الواقع، ولكن هذا نوع من الاجتهاد السائغ والخلاف المعتبر.

البيان: هذا صحيح، لكن لا شك في أن بعض الفقهاء المعاصرين رجَّح هذا الرأي أو ذاك ليس من منطلق دراسة النصوص الشرعية، بل بسبب ضغط الواقع، أو الاستسلام للإلف والعادة.

- د. عبد الله الصبيح: ربما؛ وهنا تأتي أهمية وعي الفقيه وتجرده للحق، ولا بد من ملاحظة ضرورة اتساع الصدر للرأي المخالف.

البيان: أعود لأصل الموضوع وأقول: كيف يمكن إعادة التوازن في بناء الصحوة من جديد؟

- د. عبد الرحمن الزنيدي: الصحوة الإسلامية تيار عام، الصحوة تعم الأمة بمختلف شرائحها، ومن ثم فينبغي أن لا نضع صورة مثالية نحكم بأن عدم الوصول إليها اختلال وسقوط.

وحتى أوضِّح الصورة؛ فإن غالب التيارات الأخرى في العالم الإسلامي تيارات نخب ثقافية وسياسية محدودة، ومن ثم يمكن مطالبتها بأن تكون على مستوى دعوتها، لكن الأمر غير ذلك بالنسبة لصحوة أمة تحتوي وستبقى محتوية على الظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق بالخيرات.

لا يعني ذلك أن نقف في البناء الصحوي عن ترقيته نحو الأفضل إلى مجرد النظر المعجب بها فقط، كلاَّ! إن ترشيد مسيرة الصحوة، وعلاج الأدواء العارضة لها أمر واجب؛ إذ هو من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة للمسلمين.

ومن أهم قضايا الإصلاح المطلوبة في الصحوة الإسلامية تحقيق التوازن المعتدل بين جوانب بناءاتها بين الجانب التعبدي والجانب الاجتماعي، بين المجال التربوي، والمجال السياسي، بين الاندفاع في حماية الدين ونصرة الحق والتعقل ورعاية المصالح في اتخاذ المواقف والتصرفات ... إلخ.

من أهم وسائل تحقيق هذا التوازن فقه الدين؛ فقه منهج الإسلام المبني على تحقيق المصالح ودرء المفاسد، منهج الإسلام الشمولي، وعدم الاندفاع مع ردات الفعل غير محسوبة العواقب للأحداث والمفاجآت.

البيان: كيف يستطيع جيل الصحوة تحصين الصف من مظاهر الهزيمة النفسية لدى عامة المسلمين والتقليل من آثار الارتباك؟

- د. عبد الرحمن الزنيدي: نعم! للارتباك وجه سلبي من حيث كونه اضطراب رؤية، وتخويفاً من الجو المحيط، وعجزاً عن اتخاذ مواقف، أو عدم ثقة في المواقف المتخذة، لكنَّ له وجهاً مشرقاً يتمثل في أنه يحمي الإنسان من الاندراج في تيار الأحداث انسياقاً معها أو مضادة لها دون وعي، وفي أنه ليس مجرد وعي، وإنما هي لحظات استبصار وتأمل يبحث عن الأرشد؛ ولهذا فالسؤال هو: كيف نتجاوز موقف الارتباك نحو مواقف إيجابية مبنية على هدي الشريعة وعقلانية النظر وحساب كل جوانب القضية؟

السبيل هنا هو ما ذكرته ـ ربما ـ قبلاً من الانطلاق من الرؤية الشرعية المتزنة لا من ردات الفعل، والفقه السديد بمقاصد الشريعة وأولويات المصالح؛ لأن غالب إشكاليات الصحوة ليست في مسائل تعبدية جاءت عموم أحكامها محسومة في الشرع، لكنها في مناهج دعوية وفي شؤون اجتماعية مدارها مقاصد الشريعة وجلب المصالح ودرء المفاسد، وأيضاً فقه الواقع بامتلاك تصورات صحيحة متماسكة لهذا الواقع ليكون الحكم عليه المنطلِقُ من هذا التصور سديداً.

البيان: هل من تجارب معاصرة تُستثمر في تجاوز الأزمة؟

- د. عبد الرحمن الزنيدي: أزمة؟ أية أزمة؟ الأمة الإسلامية ممثلة بصحوتها الشاملة لمختلف شرائحها تعيش حالة تطلع وتحفز نفسي للنهوض، وتهيؤ لتقديم الجهود لتحقيق هذا النهوض الحضاري.

نعم! المعوقات كثيرة وضخمة، ونواقص العلم والمعرفة حقيقة موجودة، وبطء الحركة مشهودة، لكن كل ذلك لا يبرر وصف الأمر بأزمة، بل ربما بعض هذه الأشياء تعد نعمة للصحوة، وبالذات المعوقات وجهود الأعداء؛ لأنها تشحذ العزم وتستحث لجمع الجهد، وللتوحد في العمل، وهي متطلبات ضرورية لحركة النهوض الحضاري.

البيان: النظر للجانب المحزن المولد للاحباط.

- د. عبد الرحمن الزنيدي: ليس هذا منهج المسلم، منهج المسلم دائماً استبشاري تفاؤلي، وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أعظم الناس تفاؤلاً في الساعات الحرجة، وكيف تحجب النظرة السوداوية رؤية المسلم وهو الذي يوقن بحكمة الله في تدبيره، وبمعية الله لعباده المؤمنين، وبأنه ما دام محتسباً مستقيماً على خير في كل أحواله «إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له» .

ليس معنى هذا طبعاً أن يتجاهل المسلم ما تعيشه الأمة من تخلف، وما يعتور سيرها من عثرات ونواقص، بل يستحضرها في حسبانه، لكنه لا يقعد عندها نائحاً نادباً دون حراك وتطلع؛ إنه يُبعد هذه الحجارة عن طريقه ما دام نظره إلى أهدافه من ورائها سائراً إلى تلك الأهداف مزيلاً تلك الحجارة عن طريقه.

البيان: هل هناك مؤشرات حقيقية لهذا التفاؤل؟

- د. عبد الرحمن الزنيدي: إذا تجاوزنا القاعدة الشرعية لموقف التفاؤل شعوراً بعدل الله وحكمته في أمره، وبمعيته للمؤمنين، وبحربه لمن يعادي أولياءه الصالحين؛ فإن مؤشرات السنن الاجتماعية والمعطيات الواقعية إذا قُرئت من زاوية أوسع من الأحداث الفردية بانفعالاتها السريعة اشتعالاً وانطفاء، كلها تدعم التفاؤل بظهور الإسلام ونهضة المسلمين نهضة مرتكزة على الإسلام بصفته المبدأ الأرشد في إصلاح الأحوال وحل المشكلات والشهادة على الناس.

- إن تحولات الأمة إذا نُظر إليها عبر مسيرة قرن كامل أو نصف قرن أو حتى ربع قرن تؤكد التقدم نحو الأفضل في القرب من الإسلام وارتقاء مستوى الفقه فيه وبناء الحياة على مقرراته.

- إن انفتاح رواد الصحوة علماءً ودعاةً ومثقفين على عصرهم بروح الإسلام دون انبهار مُعمٍ، ولا استغلاقٍ انكماشي.

- إن سقوط رايات الكفر والضلال والشرود والاغتراب في العالم الإسلامي كله على المستويات الثقافية والسياسية.

- إن الاستثمار الراشد لمنجزات العصر في الدعوة إلى الإسلام والبناء الحضاري.

- إن التفاعل الإيجابي مع تداعيات العولمة السلبية والإيجابية.

- إن اعتراف أعداء الأمة ودينها بأن صحوتها الراهنة ليست محصورة في تدين شخصي، وإنما هي انبعاث حضاري بمشروع شامل ينبغي أن تُستنفر القوى الكبرى لمواجهته.

- ثم إن إحسان المواقف تجاه هذه التداعيات العولمية والاستفزازات والتضييق، وضبط النفس وتلمس بدائل ممكنة للأبواب التي تغلق تجاه الدعوة وحركة النهوض.

كل ذلك يمثل مؤشرات للتفاؤل والاستبشار والآمال التي ينبغي أن تحفز على الحركة والتواصل وتقوية الذات أكثر فأكثر. إن وجود معوِّقين ومخذِّلين وأُجَراء لأعداء الأمة حتى أحياناً باسم الدعوة والغيرة على الدين، وإن وجود متطرفين يقفزون فوق سنن الله في التغيير الاجتماعي، ونحو ذلك لا يمثل عامل إحباط يُسقط تلك المؤشرات؛ خاصة ونحن نشهد أن مثل هؤلاء أصبحوا شذوذاً عن مسيرة الصحوة العامة محدودين في أعدادهم ومساحة التقبل لهم.

- د. عبد الله الصبيح: يقال دائماً «الحكم على الشيء فرع عن تصوره» فالتصور الصحيح يؤدي إلى حكم صحيح، وما تحتاجه الصحوة من أجل إعادة التوازن في البناء ـ في نظري ـ هو إعادة بناء تصوراتها المعرفية بناء صحيحاً؛ وهذا يقتضي وجود تكامل معرفي يحتوي على مجموعة من المعارف: الشرعية، والفلسفية، والاجتماعية، والاقتصادية. في الماضي كان ما يدرسه الفقيه في المتن الفقهي هو ما يمارسه الناس في الواقع أو قريب منه؛ أما الآن فلم يعد المتن الفقهي الذي يدرسه الطالب يمثل مرجعية للسلوك في كثير من شؤون الناس، وأصبحت المعارف الأخرى بل تجارب الشعوب الأخرى تمثل مرجعية للسلوك أكثر من كتاب الفقه. والفقيه كي يعدِّل سلوك الناس ويحكم على الواقعات التي يراها أمامه لا بد له من معرفة بهذه العلوم والمعارف التي تؤثر في سلوك الناس.

والتكامل المعرفي يكون بإعادة بناء مناهجنا الدراسية في الأقسام الشرعية والأقسام الاجتماعية على حد سواء، وإذا لم يتحقق ذلك فلا أقل من إقامة ندوات مشتركة يشترك فيها أصحاب التخصص الشرعي مع نظرائهم من أصحاب التخصصات الأخرى، وهذه الندوات سوف تثري الطرفين بلا شك، ويطلع كل فريق على ما خفي عليه مما يعلمه الطرف الآخر.

البيان: كيف يستطيع جيل الصحوة تحصين الصف من مظاهر الهزيمة النفسية الموجودة عند عامة المسلمين، والتقلل من آثار الارتباك التي أشرنا إليها في أول الندوة؟

- د. ناصر العمر: لعلِّي أركز على أبرز الأسباب التي توقع في الهزيمة النفسية، فمنها:

الفتور، الانقطاع عن الطريق، اختلاف القلوب، تنقّص العلماء والحكماء، الانتكاسة والعياذ بالله، الاستسلام للعدو، ذهاب ريح الأمة، كل هذه الأسباب توصل في النهاية إلى الهزيمة النفسية إذا وقعت، فتجنب هذه الأشياء بكاملها، وتصور عقبات الطريق كل ذلك ينقذ ـ بإذن الله ـ من هذا الأمر؛ ومن هنا فإن الأسباب التي تنجي، وتكون حصانة وعلاجاً ألخصها فيما يلي:

أولاً: فهم القرآن: إننا لم نُعطِ القرآن حقه الواجب من الفهم والتدبر، ولا شك أن للقرآن تأثيره الإيجابي في التخلص من كثير من الأمراض والآفات الحسية والمعنوية؛ ففهم القرآن هو المنجي بإذن الله والمخلص، بل أكاد أجزم أنه مانع بإذن الله من الهزيمة، والآيات صريحة في توضيح هذا الأمر، مثلاً: {فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم: ٦٠] ، هذا نموذج للخلاص من الهزيمة النفسية.

ثانياً: سيرة الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم - وسير الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ: فالذي يدرس سيرة الأنبياء يتعجب، مع ما مروا به من أحوال قاسية وظروف صعبة يلحظ أنه لم تمر بهم الهزيمة النفسية أبداً في حياتهم؛ فدراسة سيرة محمد -صلى الله عليه وسلم - وسيرة الأنبياء الثابتة في القرآن والسنة هذه أيضاً تخلِّص من الهزيمة، وكلمةُ تخلِّص تتضمن المعنيين: عدم الوقوع، والنجاة إذا وقعت.

ثالثاً: سِيَر المجددين والمصلحين: وهذا أيضاً مهم جداً؛ لأن المجددين والمصلحين ليسوا أنبياء، ومع ذلك نرى كيف واجهوا ذلك ونقلوا الأمم من واقع إلى واقع، ولو أنهم استسلموا للهزيمة النفسية لما أصبحوا من المجددين، وما أثروا في تاريخ الأمة.

رابعاً: أيضاً من أبرز ما يحتاج أن يربى عليه الناس عدم الاعتماد المجرد على المظاهر المادية؛ فالإشكال أن أكثر ما يوجِد الهزيمة النفسية هو التعامل المباشر مع المظاهر المادية دون الرجوع إلى السنن الكونية والكتاب والسنة، فلا شك أنها تؤثر؛ فالأحداث الجارية صباح مساء مؤثرة في حياة الناس؛ إذن عدم الاعتماد عليها فقط وفهم وإدراك هذه الأحداث يساعد بإذن الله.

خامساً: فهم الواقع على حقيقته دون مبالغة، والتعامل معه بفقه ووعي، كل هذا يخلص بإذن الله.

وأركز هنا على ضرورة أن تكون الدعوات مبنية على أصول شرعية ثابتة وهي أصول الكتاب والسنة؛ فإذا كانت الدعوات مؤصلة فإنها لا تنهزم ولا تهتز، كالبناء الذي له أسس قوية جداً، أما إذا كانت هشة ضعيفة فهي عرضة للتبديل والتغيير، والله أعلم.

البيان: ذكرتم فضيلة الشيخ! سِيَر الأنبياء والمجددين والمصلحين؛ فهل ثمة تجارب من التاريخ أو من الواقع المعاصر يمكن من خلالها أن نستثمر تلك التجارب وتعيننا في تجاوز الأزمات التي يمكن أن تحدث في المستقبل؟

- د. ناصر العمر: أبرز التجارب المعاصرة لدينا تجربة أفغانستان، ويجب أن ننظر إليها من الزاوية الإيجابية. لما دخلت روسيا بجبروتها وقوتها وغطرستها إلى أفغانستان؛ فإن الذين يتعاملون مع المادة يرضون بالهزيمة، وقد يستسلمون مباشرة وحدث هذا، لكن الذين تعاملوا بأسلوب آخر وأعلنوا الجهاد الحقيقي في حينه ماذا حدث بسبب ذلك؟ كما تعلم ما هي إلا سنوات معدودة ـ اعتقد أنها قصيرة جداً ـ في عمر الزمن حتى تداعت الأمة إلى الجهاد مع حداثة التجربة، ومع أن الأمة منقطعة لفترة طويلة عن الجهاد، وما يجري في فلسطين لم تشارك فيه الأمة من خارج فلسطين إلا قليلاً، مع ذلك انظر كيف كانت النتائج؟ أما ما حدث من سلبيات بعد ذلك فمسألة أخرى ليست مقصودة في حديثي، ولم يستثمر هذا الانتصار في أفغانستان واستغله الأعداء. وقد تحقق في قضية فلسطين انتصارات ضخمة مع أن العالم تقريباً يكاد يُجمع ـ حتى من داخل الدول العربية وغيرها ـ ضد المسلمين وضد المجاهدين، ومع ذلك فالانتصار ظاهر وبارز. بالأمس القريب كنت أنظر إلى محاولة اليهود اقتحام المسجد الأقصى، وفجأة نجد هذا الحشد الهائل بعشرات الآلاف من الفلسطينيين مع قوة الضربات، ومع شدة الأزمات، ومع الظروف المعيشية ومع التعذيب ومع التنكيل، ومع ذلك كله نلحظ القوة والسيطرة وتراجع العدو في أماكن كثيرة.

يكفي أن أقول كلمة واحدة: إن الصوت الأعلى هو صوت الجهاد ضد تلك المؤامرات، بل حتى في العمل السياسي عندما أجريت الانتخابات البلدية الفلسطينية، حصلت حماس على ٧٠% تقريباً، مع أننا لا نسلِّم بنزاهة الانتخابات تماماً؛ فكيف لو كانت نزيهة؟

في المشهد العراقي مثال آخر؛ لما دخلت أمريكا للعراق ما كان أحد يتصور أن يصمد الشعب العراقي هذا الصمود، الآن أمريكا في مأزق لا يُشَك فيه.

وهذا الثبات بحد ذاته انتصار عظيم، وعدم استسلام المصلحين لروح الهزيمة هي البداية القوية للنصر. قارن بين ما يحدث في العراق خلال السنتين الماضيتين وبين أيام التتار عندما استسلم الناس وهُزموا نفسياً!

إن هذه الأمثلة من أعظم التجارب. أيضاً تجربة البلقان وما حدث فيه يؤكد هذه الحقيقة.

إذن هذه تجارب واضحة وقوية لم يستسلم أصحابها للهزيمة النفسية أبداً؛ مع أن كل الأدلة الظاهرة المادية قد تدعو إلى مثل ذلك.

وأؤكد أن من أعظمها وأبرزها لديَّ قضية فلسطين، ولا تزال وستظل بإذن الله أنموذجاً حياً حتى يتحقق الانتصار الحاسم.

- د. عبد الله الصبيح: جواباً على سؤالك: «كيف يستطيع جيل الصحوة تحصين الصف من مظاهر الهزيمة النفسية الموجودة عند عامة المسلمين والتقلل من آثار الارتباك؟» أقول: قد ذكرت في مطلع حديثي عن الهزيمة النفسية أن لها صورتين: الأولى: هي هزيمة الذات أمام المبدأ. والثانية: هي هزيمة المبدأ أمام الواقع. وعلاج الصورة الأولى يكون بالتربية الإيمانية، والتربية على الزهد في الدنيا. وعلاج الصورة الثانية يكون بأمور:

الأول: بالتكامل المعرفي، والجمع بين الثقافتين الشرعية والمدنية.

الثاني: بتجاوز صدمة الانبهار أمام الواقع؛ فبعض الأساليب التربوية تحول بين الفرد والاتصال بالواقع ومعايشته، ويصور له بأنه شر وفساد؛ فإذا واجه الشخص الواقع فربما اكتشف أن الواقع ليس كما صُوِّر له، أو يكتشف أن أدواته عاجزة عن التعامل مع الواقع الجديد، فيشعر بالانبهار، وينهزم أمامه. ومعالجة هذا بتربية الفرد على مواجهة الواقع والتعايش معه بدلاً من العزلة عنه ثم مواجهته فجأة. إن المواجهة المستمرة المتدرجة مع الواقع تجبر الشخص على تطوير أدواته في التعامل مع واقعه والتكيف معه.

الثالث: الاطلاع على التجارب الناجحة التي استطاعت مواجهة الواقع وقدمت نماذج سليمة. إن توسيع المدارك بمعرفة بدائل عديدة من تجارب الشعوب سواء كانت مسلمة أو غير مسلمة لا يجعل الشخص يشعر بالإحباط في مواجهة الواقع، بل يكبر عنده الأمل في التغلب عليه لما يعلمه من بدائل ناجحة.

البيان: لكن لو نظرنا إلى واقع بعض الناس فإننا نجد أنهم ينظرون إلى الجانب المحزن من هذه التفاعلات العالمية في الواقع المعاصر، وهذا ولَّد شعوراً بالإحباط عند بعض الناس.

- د. ناصر العمر: هذا يفسر ما قلته لك سابقاً. لا ينبغي أن نتعامل مع الحدث اليومي مباشرة بمعزل عن السنن الكونية والمنهج القرآني وسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم -. فالذي يدرس سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم - يرى أنه مر بمكة في ظروف أقسى من التي نمر بها ونعيشها الآن. يقول الله ـ عز وجل ـ: {حَتَّى إذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف: ١١٠] .

الذي يتعامل مع الجانب المادي والحدث اليومي فقط قد يحدث عنده شيء من الانهزام، وأما من يتعامل مع القرآن والسنن الكونية، مع الأخذ بالأسباب فإنه لا يشك ـ بإذن الله ـ في تحقيق نصر الله. لكن نؤكد على حكمة الله ـ جل وعلا ـ البالغة في جعل الأسباب مؤثرة في الحياة؛ فمثلاً: الخلاف والاختلاف بين الدعاة عوامل مؤثرة تؤخر النصر، وكذلك سوء الظن بالله ـ جل وعلا ـ من أبرز الأسباب التي تؤخر النصر؛ وفي هذا الأمر يقول ـ تعالى ـ: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: ٢٣] ، وقال ـ تعالى ـ: {وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح: ١٢] .

ولذلك لو أن الناس تلافوا الأسباب التي هم واقعون فيها واجتهدوا في هذا الأمر؛ فإن النصر سيكون أقرب مما يتصورون. قد يقول قائل: الناس الآن لم يتلافوا هذا الأمر؛ فمعناه أن الهزيمة قد وقعت. هذا غير صحيح، بل الانتصار قائم الآن ولله الحمد، والمناطق الساخنة في العالم مثل فلسطين، العراق، الشيشان، نموذج لذلك.

إذن نحن نتعامل مع نصوص الوحي ونتعامل مع الأسس والقواعد والسنن الكونية، ولا نتعامل فقط مع مجرد الحدث اليومي، مع أهمية مراعاة الحدث اليومي؛ فقد جعل الله ـ جل وعلا ـ له أساساً في الانتصار. قال ـ تعالى ـ: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: ٦٦] ، ولكن يراعى في حدود، ولكن لا يعني الاستسلام كما قال ـ تعالى ـ: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: ٢٤٩] .

البيان: لكن هل هناك مؤشرات حقيقية لهذا التفاؤل. نحن نؤمن بأن النصر قادم وبأن العاقبة للمتقين، لكن هل يمكن أن يتحول هذا الفأل الحسن إلى واقع تعيشه الأمة؟

- د. ناصر العمر: نعم! يمكن، بل هذا هو الذي يجب أن يكون، وهذا دائماً أطرحه باسم التفاؤل الإيجابي، وهو أن يتحول التفاؤل الذي تطرحه الألسنة وتتلقاه الأسماع والقلوب إلى برامج عملية، مع ما أشرت إليه سابقاً بعدم الاستسلام للهزيمة مهما كانت النتائج.

التفاؤل الإيجابي ليس تحقيقه مرتبطاً بتحقق النتائج المباشرة؛ إنما يتحقق بإيجاد التفاؤل الإيجابي الدافع للعطاء، وبهذه المناسبة أوضح هذا المفهوم؛ لأن بعضاً قد أخطأ في فهمه للتفاؤل. فالتفاؤل هو مقدار تحقق التزام الدعاة بالمنهج الذي أنزله الله ـ سبحانه ـ سواء التزم به الناس أو لم يلتزموا؛ فثبات الدعاة وثبات المصلحين على مناهجهم مهما كان الأمر يعتبر انتصاراً، وأعطي دليلاً يؤكد هذه الحقيقة؛ فقد بينت قبل سنوات في كتاب (حقيقة الانتصار) أن الله ـ جل وعلا ـ قال: {إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: ٥١] ؛ فبعض الأنبياء كما في الحديث الصحيح لم يؤمن معه أحد، وبعضهم آمن معه رجل واحد فقط، مع أن الله ـ تعالى ـ قال: {إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: ٥١] ، ليس فقط في الآخرة ويوم يقوم الأشهاد، بل في الدنيا. إذن مفهوم النصر والهزيمة في أذهان كثير من الناس خطأ، لأنه يتعامل مع الواقع المادي فقط، وهذا خطأ، والصواب أن ثبات الداعية وثبات النبي والرسول وثبات المصلح والمجدد على مبدئه ومنهجه هو الانتصار بذاته، وهو أعظم الانتصارات.

أيضاً لفت نظري في سورة القصص قوله ـ تعالى ـ والخطاب لموسى وهارون ـ عليهما السلام ـ: {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص: ٣٥] ، بعد ذلك جاءت قضية السحرة؛ والقول الراجح أن فرعون قتلهم ومع ذلك فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قال: {أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} ، والسحرة ممن اتبع موسى وهارون؛ إذن وهم قتلوا فأين الغلبة؟ الغلبة أنهم ثبتوا عندما هددهم فرعون بالقتل، وكان جوابهم له كما في سورة الشعراء، وطه: {قَالُوا لا ضَيْرَ إنَّا إلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} [الشعراء: ٥٠] ، وأيضاً في السورة الأخرى: {قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه: ٧٢] .

كل الآيات تدل على أنهم ثبتوا على منهجهم إلى آخر لحظة، سواء أكان فرعون نفذ تهديده أم على القول الآخر أنه لم ينفذ، لكن الراجح أنه نفذ، وهذا الذي يدل عليه سياق الآيات، ومع ذلك ثبتوا، ولهذا يعتبر هذا انتصاراً عظيماً كما قال ـ تعالى ـ: {أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص: ٣٥] ؛ فهذه هي الغلبة في الحقيقة.

على مدار التاريخ نجد أن حاكماً أو غيره يقتل مصلحاً لكن القاتل يشعر في داخله أنه هو المغلوب، ويشعر أن المقتول هو المنتصر، وأقوى دليل على ذلك قصة أصحاب الأخدود أنهم كلهم قتلوا ومع ذلك فهذا انتصار عظيم: {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج: ١١] .

لو أننا تعاملنا مع هذه الحقائق لما كان لليأس مكان. إذن التفاؤل الإيجابي هو تفاؤل النبي -صلى الله عليه وسلم - حيث كان يربي في أصحابه التفاؤل، لكنه كان يعمل، وكان يجتهد، وكان يستحثهم على العمل والإنجاز.

هنا أختم بكلمة: لا أعرف فترة خلال السنوات الماضية مرت بها الصحوة من الانتشار والقوة والمكانة والتمكن كما هي اليوم، ومع ذلك لو أن كل واحد من هؤلاء الدعاة أو كل مجموعة دعوية قامت بمشروع إيجابي عملي لتغير واقع الأمر لانتصرت الأمة، لكن مع الأسف نميل للنقاش والجدال والخصومة وخدمة الأعداء من حيث لا نشعر.

وأخيراً: وجدت تلازماً بين تفاؤل النبي -صلى الله عليه وسلم - وبين اشتداد الأزمة؛ فإذا اشتدت الأزمة على محمد -صلى الله عليه وسلم - وجدنا أنه أكثر الناس تفاؤلاً، وهذا واضح في كل سيرته، بل وجدت في القرآن تلازماً بين الشدة والفرج، والعسر واليسر. إذن فالشدة التي يجدها بعضهم طريقاً للهزيمة النفسية، أو دليلاً عليها، اعتبرها من أكبر أدلة التفاؤل؟ لأن الانتصار يأتي بعدها إذا أخذت الأمة بأسبابه، وكانت إيجابية، وكانت عملية، ولا أشك في تحقق هذا، وأقوى مثال عندي قضية فلسطين؛ فلو خُلّي بين الأمة وبين عدوها في فلسطين ما لبث اليهود إلاَّ قليلاً، هذه قناعتي، لكن مع الأسف الواقع غير ذلك.

- د. عبد الله الصبيح: هناك عدد من العوامل مرتبطة بنظرة التشاؤم هذه التي تتحدث عنها منها:

١ - النظر إلى الجانب المحزن والنظر إلى الجانب الإيجابي من واقع الأمة هو نتيجة للتربية التي يتربى عليها الشخص؛ فإذا كان المنهج التربوي يتصيد الأخطاء عند الأمة والمصائب التي تمر بها، ويتربى على نظرية المؤامرة؛ فإن النتيجة هي الشعور بالإحباط أو الثورة على الأمة والتغيير بالقوة.

٢ - النظرة المثالية التي يتربى عليها بعض الناس ويريد الأمة أن تكون عليها. إن الذي يجب أن نعلمه أن الفساد والضعف حدث في الأمة متدرجاً عبر عشرات السنين، بل مئات السنين، وليس نتيجة يوم وليلة؛ إنه لم يحدث فجأة وحاشا لله أن يقع فجأة؛ وزواله لا يكون فجأة، بل لا بد من التدرج في إصلاحه. ولهذا لا بد أن يتربى الشباب على الواقعية في الإصلاح، فيُسَرَّ بالإصلاح الجزئي ويشارك فيه ويسعى لما بعده من الإصلاح ويطالب به. أما أن يرفض كل خطوة نحو الإصلاح؛ لأنها لا تحقق ما يسعى إليه من الصورة المثالية التي في ذهنه؛ فهذا سوف يفضي به إلى النظرة التشاؤمية واليأس في صلاح الأمة؛ وربما ينتج عن هذا هزيمة نفسية، وهي هزيمة المبدأ أمام الواقع الذي أشرت إليه من قبل.