الورقة الأخيرة
المشهد الأخير من رحيل الألباني.. رحمه الله
د. محمد محمود أبو رحيم
لقد ذكرني المشهد الأخير من جنازة الشيخ أبى عبد الرحمن بأول لقاء معه
رحمه الله قبل ثلاثين عاما؛ حيث كنت يومها متدثرا بلباس التصوف، أمرغ الخد
على أعتاب أشياخه.
يومها كان الجهل قد غرر كانون٢ بكسب كان للأشياخ نصيبا مفروضا في
صناعته، لم يكن جهلا بالحلق والذكر والخلوات البدعية؛ فقد أتقنها حتى غاليت
في بعضها، فوجدتني قد نذرت للرحمن صوما إلا عن شيخي في الطريقة الذي ولد
في نفسي قدرته المزعومة على فتح المغاليق إلى ملك لا يبلى.
يومها كنت جاهلا بما يدور حولي، وحول من تدور عليهم دعاوى التجهيل
والتضليل؛ فكان ما كان مني نحو الشيخ أبي عبد الرحمن ومنهجه من كوامن ضدية
دفعتني لسؤاله وأنا تحت تأثير خلفيات التحدي: لماذا تحارب الأئمة الأربعة؟ هكذا
كان يشيع من لم يرقهم طريقته السلفية.
لم يكد يخرج السؤال من بين شفتي وأنا شاب في السنة الأولى في كلية
الشريعة حتى وجدت برد كفه الناهم يأخذ بكفي نحو مقعد جانبي يحاورني بكل هدوء.
خرجت من عنده وقد علتني دهشة دفعني فضولها إلى مواصلة لفائه والتعرف
على ما عنده رحمه الله فإذا كانون٢ أقف على عالم متخصص، ومحاور عنيد،
يحيي السنة ويميت البدع، داعية إلى التوحيد الخالص، حرب على الشرك بأنواعه، تعلوه نضرة الحديث.
شهوده زواجي من فتاة سورية اختارها لي زوجته خديجة قادري، وشهد لي
بمتابعة الدراسة العالية في جامعة أم القرى شهادة مكتوبة حفظت في ملفي الشخصي.
انقطعت لطلب العلم، ولم انقطع عن الشيخ رحمه الله وفي أثناء ذلك وجدت
الشيخ قد اصطدم بثلاث فئات من الناس:
الفئة الأولى: فئة العلماء الذين يقرون له بالفضل والسبق في العلم؛ حيث
ناقشوه مناقشة العالم للعالم، لم يخرجهم خلافهم معه عن حسن الأدب للتقدير للشيخ
رحمه الله كان منهم: الشيخ العلامة ابن باز رحمه الله والشيخ الأنصاري، والشيخ
عمر فلاتة، وغيرهم كثر.
الفئة الثانية: فئة المتسلقين من الأصاغر الذين وجدوا في كتف الشيخ رحمه
الله ورعايته وتوجيهه مخرجا مقنعا لهم وفجوة يعبرون من خلالها لتحقيق أحلامهم
وتعويض إخفاقهم على مقاعد الدراسة.
الفئة الثالثة: فرق الضلال وأهل الانحراف فقد أوجعوه تجديعا، يحدوهم
التعصب والهوى والتقليد الأعمى، فصال عليهم رحمه الله بحجته: قال الله، قال
رسوله. فبدد شمل أدلتهم، وبين قصر فهمهم، وأعاد الراحلة إلى جادة الطريق.
استغل هؤلاء والحاسدون بعض كبوات الشيخ رحمه الله ظنا منهم أن الفارس
قد هوى، وغاب عنهم أن اجتهاد العالم مأجور عليه غير مأزور؛ لكنه العمى أطفأ
نور الحق من الصدور فغابت عنهم أشياء وأشياء.
وقبل انسدال المشهد الأخير من حياة الشيخ دفعني الشوق إلى عيادته في
مرض موته مع جمع من أهل العلم والفضل، فرأيت جسدا قد علته صفرة
الرحيل وغلبه النحول وتمكن داء الهرم، قبلت يده ورأسه فرد بصوت خافت هادئ
ينبئ عن ذهن حاضر لم يختلط، حمل بعضنا أمانة إبلاغ سلامة إلى أحبابه، وما
هي إلا أيام معدودة حتى فاضت روحه فأدركته يوم الدفن، وانسدل الستار على
جسد إمام من أئمة المسلمين ليلحق بمن سبقه من علماء الأمة العاملين.
اللهم ارحم عبدك الألباني، وأكرم نزله ووسع قبره مد بصره، وتجاوز عما
بدر منه اجتهادا أخطأ فيه؛ إنك سميع مجيب الدعاء.