ندوات
حداثة أم حداثيون؟
نظرة في السياق العربي
(٢ ـ ٢)
إعداد: وائل عبد الغني
* ضيوف الندوة:
أ. د. إبراهيم الخولي: أستاذ الأدب والنقد بكلية اللغة العربية جامعة الأزهر.
أ. د. مصطفى حلمي: أستاذ العقيدة والفلسفة بكلية دار العلوم جامعة القاهرة.
د. علاء عبد العزيز: المدرس بمعهد التمثيل بالقاهرة.
أ. محمد إبراهيم مبروك: الكاتب الإسلامي المعروف.
* مقدمة:
جاءت الحلقة الأولى بحثاً في السياق الغربي وتطوراته التي أنتجت الحداثة،
كيف تطورت الأفكار وسارت الأمور، وماذا خلفت من سلوك اجتماعي، وخلصنا
إلى أن الحداثة خصوصية ثقافية متصلة بالسياق الغربي.. وفي هذه الحلقة نبحث
في الحتمية التي يحاول بعض الحداثيين أن يدعيها لتطبيق أو فرض الحداثة على
العالم الإسلامي والعربي، ونقلب النظر في واقع الحداثة العربية وأهم ما تحمله من
قضايا وأفكار، ونستهل هذه الحلقة بتساؤل يطرح نفسه:
البيان: هل يمكن تصور حداثة عربية كما يقول بعضهم؟
- د. إبراهيم الخولي: ليس هناك ما يمكن أن نسميه حداثة عربية على
التحقيق.. بل ولا يوجد حداثيون عرب، لدينا دعاة حداثة عرب، ونسبتهم إلى
الحداثة نسبة المقلد لا المنتج أو المبدع، فهؤلاء لم يقدموا فكراً مستقلاً، وإنما نقلوا
عن الغرب دون أن يراعوا خصوصية مجتمعاتهم، فهؤلاء ليس لهم جهد فكري
مستقل في هذا الباب.
- أ. محمد مبروك: الحداثة تطور عن العلمانية الغربية التي تقتصر على
العقل الإنساني وتجتنب القداسة بترك المسيحية، وإذا كانت قد تعايشت مع
المسيحية فلا يمكن هذا مع الإسلام؛ لأن الإسلام منهج كامل غير قابل للتجزيء.
الإسلام والعلمانية نقيضان، ومما وقع عليه الاتفاق بين العلماء والمفكرين
العرب أن العلمانية كفر، وما أجمل الإشارة في هذه النقطة إلى قول الدكتور محمد
البهي وكان وزيراً للأوقاف في كتاب له: «العلمانية أخذ بعض الدين وترك بعضه؛
فهي كفر» ، وهذا يعدُّ موقفاً رسمياً في الدولة، ومما يزيد الأمر حجية على
العلمانيين عندنا أن هذا المؤلِف إلى جانب منصبه الرسمي حائز على دكتوراه
الفلسفة من ألمانيا؛ بمعنى أنه محيط بهذه القضية من الناحية الشرعية ومن الناحية
الفلسفية.
البيان: وماذا عن قول بعضهم إن العقل الحداثي العربي قد تحول من
استهلاك الحداثة الغربية في الثمانينيات إلى بناء نموذج عربي مستقل في
التسعينيات؟
- د. علاء عبد العزيز: هذا كلام غير معقول؛ لأن الحداثة مبدئياً تعني
القطيعة مع التراث؛ فكيف ستتطور عنه وهي في قطيعة كلية معه، ثم كيف
ستكون عربية وهي لم تتحرر من النظريات والمصطلحات والأفكار التي ولّدها
السياق الغربي، وجميع ما يردد في المحافل الحداثية مستورد ليس إلا، نحن لا
نطعن في توليد نموذج عربي، بل نطعن في وجود ما يمكن أن يسمى حداثة عربية
مستقلة؛ لأن ما أحدث القطيعة المعرفية مع التراث في الغرب غير موجود في
تاريخ العالم الإسلامي.. في المجتمع الإسلامي تشيع حالات من التراحم والتكافل،
جنبته ويلات الصراع الطبقي الموجود في الغرب، ولهذا فإن ماركس لم يستطع أن
يطرد نظريته على العالم الإسلامي، وتهرب بتسميته نمط إنتاج آسيوي.
الأوقاف على سبيل المثال، وهي جزء من نظام عام للتكافل الاجتماعي في
الإسلام، كان لها دور مهم للغاية في تجنيب العالم الإسلامي ما حدث في الغرب من
صراع، وقد ذكر بعض الباحثين أن ثلاثة أرباع أراضي الدولة العثمانية كانت
أراضي أوقاف وليست ملكاً للدولة؛ إذن هناك مجموعة من المكونات هي التي
أوجدت القطيعة والتمرد على التراث ورفض الدين في الغرب، هذه المكونات ليس
لنا بها أدنى صلة لا تاريخياً ولا دينياً ولا حضارياً، ومن ثم فمن غير المنطقي أن
تطبق نظريات الحداثة على مجتمعات خالية من الظرف التاريخي الذي ولّد الحداثة.
- أ. محمد مبروك: العالم الإسلامي في هذه المرحلة يفتقد وجود مفكرين
وفلاسفة يتطورون لكي يأتوا بفكر جديد يناسب المرحلة، أما ما يحدث ففي
تصوري أن هناك مجموعة من المتمردين على الدين لا يحبون الله، يريدون أن
يصنعوا لأنفسهم إطاراً موضوعياً يحتمون به، لذلك قاموا باستيراد فكرة الحداثة من
الغرب، وأخذوا منها ما يتناسب مع مشروعهم الانتهازي في تدمير النسيج
الإسلامي القوي وترويج وجودهم الإلحادي.. في الماضي كان المتمردون والزنادقة
قلة، ونتيجة لتمكن الدين كان يتم اجتثاثهم سريعاً سواء بالعقل أو بغير العقل..
ولكن بالنسبة للعصر الحديث، فهناك قوى كبرى في الغرب يحتمون بها، ومن هنا
كان من طبيعة الأشياء أن يميل هؤلاء إلى الحضارة الغربية، ويشعرون بالانتماء
إليها لأنها هي التي تناسب مسلكهم، فيجب أن يلتحقوا بها، ومن ثم جاء الموقف
متسقاً مع ما يعتقدونه؛ لأن من لا يؤمن بالله سيبحث ولا بد عن النسق الفلسفي
الذي يمكن أن يتطور فيه، فهم انساقوا وراء النسق الفلسفي الغربي، واعتبروا كل
ما يتطور إليه النسق الفلسفي الغربي يمثل التطور الفلسفي للعالم، فالقضية ليست
غرباً وشرقاً، ولكن ما يمثل أقصى تطور للفكر الإنساني يرون تعميمه على العالم
كله، فهم كانوا متسقين مع أنفسهم حين أرادوا أن يصنعوا إطاراً موضوعياً
لإلحادهم وعلمانيتهم، فالتجؤوا لآخر موضة موجودة في الغرب والتي تسمى
الحداثة، هل هم أخذوا الحداثة كتطور للمجتمع عندنا؟ هذا غير صحيح مطلقاً،
ولكن لأنهم يؤمنون أن ما ينتج عن المجتمع الغربي يمثل الإنسانية جمعاء اعتبروا
أن الحداثة تمثل فكرهم، فاستوردوها، هذا من الناحية الموضوعية.. أما من الناحية
الأخلاقية فالذي حدث هو أنهم تمسحوا بها، وأخذوا ما يتناسب مع مشروعهم
الانتهازي في تدمير النسيج الإسلامي القوي، وتسويغ وجودهم الإلحادي.
- د. إبراهيم الخولي: ما يسمى الحداثة العربية أو نقل الحداثة الغربية إلى
المجتمع الإسلامي؛ هو بمثابة نقل أعضاء لجسم هو يرفضها ولا يمكن أن يتقبلها،
فالسياق التاريخي والفكري والاجتماعي مختلف، ولمثل هذا النقل أمثلة في تاريخنا،
مثل كتاب (نقد الشعر) الذي ترجمه «قدامة بن جعفر» ، وكتاب (الشعر)
لأرسطو الذي ترجمه «متى بن يونس» ، وكان ذلك في وضع قوة الدولة
الإسلامية التي كانت تستقبل استقبال الناقد المتفحص الذي يأخذ ويرمي وينقي
ويترك، ثم يهضم، ثم يضيف فيخرج للبشرية ما لا قِبَل لها بأخذه في البداية،
ولذلك رفض المجتمع كتاب (نقد الشعر) لتأثره بالفكر الأرسطي، ولننظر كيف
الغرق في الهزيمة الفكرية، هذا إذا لم نذهب إلى أبعد من ذلك، وكم هو البون
بينهم وبين «السيرافي» شارح كتاب سيبويه حين ناظر «متى بن يونس» لمَّا
تفاخر بالمنطق اليوناني، وأن العرب لم ينتجوا منطقاً كالمنطق اليوناني، رد عليه
السيرافي وقال: جهلتَ.. فليس المنطق إلا نحواً إلا أنه مسلوخ من العقل، وليس
النحو إلا منطقاً إلا أنه مسلوخ من اللغة، وسأسألك عن حرف الواو، وأدلك على
أسراره واستخداماته ... إلى آخر كلامه، فأين منطق (أرسطو) من النحو العربي.
فالحداثيون يجهلون التراث الإسلامي العظيم؛ لذلك فهم يعادونه لأن الإنسان
عدو ما يجهل، فأنا لا أخشى من دعوتهم فهي ستزول كما زال السابقون، أما حداثة
الغرب فهل تستحق من المجتمع الإسلامي كل هذه الجلبة والضجة التي يثيرها
الحداثيون العرب؟ لقد ماتت في بيئتها ودخلت المتحف لا لتحيا فيه وإنما لتتحلل
وتبيد.
- د. علاء عبد العزيز: القطيعة المعرفية مع التراث الإسلامي وضعت
المتأثرين بها في منطقة غائمة، فهم ليسوا غربيين، في الوقت الذي هم فيه
مفرغون تماماً من تراثهم الحقيقي التراث الإسلامي أو الحضارة الإسلامية الفاعلة
فيه، فلا هم إلى هؤلاء ولا إلى أولئك، ومع هذه القطيعة تمتد أيدي الحداثيين
ليقيموا علاقة مع هوية أبعد وتراث أقدم كالفرعونية والآشورية والفينيقية والكلدانية
بإذكاء النزعات العرقية والإقليمية في مناهج التعليم وفي الإعلام، ويشوشوا بها
على الانتماء الإسلامي، وهو ما أطلق عليه حامد ربيع - رحمه الله - اسم:
«التسميم السياسي» .
- د. مصطفى حلمي: الغرب لا يريد لنا أن نصبح على صورته الحداثية،
وإنما هو يفرض صورة من الحداثة تناسب جو المستعمرات تبقي على هذا العالم
سابحاً في ركاب الغرب دون أن يبلغ ما بلغه الغرب من تقدم؛ لأن وجود منافس
حضاري للغرب مسألة مرفوضة منه تماماً، وأي محاولة حقيقية للنهوض تقابل
بقسوة وعنف من الغرب، ومن هنا نلفت النظر إلى أن المعركة في مسألة الحداثة
في عالمنا تدور حول القيم والأخلاق، أما مسألة التطوير والتقنية فهي خارج نطاق
الحداثة، بل على العكس نجد أن كل الاتفاقيات تسعى لتغيير العادات والتقاليد والقيم،
بينما يحرص الغرب على توسيع الهوة بيننا وبينه فيما يخص الجانب التقني،
فهي حداثة انتقائية يراد فرضها علينا؛ فهل يمكن مع هذا تصور أن هناك حداثة
عربية؟! وأنى لها الاستقلالية وهي تمثل قطيعة تامة مع التراث العربي.
- د. إبراهيم الخولي: اللعب بالمصطلحات مسألة تحتاج إلى معالجة
وتأصيل.. حين يثور الحداثيون على قيم الإسلام باسم التقدم؛ لا يعنون سوى التقدم
المادي الذي يحوّل الإنسان إلى كائن يعيش على معدته وفرجه ويعيش لهما، لكن
التقدم في المفهوم الإسلامي تقدم الإنسان في إنسانيته حتى يسيطر بإرادته على
غرائزه، يصبح صاحب قيمة.. صاحب نظرة فلسفية في الوجود.. يعمل بعلم،
يؤمن بقيم، ينتهي به إلى أن يخرج من الأنانية المنحطة في التكوين الإنساني إلى
الإيثار الذي هو قمة التسامي، هذا هو التقدم، هل بوش راكب الشبح أكثر تقدمية
بالمفهوم الإنساني البحت؛ من محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم راكب الجمل
أو الناقة؟!
محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول: «دخلت امرأة النار في
هرة حبستها» ، ويخبرنا في حديث آخر عن بغيٍّ عاشت فاجرة، رأت كلباً في
الصحراء يأكل الثرى من العطش فرقت له ونزلت إلى البئر فملأت خُفَّيْها وظلت
تناوله؛ حتى شرب وهدأ واطمأن، فشكر الله لها فغفر لها، هذه هي التقدمية.
لكن تقدمية المادة وتقدم العلم التجريبي ما ثمرته؟ لم يزد عن أن طور مطعم
الإنسان وملبسه ومسكنه ليصبح مثله مثل البقرة في قصر من ذهب، بينما لو وُضع
الراعي في حظيرة البقر وكان إنساناً يظل إنساناً متقدماً، هذه هي المعايير.. أما
اللعب بالمفاهيم واللعب بالألفاظ فهي أولى خطوات الغزو الفكري، وأول مرحلة في
تهيئة العقل المسلم للتقبل السلبي، وشحن المصطلح الجديد بما يغري.
- د. مصطفى حلمي: هناك شهادة مهمة لأرمسترونج تقر بوجود حداثتين
أحدهما تابعة والأخرى متبوعة، وتوجه لكلا النموذجين فتقول: «لم تكن المعضلة
هنا تختلف عن معضلة الكثيرين في البلدان النامية ممن لا يفهمون الثقافة الغربية إلا
فهماً سطحياً دون أن يستطيعوا الانتماء الحقيقي لثقافتنا التقليدية بسبب التأثير المدمر
الذي أحدثته الحداثة بأساليب حياتنا المقدسة، فالحداثة في الغرب تتميز بالاستقلال
والتجديد، أما في مصر وإيران فارتبطت بالاعتماد على الغرب ومحاكاته كما
وعى هذا الإسلاميون وعياً شديداً» ، فالتبعية موجودة لكن الفرق يزيد الصورة
العربية تشوهاً وانحطاطاً؛ لأن هؤلاء حين ثاروا على ثوابت الإسلام لم يلبثوا أن
سقطوا في أسر قيود التبعية للغرب، وهي أكثر قهراً وأكثر إيلاماً من كل ما
يطعنون به زوراً على الإسلام.
البيان: يدعي بعض الحداثيين إمكانهم التعايش بين الحداثة والإسلام، أو
إمكانية الجمع بين التراث والمعاصرة؛ بينما يسفر بعضهم عن استحالة ذلك
ويدعو إلى الإجهاز كلية على التراث طلباً للتقدم، أي الموقفين معبر عن حقيقة
الحداثة؟
- أ. محمد مبروك: الجمع ما بين التراث والمعاصرة والتراث والحداثة أمر
مستحيل في القواعد الغربية نفسها؛ لأن الحداثة تنطلق أصلاً من القطيعة مع
الماضي ومع الفكر الإنساني؛ فكيف سيفلح الجمع بين التراث والمعاصرة؟!
أما بالنسبة لمجتمعاتنا فقد ظهر أن الحداثة هي تطور للسياق العلماني، وبما
أن ١ + ١ = ٢، والعلمانية تتناقض مع الإسلام؛ فالحداثة كفر ولا نحتاج إلى جهد
كبير لإثبات أن الحداثة كفر، ربما قالوا إن الحداثة تمثل الخط الإيجابي التقدمي
للمجتمعات البشرية؛ بحيث إن انتقال المجتمعات إلى المدنية الحديثة يعني المزج
بين الحداثة والتحديث، مسألة التحديث مفارقة تماماً عن مسألة الحداثة، التحديث
يتعلق بالتقدم التكنولوجي للمجتمعات، أما الحداثة، كما تظهر من خلال تطور
السياق التاريخي لها، فهي على علاقة بتطور الفكر العلماني ووصوله إلى مرحلة
العجز والتمرد، فلماذا الجمع بين هذا وذاك؟!
أما بالنسبة للتحديث نفسه؛ فأنا أرفض القول بقبول التحديث على صورته
الغربية بشكل كامل، صحيح أنه لا يمتزج كلية بالحداثة، لو أتينا إلى التعريفات
الحقيقية للحداثة من الناحية الفنية البحتة؛ نجد أن الحداثة ثورة على التحديث في
الغرب، والحداثة ثورة على المدنية الغربية وعلى المدنية البرجوازية، ونحن لم
نزل في عصر الرأسمالية البرجوازية، فالحداثة ثورة على التحديث؛ فكيف يمزج
هؤلاء بين هذا وذاك؟!
ولا يعني ذلك أننا نوافق على التحديث بصورته ومنطلقاته الغربية، فالتحديث
نفسه صنع في إطار التوجهات في تطور المجتمع الغربي البرجوازي، وهذا بالطبع
سيختلف في تطور المجتمع الإسلامي، ولذلك حتى التحديث نفسه أنا لدي عليه
العديد من الإشارات والتحفظات.
البيان: التمرد على المقدسات هو المقدس الأكبر لدى الحداثيين، وهذا
شائع في أدبياتهم بدءاً بصلاح عبد الصبور الذي يصوّر الحلاج بطلاً ثائراً في
مسرحية، ومروراً بالسيّاب في قصيدة يجعل فيها من وجود الله - تعالى الله عما
يقول - خرافة يتلهى بها في شعره، وأمل دنقل في قصيدة يمجد فيها الشيطان
الذي قال لا في وجه من قالوا نعم، ونزار شاعر الخصور والخمور، وغيرهم
ممن يتغنى بالجسد ويقدس الشذوذ.. وتدنيس القداسة وتقديس الدنس لديهم
سواء، هكذا الإبداع لديهم، الصورة القريبة لدينا رواية الوليمة وأخواتها اليمنية
والأردنية، في التطاول على ذات الله تعالى وعلى القرآن والرسول صلى الله
عليه وسلم.
- أ. محمد مبروك: هذا يؤكد لدي أهمية أن نركز في مواجهة الحداثة على
موقفها من الإسلام أكثر من تركيزنا على موقف الإسلام منها، فالأهم من وجهة
نظري أن نكشف عن حقيقة موقف الحداثيين من الإسلام؛ لأن ذلك يكفينا مؤنة
كثير من المعارك التي يمكن أن يجيرها الحداثيون لصالحهم تحت حجة مواجهة
التكفير، أو غيرها من الحجج.
- د. إبراهيم الخولي: هل هي مصادفة أن يكون عامة الحداثيين في بلادنا
من اليساريين ومن المراكسة على التحديد، لن نطعن في ضمير أحد، فالضمائر لله،
لكن عندما يصنف هؤلاء ويعلنون بألسنتهم وأقلامهم ويفخرون أنهم مراكسة، وأنا
أقول لا يمكن أن نقبل دعوى ماركسي أنه ماركسي ومسلم، إن كان ماركسياً فليس
بمسلم، وإن كان مسلماً فلا يمكن أن يكون ماركسياً؛ لأن جذر الماركسية الإلحاد.
- د. مصطفى حلمي: معاداة الحداثيين العرب للإسلام جاءت بسبب نشأتهم
نشأة فلسفية على أساس أن الفلسفة في جانب والدين في جانب، بينما جاءت
المذاهب الفلسفية المختلفة في الغرب متأثرة إلى حد بعيد بالعقيدة النصرانية،
فـ (روسو) يدين إلى البروتستانتية والكاثوليكية، كما دان (كونت) إلى تقواه،
أما (ديكارت) صاحب مبدأ الشك الذي أسيء استخدامه، فقد تلقى تعليمه من
جماعة (الجزويت) ، والتي يصفها (برتراند راسل) بأنها جماعة تتسم بالإخلاص
الكامل للقضية والمهارة في الدعاية، وكان لاهوتهم هو اللاهوت المضاد
للاهوت البروتستانت.
(روسو) صاحب (العقد الاجتماعي) كان له كتاب آخر حول «عبقرية
المسيح» ، ويصف (برتراند راسل) طريقة (روسو) في الدفاع عن الاعتقاد
الديني بالقوي، وله عبارات كثيرة تدل على اقتناعه بعقيدة البروتستانت المحدثين؛
منها قوله: «أنا لا أستنبط هذه القواعد (قواعد السلوك) من مبادئ فلسفية عالية،
ولكن أجدها في أعماق قلبي، كتبتها الطبيعة بحروف لا تنمحي» .
ويقول في رسالة إلى سيدة أرستقراطية لديها شك في الإله: «انظري إلى
شروق الشمس وهي تبدد الغيوم التي تغطي الأرض، وتكشف عارياً منظر الطبيعة
اللامع، تبدد في عين اللحظة كل سحابة من نفسي، أجد إيماني من جديد، وإلهي
واعتقادي فيه.. أنا أعجب به أعشقه وأخر ساجداً في حضرته» .
(روسو) يصفه (مل بترو) بأنه راهب سافوي: «إني أعترف لكم أن
قداسة الإنجيل حجة تتحدث إلى قلبي، ويؤسفني ألا أجد صددها رداً حسناً انظروا
إلى كتب الفلاسفة بكل ما تحمل من دلائل؛ فما أصغرها إلى جانب هذا الكتاب،
إنكم تعارضونني بـ (سقراط) وحكمته وعقله، ولكن ما أبعد الشقة بينه وبين ابن
العذراء المسيح» .
- أ. محمد مبروك: لا يمكن أن ننفي حضور المسيحية في تراث الحضارة
الغربية، ولكن لو تحدثنا عن الفكر الأساسي الذي يوجه النخبة، فهذا الفكر إلى ما
قبل العصر الذي نعيشه الألفية الثالثة يتطور داخل السياق العلماني، وإن يكن
بعض الفلاسفة البارزين لم ينفصلوا عن التأثر بالمسيحية؛ خصوصاً المثاليين من
العلمانيين إشارة إلى (ديكارت، بركلي) ، والإشارة إلى (روسو) لها قيمتها؛
لأنه يمثل وضعية خاصة داخل إطار مدرسة الاستنارة؛ لأنه كان الاستناري الوحيد
المتمرد على فلاسفة الاستنارة، وكانت مشاكله مع (فولتير، وبورون، ودلامير)
شديدة الخطورة، هذا من ناحية.. وإن كنت أشكك في حقيقة ادعاء (روسو)
ميله للمسيحية الغربية.
أما بالنسبة للواقع المعاصر فحين نتكلم عن مراحل الحداثة، أعتقد أن هناك
علاقة بين الميل إلى المسيحية مرة أخرى وبين الآثار النهائية لفكر ما بعد الحداثة
التدميري، ومحاولة الغرب التحول إلى سياق آخر من العلمانية، وإن يكن ما زال
كل اهتمام الغرب بالدين هو اهتمام يدخل في طريقة التعامل البراجماتية النفعية مع
الدين كنوع من التأويل الذي يتناسب مع اللذة والمصلحة والمنفعة.
البيان: في التعامل مع النص الشرعي؛ كيف تكون مسلك الحداثيين في ظل
القطيعة؟
- د. إبراهيم الخولي: بداية إذا كان هدفنا من دراسة الكتاب والسنة الوقوف
على مراد الله من خطابه، فهم ينفون القصد جملة؛ إذن دخل عنصر جديد، ومعنى
هذا أنه لا يعنيهم في تناول القرآن الكريم أو تفسيره أن يسألوا ما مراد الله من هذه
الآية ماذا تعني: [الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ] (النور:
٢) ؛ ماذا يعني: [وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ
اللَّه] (المائدة: ٣٨) ؛ إذن ليس الهدف الآن معرفة مراد الله من هذا الخطاب،
وبالتالي آيات الأحكام تسقط.. ليس هناك آيات تشريع.. تسقط ويصبح النص
القرآني كأي نص قابل للتأويل، وهذا يدخلنا في التأويلية والتركيز على المتلقي،
والمتلقي في النهاية سيقرأ قراءة فاسدة وجميع قراءات النص تكون بذلك قراءات
سيئة، وهذا يفضي إلى فوضى القراءة، ويصبح القارئ هو الذي يصنع النص،
والنص يصنع بعدد قرائه.. أي فوضى هذه وماذا بقي؟ وتذهب: [فَاسْأَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] (النحل: ٤٣) هباءً، ومنهج المسلمين الذي علمه
القرآن إياهم أن من القول محكماً ومتشابهاً، وعلمهم منهج التناول، وكيف تحل
إشكالية المتشابه بحمله على المحكم فيذهب إشكاله: [هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ
مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغ]
(كالحداثيين والتأويليين) ، [فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ
وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ] (ليس إيمان تسليم
فقط، لكن تسليم مع) [كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا] (آل عمران: ٧) ، فنحمل المتشابه
على المحكم فيزول الإشكال.. [يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ] (الفتح: ١٠) ، تحمل
على: [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ] (الشورى: ١١) ، وتحسم
القضية.. هذه الأصول ينسفها الحداثيون نسفاً.
- د. علاء عبد العزيز: مسألة موت المؤلف تنتهي بنا إلى نزع القداسة عن
أي كتب سماوية، إذا كانت المسيحية الغربية نزعت القداسة عن الكتاب ودخلت في
دائرة الهرمنيوطيقا كما عند (شوماخر) وندخل في الدائرة العريضة لأسباب
التأويل، التأويل ارتبط أصلاً بالنص الديني قبل أن يرتبط بالنص الأدبي، لكنه
انتقل إلى النص الأدبي، ثم أتى الحداثيون العرب ليقلبوا المسألة ويأخذوه إلى تأويل
القرآن، ويبدؤون في عياثة الفساد زاعمين أنه نص قابل للتأويل والدراسة كما لو
كان كتاباً أرضياً.
الكارثة أننا نأخذ هذه المقولات أمراً واقعاً ونسلم بها، الأخطر من ذلك أنه
ليست هناك اجتهادات فردية، ولكن هناك شبه نظام مؤسسي يؤيد هذه المقولة
ويدعمها ويرددها ويفتح لها الأبواق؛ إذن المسألة ليست مجرد اجتهادات من
مجموعة من أفراد حداثيين، وإنما تشعر كما لو كان هناك مؤسسة حداثية تتحرك
في السينما والمسرح والأدب والشعر والموسيقى.
البيان: وجّه أحد المثقفين اتهاماً للقائمين على الثقافة في بلاده بأنهم ليس
لديهم أي رؤية أو خطة أو تصور لتوجيه الثقافة خلال السنوات المقبلة، وهذا ما
اعترف به وزير الثقافة، ألا يعد هذا تناقضاً بين واقع الحداثيين وبين ما يدعونه
من تنوير وثقافة؟
- د. إبراهيم الخولي: هذا من طبيعة الأمور، فعدم امتلاك الرؤية يتماشى
مع العبثية التي يحياها الحداثيون قلباً وقالباً، فهم لا يملكون سوى الشعارات
والإلهاء، وهي حيلة المفلس، لقد فشل الحداثيون في جميع المشاريع التي رفعوها،
ولم تزد عن أن تكون شعارات للاستهلاك الزمني لتخدير الأمة للانصياع لهم، ما
تلبث أن تنكشف فتسقط ثم يرفع غيرها إلى حين، وإذا نظرنا إلى طبيعة الفكر
الحداثي وجدناه ثورة على النظم والقيم، وإشاعة لروح التفسخ والانحلال، أو ما
يسمونه في الغرب التفكيك، فلا غرابة عندي من افتقاد هؤلاء لأي رؤية هادفة.
البيان: كيف يمكن أن نقرأ الواقع الحداثي في ظل التناقضات الحاصلة؟
- د. إبراهيم الخولي: تناقضات المشهد الحداثي ومفارقاته لا تنتهي، وكل
منها يعد فضيحة جديرة بأن تسقط دعاة هذا الفكر في بلادنا، وكثير منها يحتاج إلى
تأمل، وتستثير السخرية. فبينما هي تبشر الإنسان العربي بالحرية؛ إذ جاءت
سحقاً للإنسان وافتئاتاً على الأمة المسلمة في امتلاك قرارها، وحيث يكون الكفر
والشذوذ مطلباً ومأرباً تكون الحرية هي الشعار، وحين تصرخ الأمة بالأخذ على
أيدي المفسدين وتطالب بالحرية المزعومة يرفعون شعار: «لا حرية لأعداء
الحرية» ، وهكذا نلحظ مفارقة ثانية هي خطيئة لدى الحداثيين حين تتحيز الحرية
في مفهومها إلى حرية معينة يؤمن بها الحداثيون ويسعون إليها دون غيرها، ومن
المعلوم أن النسبية التي يؤمنون بها تقتضي غير ذلك.
وحين ترفع الحداثة شعار التسامح نجد أن الحداثيين من أشد الناس عصبية
وشراسة وعدوانية مع مخالفيهم وخصومهم، وهذا متسق مع المسلك الغربي الذي
يدينون له تماماً، ولا نفهم كيف يكون التسامح في ظل نسبية الأخلاق أو قل
انعدامها، ومن يعايش الواقع الحداثي أو يتابعه سيرى تورم الذات والعدوانية
والشللية والإرهاب الفكري واستبعاد الآخر وإقصاءه، ليس مع المخالفين من غير
الحداثيين فحسب بل حتى مع أبناء ملتهم من الحداثيين.
وإذا كان الحداثيون يرفضون التراث بزعم امتلائه بالأساطير والخرافات؛
فلماذا تشحن أعمالهم بالأسطورية سواء في الفن أو الأدب والشعر، ويرون في
أساطير اليونان والرومان والهند والصين روائع يشاد بها وتضمن أعمالهم
مفرداتها، بينما حقائق القرآن في نظرهم ميتافيزيقا وخرافات.
وبينما هم منفتحون تمام الانفتاح على الآخر؛ تجدهم منغلقين عن ذاتهم
الحضارية الأصلية المتمثلة في الإسلام وأهله، فتعاملوا كما لو كان الآخر هو ذاتهم،
وذاتهم الأصلية هي الآخر، ومارسوا أقسى ألوان التشويه وجلد الذات معها بحق
وبغير حق.
ثم كيف يدعي هؤلاء التنوير وهم لا يملكون مشروعاً حقيقياً للنهضة وأعمالهم
مبنية على الغموض والتفاهة؟ ويدّعون الجماهيرية وهم محبوسون في أبراج
النخبوية العاجية؟ يرمون علماء الأمة بالكهنوتية وحراسة الأفكار واحتكار تأويل
النص وهم برآء من ذلك؛ ثم نجدهم يمارسون الكهنوتية ويحرسون حداثتهم بالحد
والحديد، فيسفهون عقول المخالف لهم بحجة أنهم وحدهم الذين بلغوا الشأو في فهم
الحداثة، ويحتكرون الإبداع، ولا يطيقون أن يقترب أحد بالنقد لأعمالهم مهما بلغت
من الانحطاط؟!
ينفِّرون من الهوية الإسلامية بحجة طرح الرجعية جانباً من أجل التقدم، ولا
يأنفون من الانتساب إلى حضارات بائدة حصرت الإنسان في المادة، وأشقته بالكفر
وأرهقته بالظلم.
يسخرون ويستهزئون بأحكام الإسلام بينما يحتفلون بالهندوكية ويدينون
بالإعجاب للبوذية!
ثم لماذا يتبنون الفكر الغنوصي وينشرون أدب جلال الدين الرومي وهرطقات
ابن عربي، وتهويمات ابن الفارض، وكفريات الحلاج وأمثالهم من فلاسفة الحلول
والاتحاد، ويجعلونها قرآناً ويقدمونها في ثوب التحرر، ويستخرجون من التاريخ
صفحات الحركات السرية الهدامة التي شهدها التاريخ الإسلامي على يد القرامطة
والزنج والحشاشين، ويقدمونها على أنها النموذج ويطمسون الصفحات المضيئة من
تاريخ الأمة؟
البيان: الإبهام مفارقة من مفارقات الحداثة التي تدعي التنوير والتحضر،
وهي سمة غالبة في شعر الحداثة ما سببها؟
- د. إبراهيم الخولي: ظاهرة الغموض والإبهام في أدب الحداثة يتصور في
حصوله عدة أسباب: أولها: جهل أغلب الحداثيين باللغة ودلالات ألفاظها، وسبب
ثان: ميل الحداثيين إلى نشر أفكارهم دون اصطدام بالأمة خاصة في حالات اليقظة
وفي وضح الأمر، فهم يميلون نحو الغموض على طريقة الباطنية من أجل ترويج
ما يريدون دون أن يلحقهم أذى. ومن الأسباب أيضاً العشوائية والعبثية والهذيان
الفكري وعدم وضوح الهدف؛ حيث تشعر أن الواحد منهم لا يدري ذاته ماذا يريد،
فهل يملك أحد من الحداثيين أن يجيبنا: كيف يكون الإبهام المطبق تنويراً؟ ومن
هنا اضطر الحداثيون لفتح باب التأويلية والبنيوية والتفكيكية، وهو ما أدى إلى
الفوضى وما بات يعرف بالتشظي.
- د. مصطفى حلمي: الحداثيون يجعلون من الإبداع قيمة مطلقة تفوق كل
القيم، حتى ينفتح لهم الباب للنيل من عقائد الأمة وأخلاقها وتدنيسها، ومن يكشف
جرمهم يرمونه بقائمة من الاتهامات المسبقة؛ كممارسة التكفير وشهوة تصنيف
الناس والجهل بالإبداع والرجعية والتخلف والظلامية، ولو ساغ القول لقلنا إن
الحداثيين يمارسون التكفير لكن وفقاً لمفاهيمهم هم، حين يتهمون غيرهم بالرجعية،
أو الظلامية، وهم يتقنون كيل التهم والرمي بها جزافاً، وهم يرمون من وراء هذا
إلى إسقاط المرجعية الإسلامية من المجتمعات واستبدالها بمرجعية هلامية يعلون فيها
من الكفر والفسوق والعصيان باسم الإبداع، فيضيقون على العلماء والدعاة
ويسلبونهم حق البيان الذي استرعاهم الله إياه.
- د. علاء عبد العزيز: حين يُسقط الحداثيون المرجعية الإسلامية يلجؤون
إلى مرجعية مستوردة بديلة؛ هذه المرجعية تتبطن أعمالهم سواء على مستوى الفن
التشكيلي، أو على مستوى الأدب، أو على مستوى الشعر، أو على مستوى الفنون،
هذه الأعمال تشيع أفكار ومفاهيم وآراء ووجهات نظر تشكل رؤية الإنسان للكون،
وإذا كانت الثقافة هي نتاج للدين والأخلاق، فإن إسقاط الدين جانباً وإزاحة الأخلاق،
فإن النظرة الكلية للكون والحياة تتبدل، ومن هنا يصدق القول بأن الحداثة
ليست مجرد مذهباً في الأدب أو نظرية في الفن، وإنما هي نظرة شاملة للوجود.
- د. مصطفى حلمي: أود أن ألفت النظر إلى المقابلة المصطلحية التي ذيل
بها علي عزت بيجوفيتش كتابه «الإسلام بين الشرق والغرب» ، تكشف لنا كيف
نعيش الصراع المصطلحي في حياتنا بين مصطلحات مادية وأخرى نصرانية -
يروج لهما الحداثيون - وثالثة إسلامية، حيث نظرة الإسلام الشمولية للإنسان
ككيان يجمع بين الروح والجسد، بينما تتعامل المادية مع الإنسان كجسد،
النصرانية مع الإنسان كروح:
فالضرائب ومصادرة الملكيات في المادية / يقابلها الإحسان والصدقة في
النصرانية / ويقابلهما في الإسلام الزكاة.
ويقابل الإنتاج / الصلاة التأملية في النصرانية / والصلاة في الإسلام.
ويقابل المدرسة والمعمل في المادية / المدرسة والدير والمتحف الفني في
النصرانية / ويقابلهما في الإسلام المسجد والمدرسة.
والقوة / المعنويات / الشريعة.
الصراع الطبقي والعنف في استخدام المصلحة / الحب واللاعنف / العدالة
والجهاد.
الفارس المناضل السياسي البطل / القديس والراهب / الشهيد.
اخلق رغبات جديدة في المادية / اقهر الرغبات في النصرانية.
فكل منظومة مصطلحية من هذه.. تعبِّر عن رؤية كلية للوجود، هذه
المصطلحات نجد أنه عبر الفن والإعلام والتعليم؛ يتم إزاحة المنظومة الإسلامية
لصالح المنظومتين الأخريين.
البيان: موقف الحداثيين من اللغة العربية موقف استعلاء واستبدال كلي
ضمن المنظومة الحداثية القائمة على القطيعة؟
- د. علاء عبد العزيز: اللغة العربية هي الوحيدة التي تستطيع أن تتواصل
خلالها مع تراث أجدادك حتى الشعر الجاهلي منذ ١٤ قرناً، فلو وقعت القطيعة التي
يسعى إليها الحداثيون، وهجرت مفردات اللغة الأصلية؛ فإن ذلك يعني القطيعة مع
القرآن والسنة والتراث، والدعوات إلى القطيعة سواء الداعية إلى استخدام الحرف
اللاتيني في الكتابة بدلاً من العربية، أو إلى نشر العامية، أو إلى مزاحمة العربية
بإحياء اللهجات غير العربية واعتبارها لغة رسمية، كما هو الحال في الأمازيغية،
أو حتى تغريب العلم من خلال تدريسه بلغات أجنبية في التعليم.. كل هذا يرمي
إلى قطيعة.. ربما لم نحس بخطرها على مستوى اللغة العربية بعد؛ لأن القرآن
الكريم حفظ للغة العربية تواصلها عبر أجيال طويلة جداً، بينما في المقابل لو
نظرنا إلى لغات أخرى كالروسية نجد أن تغييرها بقرار من (لينين) أحدث قطيعة
مع التراث القديم للروسية، وكما فعل (أتاتورك) حين ألغى الحروف العربية
واعتمد الحروف اللاتينية لكتابة التركية، فانقطعت صلة الأجيال الحديثة بتراثها،
كذلك نصوص شكسبير في اللغة الإنجليزية القديمة لا يستطيع المعاصر أن يفهمها
نتيجة لتطور اللغة وخروجها عن قواعدها الأصلية.
ومن هنا تنشط الدعوات إلى نشر العامية من خلال مهرجانات ومسابقات
للشعر العامي، وجعل العامية لغة سائدة في وسائل الإعلام لتجذر القطيعة مع
العربية.
وعلى مستوى الشعر نجد الاتجاه إلى الشعر غير المقفى، والشعر العامي
لضرب جميع الأشكال المرتبطة بالتراث حتى على مستوى الشعر، ثم يتم التعامل
مع اللغة من خلال نظريات مستوردة، وهذا يشوهها كثيراً، هذا القطع لماذا يأتي
ومن أين يأتي؟ فإذا ما نظرنا إلى مردود هذا في الشارع نجده خطيراً للغاية.
- د. إبراهيم الخولي: الحداثيون لا يدركون ماذا في نسيج هذه الحداثة
أصلاً من تراثنا المسروق، ولو أخذنا (دي سوسير) مثالاً وهو أس وقاعدة
البنيوية وما وراءها، لو أردنا أن نقيم مقارنات بين ما طرحه من فكر وبين ما كتبه
عبد القاهر الجرجاني تحديداً في «الدلائل والأسرار» ؛ لقلنا إن (سوسير) يرى
صورة عبد القاهر في مرآة نفسه وينقل منها، إن أساس فكر (دي سوسير)
اللغوي هو التفرقة بين اللغة والكلام، وهذا ما طرحه عبد القادر تحديداً، وهو
منطلق فلسفة عبد القاهر اللغوية والبلاغية، وإذا كان الغرب لا يزال حتى الآن
يشقشق حول المعنى والمضمون والبنية، فإن عبد القاهر بضربة قاضية قضى على
«ثنائية اللفظ والمعنى» منذ عهد باكر بـ «نظرية النظم» ، وقدم لنا نظرية
لغوية بلاغية في آن معاً، وهذا ما لا نرى له نظيراً في كل شقشقات الغرب حتى
انتهاء بـ (ريشاردز) الذي يسمى بأبي النقد الغربي الحديث، ثم ما أنتجته
والحداثة ثم البنيوية وما إليها؛ انتهى به الأمر في النهاية إلى تخليهم عن كل ذلك.
البيان: قضية المرأة قضية لها محوريتها ضمن أجندة الحداثة العربية
خاصة في ظل العولمة، بما تحمله من هجوم على جميع القيم التي تحفظ للمرأة
فطرتها وعفافها؛ سواء كان الحجاب أو الأسرة والزواج أو القوامة؟
- د. مصطفى حلمي: هذا دليل على التزام الحداثيين وعبوديتهم للفكر
الغربي بالنسبة للمرأة؛ ما هى المرأة؟ هل هي كائن هلامي؟ ما مكانة المرأة في
الإسلام؟ هي أمٌّ.. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «أمك.. أمك.. أمك» ،
هي زوجة.. وفي الحديث: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي» ..
بالنسبة للابنة؛ معاوية - رضي الله عنه - له قصة جميلة عندما رأى ناساً في
حضرته يكرهون البنات فقال لهم: «لا تقولوا هذا إنها تفاحة القلب، هي التي
تمرضني إذا مرضت، وتبكي عليَّ إذا مت» .. كما تكون خالة أو عمة.. إلخ
وكلنا يعرف صلة الرحم، وهذا ما يجهله الحداثي.
- أ. محمد مبروك: قضية الحجاب هل هي قابلة لأن يكون لها تأويل
حداثي؟
- د. مصطفي حلمي: الأمر لا يحتمل التأويل بل هو الرفض للنص الإلهي.
- د. إبراهيم الخولي: موقفهم من المرأة امتداد لمبدأ اللذة والشهوانية الذي
يدينون به، حين تحتشم المرأة وتخفي زينتها وتتستر.. حين تعتز بطهرها؛ يُحرم
هو من هذا التمتع الذي جعله الإسلام تمتعاً حراماً حين أمر بغضِّ البصر وحين
وحين وحين ... ، هو يريدها سلعة مباحة، والمرأة الآن في المنطق الغربي سلعة
مباحة.. بكل المعاني حين توضع فتاة الغلاف.. حين تستخدم في الإعلان، وحين
تقدم في الحانات للمتعة، وحين يقال إن نص القرآن ليس فيه لفظ حجاب؛ فإن هذا
كذب على الله، واتجار بأمور لا يفقهون منها إلا ما لقنهم أربابهم من المستشرقين؟
البيان: «الدياثة الفكرية» ، و «الإيدز الثقافي» مصطلحات شاعت في
السنوات الأخيرة؛ تعبيراً عن الانفلات الثقافي في ظل الترويج للعولمة والسعي
في أمركة المجتمعات الإسلامية.. هل يمكن تصور مقاومة من الحداثيين لفكر
العولمة في ضوء ما يؤمنون به من أفكار؟
- د. مصطفى حلمي: لا يمكن للحداثيين بالطبع مقاومة فكر العولمة؛ لأن
ما يؤمنون به من نسبية يفتح الباب على مصراعيه أمام قيم العولمة، بدءاً بالأخلاق
وانتهاء بالولاء والواقع يشهد بهذا، وقد رأينا كيف تخلى كثير من اليساريين ممن
أصيبوا بداء النسبية؛ تخلّوا عن عقيدتهم الثورية بغضِّ النظر عن صوابها أو
خطئها في تقييمنا وانقلبوا دعاة للتطبيع والعولمة والقبول بهما كأمر واقع، أما القلة
منهم إن وجدوا من دعاة القومية المستقلة الذين يرفعون شعار المقاومة فهم يعانون
من مأزق التعارض بين ما يؤمنون به من نسبية وما ينادون به من خصوصية
يمكنها أن تسقط المطلق الحداثي؛ إذ لا سبيل لتفضيل شيء على آخر وفقاً لنسبيتهم،
ومن ثم فلا مجال للمقاومة لديهم، وهذا مأزق لدى البعض منهم، أما إذا تحدثنا
عن عمالة الكثيرين كما لبعض الدوائر الغربية، كما أكدت عدد من الكتب الصادرة
أخيراً في الغرب، اعتماداً على تقارير للمخابرات الأمريكية أُفرج عنها مؤخراً،
عن تقاضي عدد من رموز الحداثة في بلادنا لمرتبات شهرية من المخابرات
الأمريكية.
البيان: وكيف نقرأ واقع المجتمعات الإسلامية في ظل سيطرة الفكر الحداثي
على التوجيه الجماهيري؟
- د. مصطفى حلمي: هناك انقلاب وتبدل مستمران وكبيران في منظومة
القيم بين الأجيال الناشئة التي تعاني اليوم أكبر أزمة في تاريخ الأمة، ملامح هذه
الأزمة تتجلى في التبدل المستمر والسريع في طريقة التفكير ونمط الحياة، وفي
الملبس والسلوك وفي الطموحات التي يرمي إليها الشباب، حيث تغلب فيها المادي
على المعنوي، وتشيع السلبية والعزلة الاجتماعية، وتستبدل القيم الفردية محل قيم
الأمة والجماعة، اليوم تسعى الحداثة قصداً وعمداً إلى إفساد مناخ التنشئة بمختلف
أبعادها، وقد رأينا حصاد ذلك في تزايد الانحرافات الأخلاقية، وتزايد العنف
وسيادة قيم الاستهلاك الترفي، واستغلال الإعلام استغلالاً قوياً في استمالة الشاب
للحاق بالغرب، والسخرية من المقدسات باسم الترويح، بالإضافة إلى ما تعرض له
الإعلانات من ثقافة بديلة، وإذا ما نظرنا في الأمر وجدنا أن الفن هو أخطر
الأدوات التي نجح من خلالها الحداثيون في تشويه المجتمع وهويته على هذا النحو.
البيان: سيطرة الحداثيين على الفن مكنهم من التوجيه الاجتماعي والقيمي،
وهم اليوم بين متحدث عن مجتمع علماني فرضوه بالعصا والجزرة، ومتحدث
عن ثنائية ثقافية، علمانية / إسلامية، وكلاهما مخيف ومفزع؟
- د. علاء عبد العزيز: الفن أخطر الوسائل التي استخدمت في التغيير
الاجتماعي، وتغيير السلوك والعادات، حيث بدأت إعادة تشكيل الوعي في العالم
الإسلامي أو العالم العربي مع بدايات ظهور السينما في العالم العربي على وجه
التحديد بدءاً من مصر، وقد أمر (نابليون) (كليبر) بإقامة فرقة مسرحية، ودعا
الناس إلى حضورها سعياً منه لتغيير عادات المصريين. ثم أتى الفن السينمائي،
وكان لسان حال الغرب بعاداته وتقاليده، فالقيم الجديدة تأتي عن طريق الصورة
وعليك أن تتلقاها، وأنت تتلقاها يحدث (التسريب اللاشعوري إلى الوجدان) ،
فعند المشاهدة ترى رجالاً يحتسون الخمر في الإفطار.. تفاجئ بعادات وتقاليد
غريبة على واقع المجتمع؛ رجال تقبل النساء، النساء ترتدي أزياء عارية ...
ومع الوقت تحدث الإزاحة التدريجية للدين والقيم والتقاليد و.. و ... إلى الهامش،
وتحل الصورة محل كل شيء في الاقتناع، ولهذا يصح القول إلى حد كبير إننا
نحيا ثنائية ثقافية في حال غيبة الوعي في المجتمع.
- أ. محمد مبروك: في رأيي أن الفن أخطر سلاح في العالم بعد القنبلة
الذرية.. إذا لم يعِ الإسلاميون هذا فإنهم سيضارون ضرراً بالغاً، فهذا السلاح إذا
لم تستخدمه أنت استُخدم ضدك، المصيبة الكبرى أن غالب المسلمين لا يعون هذا
بالفعل، وأن هناك تكاسلاً وتغافلاً إسلامياً في هذا المجال، ونتيجة أني تغافلت
وتكاسلت عن إنتاج إبداعات خاصة بي ومدارس فنية تتعلق بتياري، هذا أعطى
فرصة للحداثيين أن تذاع مداركهم وأفكارهم، صحيح أنهم يُدعمون وأن هناك
مؤامرات، ولكن الخواء في إبداعي أنا أعطاهم الفرصة أكثر، وهذا يجعلنا نقف
وقفة طويلة أمام السينما والفن، فأنا في رأيي أن الفن الآن ليس مجرد مهم وذا تأثير
كبير على الناس، ولكنه أخطر سلاح يمكن استخدامه في التغيير الاجتماعي
والثقافي.
- د. علاء عبد العزيز: أنا لا أهاجم السينما ولا المسرح ولكن هذه الوسائل
والفنون مثلها مثل السكين قابلة أن تطعن بها وقابلة أن تستخدمها في منافعك،
وتحويل استخدامها إلى شيء سيئ عيب في المستخدم لا في الأداة، وهذا يسري
على جميع وسائل وأدوات تشكيل الوعي من الصحافة والتلفزيون والمذياع والكتب؛
إذ هي وسائل في حد ذاتها.
- د. إبراهيم الخولي: لكن من بين الفنون ما هو محرم كالباليه، والنحت.
- د. علاء عبد العزيز: الفن التشكيلي ليس له أي تأثير على مستوى رجل
الشارع وكذلك الباليه، ولنتكلم بصراحة؛ فالناس تنظر إلى الفن التشكيلي على أنه
حرام، وهذا متأصل لا شعورياً بداخلهم، فالصلة منبتة بينهم وبينه لأنه «شغل
خواجة» ، ولهذا ليس له أي مردود في الشارع.. والنحت كذلك، حتى المسرح
تقلص. أما السينما والتلفزيون باعتبارهما أكبر وسيلتين لتغيير السلوك الاجتماعي،
فعندما تنظر لتجد أن الممثل يتحول إلى مثال يحتذى على مستوى الملبس والسلوك
والشكل، كما يتم محاكاته وتقليده على مستوى الكلام والحوار والألفاظ، واللوازم
وطرق الحديث، أصبحت الأفلام والمسلسلات هي مصدر ثقافة الجماهير، حتى
أدق وأخطر المعلومات التاريخية صارت تُستقى من الأفلام، وهذه خطورة السينما
في توجيه وتغيير وتعديل السلوك.
البيان: يعترف كثير من أهل الفن أن نسبة ضخمة من الأفلام والمسرحيات
مستوحاة من أعمال فنية غربية، وغالباً ما تكون منقولة بتفصيلاتها، وبما
تحمله من معالجات تختص بالواقع الغربي يقدرها البعض بأكثر من ٨٠%.
- د. علاء عبد العزيز: ليس على مستوى بناء الأعمال فقط ولكن أيضاً
استيراد ونقل المصطلحات والمدارس الفنية التي في الغرب دون أي وعي بمفهوم
الخصوصية الثقافية، وهذا كارثة.. المسرح العبثي مثال واضح على ذلك.. أيضاً
رأينا أن مفهوم التجريد في الفن الإسلامي يختلف تماماً وكلياً عن مفهوم التجريد في
الفن الغربي.
حتى الفن التشكيلي تؤخذ مدارس لا يجوز أن تؤخذ مثل المدرسة الانطباعية،
مثلاً في رسم اللوحات تكون الألوان في الغرب نتيجة لغياب الشمس ألواناً باهتة
ضبابية.. المنازل أسقفها مائلة لأن المطر غزير.. تفاجئ في لوحات الفنانين
التشكيليين العرب ينقلون هذا كما هو دون أي تغيير، أما بالنسبة للألوان عندي
فالشمس عندي واضحة الإضاءة كل شيء عندي واضح.
كذلك على مستوى الزي، وشيوع مفهوم الموضة، فالسترة المأخوذة من ستر
الجسد، تحولت هذه السترة إلى أنها تطوّل وتقصّر دون معايير أو ضوابط دينية
للزي عند المرأة.
حتى العمارة فالعمارة لها فلسفة لها رؤية إلى الكون والحياة؛ في الماضي
التركي الإسلامي كان هناك الحرملك والسلاملك مأخوذة من: «الحرام لك،
والسلام لك» ؛ مكان لك الحق أن تدخله، ومكان ليس لك الحق في أن تدخله،
لكن تحت دعوى الضرورة وظروف المعيشة الجديدة نجد الجدران قد أزيلت
والأبواب مفتحة؛ إذن زوجتك مباح النظر إليها عبر هذه المساحة الفسيحة داخل
البناء.. هكذا تتمدد الحداثة دون وعي منا.
البيان: يرى بعض المراقبين للساحة الإسلامية والعربية أن تغلُّب الحداثيين
على الساحة وإقصاء قوى الأصالة ليس إلا صورة من صور التغلب بالقوة، وأن
الهزيمة التي منيت بها هذه القوى لم تكن أبداً ثقافية، وإنما أمنية بالدرجة الأولى،
ولعل أقرب تعبير يحضرني في تصوير آليات المواجهة هو تعبير تشومكسي في
توصيف السلوك الأمريكي بـ «إسكات الديمقراطية» مع الفارق طبعاً، كما أنه
أشبه بسلوك شارون في المواجهة مع الفلسطينيين، هكذا يصنع الحداثيون، فإذا
كان الأمر كذلك فكيف تُتصور المواجهة؟
- د. إبراهيم الخولي: المواجهة مع العلمانيين تتناول كل الأبعاد، تتناول ما
يطرحه كفكر، تتناول دعوته وتبشيره لهذا الفكر، وتتناول موقفه العملي في ضوء
هذا الذي يتبناه من الدين والتراث عندنا كوني أنتهي في النهاية إلى إصدار حكم
عليه أو لا أصدر حكماً ليست هذه هي القضية التي تعنيني، لكن أقول ما يطرحه
فلان من الحداثيين ينتهي في التقويم الإسلامي إلى كفر، ما يبشر به ينتهي إلى
حرابة في مجتمع الإسلام، حين يدعو إلى الإلحاد، فحين يأتي علماني يعتقد ما
يشاء.. في جلساته الخاصة هو حر، لكن حين يعتلي منابر إعلام ومنابر فكر
وينشر ويدعو ويصبح داعية إلحاد في مجتمع المسلمين؛ يدخل تحت حد الحرابة
والإفساد في الأرض، فإن لم يتب يطبق عليه حد الردة وحكمت المحاكم على أمثال
هؤلاء بالردة وإن كانوا هربوا أو أخرجوا، وأذكر هنا قول الله عز وجل: [لَئِن
لَّمْ يَنتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ
يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً * سُنَّةَ اللَّهِ فِي
الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً] (الأحزاب: ٦٠-٦٢) . سنة الله
في المجتمعات قاطبة أن تطهر مجتمعاتها من الهدامين فيها، الشيوعيون صنعوا هذا
والرأسماليون والدنيا كلها تطهر مجتمعاتها مما تعتقد أنه هدم، ونحن بالمقياس
الإسلامي عادلون تماماً، وإلى أبعد حدود التجرد في إعطاء هؤلاء حق أن يعتقدوا
ما يعتقدون، لكن حين يتحول من معتنق إلى داعية وإلى مبشر وإلا فلم نواجه نحن
التبشير في بلادنا فلنترك هؤلاء على الأقل يبشرون بدين يزعم له أنه دين، لكن أن
يبشر بإلحاد، وهؤلاء جميعاً ينطبق عليهم قول الله تعالى: [أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ
هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن
يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّه] (الجاثية: ٢٣) نحن لا نحاول مع هؤلاء إلا بمقدار إقامة
الحجة عليهم: [لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى
رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ] (الأعراف: ١٦٤) .
- أ. محمد مبروك: في المواجهة مع العلمانيين والحداثيين لدي ملحظان
مهمان للغاية:
الأول: يتعلق بما له أولوية في المواجهة، فينبغي ألا نشغل بالنا أكثر
بالأساس الفكري للحداثة، وهو الإلحاد والانتماء إلى إحدى المدارس العلمانية
وجودية أو براجماتية، فينبغي أن ينصب النقاش على أساس الفكر الحداثي، ولا
نسمح لهؤلاء أن يجرونا إلى قضايا فرعية أو جزئية يسترون خلفها إلحادهم، قد
يكون الرد على الشبهات بشأنها مهماً لكن الأهم حصر الحداثي في فكره، وتناقضاته،
ومن هنا أؤكد على المفكرين الإسلاميين الذين يواجهون العلمانية ألا يسمحوا
للحداثيين في الحوار بسحبهم نحو قضايا فرعية متعلقة بالإسلام كمسألة المرأة
والحرية الشخصية، أو الجمع بين التراث والمعاصرة ويحاول المسلم أن يقنعه بأن
الإسلام فيه كذا وكذا من الميزات، فتتحول المسألة إلى انتقاءات كمية هل هنا
أفضل أم هنا كل هذا له مرتبة تالية، أما القضية الأساسية مع الحداثي فهي إلحاده،
والذي يهمني مواجهة هذه الأفكار الحقيقية التي تنتمي إليهم، والتي تمثل الإلحاد
والعجز الفكري الغربي، لذلك على الإسلاميين أن يقفوا في هذه المنطقة، ولا نعني
بذلك التهوين من الرد على الدعاوى التي يعلنونها، ولكن الرد على الدعاوى التي
يعلنونها تأتي في أولوية تالية.
وأما الأمر الثاني: فيسير متوازياً مع مواجهة الأسس الفكرية، هو بذر الثقة
بالنفس في عامة الناس، وبالتالي لا أستبعد أن أقول أن ما لدي أفضل مما عندهم،
فالعامة لهم ما يناسبهم من الخطاب، والمثقفون لهم أيضاً ما يناسبهم من نقد وتعطيل
للأطر الثقافية التي يتحرك فيها الحداثيون، ومنطق العامة أن أدعم وأقوي الثقة
بالذات، فهناك تفاوت في المستوى والاستيعاب لهذا علينا التعامل مع كلا المستويين.
البيان: سؤال أخير: كثيراً ما يلح علينا، وهو أن المراقب لجميع المعارك
التي وقعت مع العلمانيين والحداثيين من جهة وقوى الأصالة من علماء ودعاة
وغيورين؛ بدءاً بمعركة تحرير المرأة مع قاسم أمين، ومروراً بالإسلام وأصول
الحكم لعلي عبد الرازق، ووصولاً لمعركة القرآن في الشعر الجاهلي لطه حسين،
وانتهاء بمعارك مثل الوليمة وقوانين المرأة نجد إذا ما بحثنا في السياق التاريخي
لهذه المعارك أن قوى الأصالة هي التي انتصرت وألجمت دعاة «الغربنة» ،
لكننا نصدم فيما بعد بالنتائج الفعلية تصب في صالح «الغربنة» ، إذ حرفت
حقيقة هذه المعارك ووقعت الأجيال الجديدة في الخديعة ودفع المجتمع نحو مزيد
من العلمنة.
- د. مصطفى حلمي: في الحقيقة أن مسألة مثل هذه تحتاج إلى تقصٍ
ودراسة عميقة، وتتبع لما كان يجري، ولكن باختصار هنا يحضرني كلام لمالك
بن نبي - رحمه الله - حول قيام قوى الاستعمار باصطناع هذه المعارك، واصطياد
وقودها عبر الإغراءات المادية والمعنوية، والزج بهم في هذه المعارك، لكن مع
إقامة الحجة وبيان الحق للناس، وانحياز المجتمع لحقائق الإسلام، إلا أننا نجد أنه
ومع مضي الوقت تبدأ قوى الاستعمار في اتخاذ تحركات فعلية، وتحركات من
شأنها أن تطور الأمر في الاتجاه الذي تريده، والأمر بالنسبة لها لا يعني سوى
الكمون شيئاً من الزمن حتى ينسى الناس هذه المعارك، حيث تقوم هذه القوى
بعمليات مخططة ومنظمة من تشويه قوى الأصالة وشغلها في معارك جانبية
مستمرة، مع ما يتم من تركيز الأضواء على مسائل ورموز بعينها تفرض مع
الوقت المشروع التغريبي، كما تقوى بإنساء المجتمعات حقيقة هذه المعارك وما نجم
عنها، ثم تقوم بدهاء وخبث شديدين، وباستخدام آلة الإعلام الجبارة، بإسدال
ستار الصمت والنسيان حول النتائج الفعلية لهذه المعارك، ثم تشرع في عملية
إبدال وإحلال مستمرة للمفاهيم والسلوكيات يتناسى الناس معها هذه المعارك في ظل
واقع ضاغط، ويسلمون لكل الرؤى التي تفرضها عليهم هذه القوى عبر عملائهم،
ومن هنا، فإن تحكم هؤلاء أو لنقل تمكينهم من توجيه الساحة الثقافية والإعلامية
والتعليمية، يمكنهم من تزييف الوعي بحقيقة تلك المعارك.
وفي الجهة الأخرى نجد أن قوى الأصالة تفتقد إلى تدوين هذه المعارك تدويناً
أميناً يسهل من عملية التواصل بين أجيال الأصالة، ثم ما يشغل به هؤلاء قوى
الأصالة من معارك جديدة لا تنتهي، والتشويه المستمر لهم، يفتح الباب واسعاً أمام
إضعاف أثر قوى الأصالة في توجيه المجتمعات، ومن هنا فلا بد من استرجاع هذه
المعارك وتوثيقها، وتوعية الأجيال بها، والبناء عليها، خاصة في ظل إفلاس
الحداثة والعلمنة وانكشاف أوراقها.
نشكر لضيوفنا الكرام هذا الجهد الطيب.. ونسأل الله تعالى أن ينفع به
الإسلام والمسلمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.