للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

التجديد في الإسلام

(٤)

الإمام الشافعي

لا خلاف بين من يعتد برأيه من المسلمين أن الإمام محمد بن إدريس الشافعي

هو معلمة بارزة من معالم ثقافتنا الإسلامية، وإذا جاز لنا أن نباهي الثقافات والأمم

الأخرى بعالم نعتز به، هو نتاج خالص لديننا وحضارتنا، وهو نبت أصيل للفكر

الإسلامي وللعبقرية الإسلامية في الفقه والتشريع، وفي وضوح الفكرة وسمو

التعبير عنها؛ فليس ثَم إلا الإمام الشافعي.

وُلد الشافعي بغزة سنة ١٥٠هـ، وغزة ليست موطن آبائه، وإنما خرج أبوه

إدريس إليها في حاجة، فمات هناك، وولد له ابنه محمد، وبعد سنتين من ميلاده

حملته أمه إلى موطن آبائه (مكة) ، وبها نشأ يتيماً في حجر أمه، فحفظ القرآن

صغيراً، ثم خرج إلى هذيل بالبادية فحفظ كثيراً من شعرهم، ثم عاد ولزم مسلم بن

خالد الزنجي، وهو شيخ الحرم ومفتيه، وقد قال له شيخه - وهو ابن خمس عشرة

سنة -: (أفتِ يا أبا عبد الله، فقد - والله - آن لك أن تفتي) .

ثم طلب الشافعيّ من شيخه أن يكتب له إلى مالك بن أنس - إمام دار الهجرة

ومحدثها - فكتب له، فرحل إلى المدينة، حتى أتى مالكاً، وكان قد حفظ الموطأ،

فقرأه عليه، وكان مالك يعجب بقراءته.

اكتسب الشافعي خلال هذه الفترة فقه مسلم بن خالد، وحديث إمامين عظيمين، إليهما انتهى حديث أهل الحجاز وهما:

سفيان بن عيينة في مكة، ومالك بن أنس في المدينة.

قدم الشافعي العراق ثلاث مرات:

* المرة الأولى عام ١٨٤ هـ، حيث حمل - بأمر الرشيد - إلى العراق

بتهمة التشيع، وفي هذه القَدْمة اختلط الشافعي بفقهاء العراق، واطلع على طرائقهم، والتقى بمحمد بن الحسن الشيباني (صاحب أبي حنيفة - رحمه الله -) ، وله

مناظرات معه، اطلع الرشيد على بعضها فسُر بها وأعجب بها وأكثر هذه

المناظرات موجود في كتب الشافعي.

* ثم عاد إلى الحجاز، وبقي بمكة مدة، ثم عنَّ له أن يقدم العراق

ثانية، وكان ذلك عام ١٩٥هـ، بعد أن مات الرشيد، وفي هذه المرة كان ... صيته قد ذاع وانتشر، ولُقب (بناصر السنة) وعظمت منزلته حتى انضم إليه جماعة من العلماء، وصاروا يأخذون عنه، وتركوا ما كانوا عليه من طرائق سابقة، وهناك أملى عليهم كتبه التي كتبها في مذهبه القديم، وأقام سنتين، ثم عاد إلى الحجاز.

* وفي عام ١٩٨هـ قدم العراق للمرة الثالثة، ولم يلبث إلا أشهراً ومن هناك

سافر إلى مصر، فدخلها سنة ١٩٩هـ، " فأقام بها إلى أن مات، يعلم الناس السنة

وفقه السنة والكتاب، ويناظر مخالفيه ويحاجهم، وأكثرهم من أتباع شيخه مالك بن

أنس، وكانوا متعصبين لمذهبه، فبهرهم الشافعي بعلمه وهديه وعقله، رأوا رجلاً

لم تر الأعين مثله، فلزموا مجلسه، يفيدون منه علم الكتاب، وعلم الحديث،

ويأخذون عنه اللغة والأنساب والشعر، ويفيدهم في بعض وقته في الطب، ثم

يتعلمون منه أدب الجدل والمناظرة، ويؤلف الكتب بخطه، فيقرؤون عليه ما

ينسخونه منها، أو يملي عليهم بعضها إملاءً، فرجع أكثرهم عما كانوا يتعصبون

له، وتعلموا منه الاجتهاد ونبذ التقليد، فملأ الشافعي طباق الأرض علماً) . ... (مقدمة تحقيق الرسالة للشيخ أحمد محمد شاكر ص٧) .

وخطوات حياة الشافعي، وتفصيلات سيرته ودقائقها قيدها العلماء الذين

أفردوا مؤلفات في سيرته ومناقبه - رحمه الله - ومن أشهرهم:

البيهقي، والفخر الرازي، وابن حجر العسقلاني. ومن أفضل من ترجم له

ترجمة مختصرة وافية كافية بعيدة عن الفضول النووي في كتابه: تهذيب الأسماء

واللغات.

على أن الذي يعنينا الآن هو أثر الشافعي في التشريع الإسلامي، والإضافة

التي أضافها، فاعتبر - بحق - مجدد المائة الثانية وخير ما يمثل الأساس الذي بنى

عليه الشافعيّ فقهه هو رسالته الأصولية، التي تعتبر أول مؤلف في أصول الفقه،

واعتبر الإمام الشافعيّ بسببها الواضع الأول لهذا العلم.

قال تلميذه المزني في الرسالة: (قرأت الرسالة خمسمائة مرة، ما من مرة إلا ...

واستفدت منها فائدة جديدة) .

وقال أيضاً: (أنا أنظر في الرسالة من خمسين سنة، ما أعلم أني نظرت

فيها مرة إلا استفدت منها شيئاً لم أكن عرفته) .

سبب كلام الشافعي في أصول الفقه:

بيّن ذلك العلامة شاه ولي الله الدهلوي - رحمه الله - في رسالته (الإنصاف

في بيان سبب الاختلاف) (ص٥٢) - فقال:

(.. إن الأوائل كان يجتمع عند كل واحد منهم أحاديث بلده وآثاره، ولا تجتمع أحاديث البلاد، فإذا تعارضت عليه الأدلة في أحاديث بلده حكم في ذ لك التعارض بنوع من الفراسة بحسب ما تيسر له. ثم اجتمعت في عصر الشافعي أحاديث البلاد جميعها فوقع التعارض في أحاديث البلاد ومختارات فقهائها مرتين:

* مرة فيما بين أحاديث بلد وآخر.

* ومرة في أحاديث بلد واحد فيما بينها.

واقتصر كل رجل بشيخه فيما رأى من الفراسة، فاتسع الخرق، وكثر

الشغب، وهجم على الناس - من كل جانب - من الاختلافات ما لم يكن بحساب،

فبقوا متحيرين مدهوشين، لا يستطيعون سبيلاً، حتى جاء تأييد من ربهم، فألهم

الشافعي قواعد جمع هذه المختلفات، وفتح لمن بعده باباً، وأي باب) اهـ.

وهكذا كتب الشافعي (رسالته) التي تعتبر من أعظم الآثار الإسلامية، ولو لم

يكن للشافعي إلا هذا الأثر لكفاه لكي يوضع في سجل الخالدين، ويكفي دليلاً على

ذلك اهتمام العلماء " بالرسالة " وحرصهم على اقتنائها ودرسها قديماً وحديثاً.

أسس فقه الشافعي:

الشافعي يحتج بظواهر القرآن حتى يقوم دليل على أن المراد بها غير ظاهرها، ثم السنة، وقد دافع دفاعاً شديداً عن العمل بخبر الآحاد، ما دام راويه ثقة ضابطاً، وما دام متصلاً برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد نال بنصره السنة

المكانة العظيمة عند أهل الحديث حتى أطلقوا عليه لقب (ناصر السنة) ، وهو يرى

أن السنة الصحيحة كالقرآن في وجوب اتباعها، وعبارته في ذلك مشهورة: (وأن

من قَبِلَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعن الله قبِل) .

ويقول بالإجماع، ومعناه عنده عدم العلم بوجود خلاف، فإذا لم يكن هناك

دليل منصوص عمد إلى القياس.

وقد أبطل الاستحسان، وردّ على من قال به بشدة، وما أحسن قولة الشيخ

أحمد محمد شاكر في مقدمة تحقيق الرسالة (ص٥٥) :

(إن هذا الرجل لم يظهر مثله في علماء الإسلام، في فقه الكتاب ... والسنة، ونفوذ النظر فيهما، ودقة الاستنباط، مع قوة العارضة، ونور

البصيرة، والإبداع في إقامة الحجة، وإفحام مُناظره. فصيح اللسان، ناصع البيان، في الذروة العليا من البلاغة. تأدب بأدب البادية، وأخذ العلوم والمعارف عن أهل الحضر، حتى سما عن كل عالم قبله وبعده. نبغ في الحجاز، وكان إلى علمائه مرجع الرواية والسنة، وكانوا أساطين العلم في فقه القرآن، ولم يكن الكثير منهم أهل لَسَنٍ وجدل، وكانوا يعجزون عن مناظرة أهل الرأي، فجاء هذا الشاب يناظر وينافح، ويعرف كيف يقوم بحجته، وكيف يلزم أهل الرأي وجوب اتباع السنة، وكيف يثبت لهم الحجة في خبر الواحد، وكيف يفصّل للناس طرق فهم الكتاب على ما عرف من بيان العرب وفصاحتهم، وكيف يدلهم على الناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة، وعلى الجمع بين ما ظاهره التعارض فيهما، أو في أحدهما. حتى سماه أهل مكة (ناصر الحديث) ، وتواترت أخباره إلى علماء الإسلام في عصره، فكانوا يفدون إلى مكة للحج، يناظرونه ويأخذون عنه في حياة شيوخه) .

ومن الأمور التي يمتاز بها الشافعيّ عن غيره من العلماء أنه هو الذي

أصّل أصول مذهبه، وكتب الكتب التي تعتبر متناً لفقهه.

(وأما مذهب الشافعي فأكثر المذاهب مجتهداً مطلقاً، ومجتهداً في المذهب،

وأكثر المذاهب أصولياً ومتكلماً، وأوفرها مفسراً للقرآن وشارحاً للحديث، وأشدها

إسناداً ورواية، وأقواها ضبطاً لنصوص الإمام، وأشدها تميزاً بين أقوال الإمام

ووجوه الأصحاب، وأكثرها اعتناءً بترجيح بعض الأقوال والوجوه على بعض،

وكل ذلك لا يخفى على من مارس المذاهب واشتغل بها) (رسالة الإنصاف للدهلوي، ص٨٥) .

وقد غلب في عرف العلماء المتقدمين والفقهاء الخراسانيين على متبعي مذهبه

لقب (أصحاب الحديث) في القديم والحديث، كما قال النووي، لكنه اعترف -

أعني النووي - بأن أكثر متأخري الشافعية لم يلتزموا طريق الشافعي في التزامه

بالأحاديث الصحيحة، وتركه الضعيفة والواهية. (تهذيب الأسماء واللغات ١/٥١) .

تجديد الشافعي:

* إن المأثرة الكبرى للشافعي هي رد الناس إلى السنة بعد أن اختلط الأمرعلى كثير من العلماء، وتمايزوا إلى طبقتين متنافرتين متباعدتين، ... على ما في كل منهما من الحاجة إلى الأخرى، وهم أصحاب الحديث، وأهل الفقه والنظر.

* والمأثرة الثانية: التزامه بالدليل، ودورانه معه حيث دار، ونبذه

للتقليد، فقد قال لأحمد بن حنبل: (أنتم أعلم بالأخبار الصحيحة منا، فإذا كان خبر صحيح فأعلموني حتى أذهب إليه؛ كوفياً، أو بصرياً، أو شامياً) (حجة الله

البالغة، ١/ ١٤٨) . وقال أيضاً: (إذا صح الحديث فهو مذهبي) .

وقال أيضاً: (إذا رأيتم كلامي يخالف الحديث فاعملوا بالحديث،

واضربوا بكلامي الحائط) .

وقال تلميذه المزني: (اختصرت هذا من علم الشافعي، ومن معنى قوله، لأقربه على من أراد، مع إعلامه نهيه عن تقليده، وتقليد غيره، لينظر فيه لدينه، ويحتاط لنفسه) (مختصر المزني على هامش الأم، ١/٢) . ...

وقد كانت آراء الشافعي وفقهه تطبيقاً عملياً لهذه الميزة، قال ابن تيمية

في الفتاوى (٢٠/٣٣٢) :

(.. ثم إن الشافعي - رضي الله عنه - لما كان مجتهداً في العلم، ورأى من الأحاديث الصحيحة وغيرها من الأدلة ما يجب عليه اتباعه - ...

وإن خالف قول أصحاب المدنيين - قام بما رآه واجباً عليه، وصنف الإملاء على مسائل ابن القاسم، وأظهر خلاف مالك فيما خالفه فيه، وقد أحسن الشافعي فيما فعل، وقام بما يجب عليه، وإن قد كره ذلك من كرهه وآذوه، وجرت محنة مصرية

معروفة) .

الميزة الثالثة: أنه لما رأى أن أصول الآراء ليست مضبوطة عند الفقهاء قبله، وكان يتطرق إليها الخلل بسبب ذلك؛ وضع أصول الفقه، ودوّن ... (الرسالة) .

الميزة الرابعة: تفريقه بين الرأي والقياس:

فقد (رأى قوماً من الفقهاء يخلطون الرأي الذي لم يسوّغه الشرع بالقياس الذي أثبته، فلا يميزون واحداً منها من الآخر، ويسمونه تارة بالاستحسان - وأعني بالرأي أن ينصب مظنة حرج أو مصلحة علة لحكم، وإنما القياس أن تخرج العلة من الحكم المنصوص ويدار عليها الحكم - فأبطل هذا

النوع أتم إبطال وقال:

(من استحسن فإنه أراد أن يكون شارعاً) .

وبالجملة، فلما رأى الشافعيّ في صنيع الأوائل مثل هذه الأمور أخذ الفقه من

الرأس فأسّس الأصول، وفرع الفروع، وصنف الكتب، وأفاد وأجاد، واجتمع

عليها الفقهاء، وتصرفوا اختصاراً وشرحاً واستدلالاً وتخريجاً، ثم تفرقوا في

البلدان (حجة الله البالغة للدهلوي، ١/١٤٧) .

الميزة الخامسة: أن الشافعي لم يحصر نفسه في دائرة علم الحديث وحده، أو الفقه وحده، بل كان محدثاً فقيهاً وفقيهاً محدثاً، بل تعداهما إلى أن يكون حجة في

غيرهما، كاللغة، والشعر، والأنساب، قال الإمام أحمد بن حنبل:

(الشافعيّ فيلسوف في أربعة أشياء: في اللغة، واختلاف الناس، المعاني والفقه) (مناقب الشافعيّ للبيهقي، ٢/٤٢) .

وهذا ما أكسبه سعة الأفق، وعمق البحث، وقوة العارضة والذي نحب أن

نشير إليه هنا هو عدم اكتفائه بفصاحته الموروثة، فهو (عربي الأصل، عربي

اللسان) ، بل نراه أقام على العربية وأيام الناس عشرين سنة، وقال: ما أردت

بهذا إلا الاستعانة على الفقه (مناقب الشافعيّ، ٢/٤٢) .

وفصاحة الشافعي في مناظراته وكتبه مما لا تحتاج إلى إقامة الدليل عليها،

ولكننا نشير إلى هذه الميزة وننوه بها؛ لما نراه من تقصير - من الدعاة وطلبة العلم

وورثته في هذا العصر - في تعلم العربية، وزهدهم بها، وعدم إحلالها المحل

الذي تستحق من اهتماماتهم، بل وإشاحتهم عن التزود بما لا يحسن جهله منها شأن

علمائنا السابقين الذين كانوا يرون تعلم لغة القرآن ديناً، وما لا يتم الواجب به فهو

واجب.

فعندما نقرأ قول الشافعي: (أروي لثلاثمائة شاعر مجنون) وأنه أخذ عنه

كبار علماء العربية شعر هذيل لا نطالب حَمَلَة الدعوة الإسلامية اليوم بما يشبه ذلك، ولا بعشر معشاره، ولكن نطالبهم أن يحبوا لغة قرآنهم، ولغة نبيهم - صلى الله

عليه وسلم -، وحاوية ثقافتهم، وعنوان هويتهم. وأن يبتعدوا عن كل ما من شأنه

تنقص هذه اللغة، وأن ينبذوا الأفكار الشعوبية التي أطلت برأسها من جديد، مسلحة

بإعلام قوي تنفق عليه مئات الملايين، فألقت بظلالها على فكر كثير من المسلمين،

الذين أصبحوا ينشدون الإسلام من المصادر الأعجمية، غير مبالين بما لذلك من

مردود مرذول، سيعلمون نبأه بعد حين.

بعض أقوال العلماء في الإمام الشافعي:

إن أقوال العلماء في بيان فضل الشافعي، وشهاداتهم له تعز عن الحصر،

وقد اخترنا بعضها إشارة بالجزء على الكل، واكتفاءً بالقليل عن الكثير.

قال الزعفراني: (كان أصحاب الحديث رقوداً، فأيقظهم الشافعي فتيقظوا) .

وقال الإمام أحمد: (ما أحد مس بيده محبرة ولا قلماً، إلا وللشافعي في رقبته منّة) ، وبعث إليه أبو يوسف (صاحب أبي حنيفة) يقرئه السلام ويقول: (صَنف الكتب، فإنك أولى من يصنف في هذا الزمان) .

وقال أبو حسان الرازي: (ما رأيت محمد بن الحسن يعظم أحداً من أهل العلم تعظيمه للشافعي - رحمه الله -) .

وقال أبو عبيد القاسم بن سلاَّم: (ما رأيت أحداً أعقل ولا أورع ولا ... ... أفصح ولا أنبل رأياً من الشافعي) .

وقال الكرابيسي: (ما رأيت مجلساً قط أنبل من مجلس الشافعي، كان ... يحضره أهل الحديث، وأهل الفقه، وأهل الشعر، وكان يأتيه كبار أهل ... اللغة والشعر، فكلٌّ يتكلم فيه) رضي الله عنه.