في بداية الشتاء خرجت من منزلها باكراً، عندما بدأ حاجب الشمس بالشروق، و (امتطت) صهوة سيارتها (البورش) ذاهبةً ـ إن لم تخنّي ذاكرتي ـ إلى مقر عملها الواقع في شمال مدينتها، ولم يكن السير في هذه الساعة يبعث على السعادة؛ فسيارات العاملين والعاملات، وأصحاب الأعمال، ومديرات الأقسام، تأخذ حيّزاً من الطريق السريع ذي المسارات الأربعة. على أية حالة وعلى أنغام مسجّل سيارتها كانت تمضي (العنود) . غير أن ما عكّر عليها مزاجها أن إحدى عجلات البورش أعلنت الإضراب عن الدوران، والحمد لله كانت العواقب سليمة؛ فهي ملتزمة بالسرعة القانونية داخل الطريق (٨٠ كلم) . عندها ترجَّلَت من سيارتها بحركة (شبابية) ملقية من على كتفها (العباءة) كي تقوم بإصلاح الإطار؛ فالمثل يقول: اِلبس لكلّ حالةٍ لبوسها.. لكنّها فوجئت بعشرة من الشباب العاطلين عن العمل مستعدين لخدمتها ممّن (لم تُدرَج أسماؤهم تحت قائمة طالبي الوظائف من المؤسسات الأهلية) .
ولك أن تستغرب هذه (الفزعة) في طريق سريع يكتظ بالسيارات في مثل هذه الساعة المبكرة صباحاً (٧.٤٥) .. ولكن بعد (فك العجلة.. والتربيط) قامت العنود (مجاملة) بشكر اثنين منهم على خدماتهما المتميزة، وأصرّت على الحصول على أرقام هاتفيهما للحاجة! ثم (شكرتهما مودّعةّ لهما) .. وركبت (البورش) ثانيةً وضغطت (دوّاسة الوقود من الغضب مما أثار غضب عجلاتها التي قامت بإصدار صوت يشبه ما يفعله المراهقون أيام قيادتهم المبكّرة) ..
على العموم؛ واصلت طريقها، ثم انحرفت بعد ذلك إلى يمين المنعطف الكبير الذي ينزلها إلى مواقف مؤسستها العقارية، لتجد على بوّابة المواقف، حارسة الأمن (نورة) التي كانت ترتدي القميص السماوي والبنطال الأزرق لتأخذ مفتاح السيارة فتدخلها (المرآب) .. ثم صعدت العنود عن طريق المصعد إلى الدور السابع حيث يقبع مكتبها العقاري، واستقبلها السكرتير الخاص بالمكتب من الجنسية ... ! بابتسامته (المشهود لها بالبراءة التامة!) فدخلت إلى مكتبها الواسع الذي تجزم عند رؤيتك له بأن تجهيزه قد تم بطريقة لو علم بها أصحاب الديكور (لحسدوها عليه) ..
ألقت العنود بنفسها على كرسيها الدوار وضربات قلبها ما زالت تعيش همّ مشوارها الذي استمرّ معها ما يزيد على ساعة وربع ساعة ... ومن غير شعور رجعت بذاكرتها تلقائياً إلى لحظة خروجها من المنزل ثم (تحمية السيارة) والتأكد من (مستوى الزيت في المحرك) وأنها اضطرت لتتأكد من (ضغط هواء العجلات) .. ثم تذكرت تلك اللحظة التي نزلت فيها من السيارة بعد تشغيلها لتجلب شيئاً من البيت، وعند رجوعها وجدت أنها أغلقت الباب على المفاتيح، فأخرجت (جوالها الجديد الذي اشترته قريباً) لتتصل بالعامل القادر على استخراج مفتاحها، وكيف جاء الرجل إليها وطلب مبلغ (٢٥٠ ريالاً) بجشع واستغلال للموقف، وأطلقت تنهيدة وهي على كرسيها الدوار وهي تتذكر نظراته وهو يصلح المقبض ليفتح السيارة، وكيف كادت عيناه أن تشبه عيني ذئب قد ظفر بصيد لا يقدّر بثمن، وأرسلت العنود دمعة من عينيها، وضغطت على أسنانها وهي تتذكر (النقيبة خلود التي أوقفتها وأعطتها قسيمة على صرير العجلات) .
وفجأة ضربت العنود طاولة المكتب (الفاخر) بيديها بقوة، حين تذكرت زوجها وهو يأخذ لحاف النوم ليعلن لها (أنه عازم على المضي في نومه) وصوته ينبعث من تحت اللحاف وهو يقول: (يالعنود ... ودّي البنات للمدرسة.. ومرّي السوق وهاتي الخضار.. وبعد الظهر مرّي على الجوازات جدّدي الجواز؛ لأني سأسافر هذا الصيف) .
ونظرت حولها في المكتب الواسع، ثم دارت بكرسيها الدوّار أكثر من مرة وهي مسترخية، مطلقة لخيالها الرجوع إلى تلك الأيام الخوالي التي كان زوجها أحمد يقوم بإيصالها، وأيام كان جارهم سعد (عند الحاجة وغياب زوجها أحمد يقوم بإيصالها مع زوجته) فصرخت وهي على كرسيها الدوّار: اتركونا.. اتركونا، وفجأة سمعت صوت زوجها وهو يقول: العنود! العنود! قومي حبيبتي.. (عسى ما شر!) ففتحت عينيها؛ فإذا هي في غرفتها الوردية.. ونظرت إلى الساعة فإذا هي الرابعة فجراً، وإذا زوجها أحمد أمام عينيها.. وهو يهدّئ من روعها: عسى ما شر، فأطلقت تنهيدة لو قُدِّر لك سماعها لبكى قلبك لها وهي تتمتم بهذه الكلمات والتي تخرج من بين شفتيها: الحمد لله، الحمد لله أن ذلك لم يكن حقيقة.. لم يكم ذلك حقيقة.. الحمد لله.