للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دراسات في الشريعة

وتوبوا إلى الله جميعاً

فيصل بن علي البعداني

[email protected]

للأزمات أثرها في شعور الناس بضعفهم وعجزهم، يصاحب ذلك تطلع إلى

الخلاص، فإذا المرء يتلفت عن يمينه وشماله بحثاً عن مخرج، فهناك تتجه

النفوس إلى خالقها، حتى إن المشركين إذا مسهم الضرّ دعوا الله مخلصين له الدين!

تلك الفرصة السانحة من إقبال القلوب على الله تعالى هي مفتاح الفرج، إذا

ما أُحسن استثمارها بابتداء عملية مراجعة شاملة للنفس، مع صدق العزم على

المضي في التغيير الجاد الذي جعله الله شرط تغيرُّ الأحوال: [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا

بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] (الرعد: ١١) .

ولمسيس حاجة الأمة أفراداً وجماعات إلى المراجعة والتوبة، وخاصة في

مثل هذه الظروف العصيبة.. جاء هذا المقال، أسأل الله أن ينفع به.

* حقيقة التوبة:

التوبة: رجوع العبد إلى ربه تعالى؛ بفعل الطاعة واجتناب المعصية،

ومفارقة طريق المغضوب عليهم والضالين. فهي رجوع عما تاب منه العبد إلى ما

تاب إليه.

فالتوبة المشروعة هي: الرجوع إلى الله، وفعل ما أمر به، وترك ما نهى

عنه، وليست التوبة من فعل السيئات فقط كما يظن كثير من الناس، ولايتصورون

التوبة إلا عما يفعله العبد من الفواحش والمظالم، بل التوبة من ترك الحسنات

المأمور بها أهم من التوبة من فعل السيئات المنهي عنها، فأكثر الخلق يتركون

كثيراً مما أمرهم الله به من الأقوال والأعمال، وقد لا يعلمون أن ذلك مما أُمروا به،

أو يعلمون الحق ولا يتبعونه، فيكونون: إما ضالين؛ بترك العلم النافع، وإما

مغضوباً عليهم؛ بالإعراض عن الحق بعد معرفته.

* منزلتها:

وردت العديد من النصوص التي تبين فضل التوبة وعظم منزلتها، ومن ذلك

أنها:

١ - سبب لنيل محبة الله عز وجل: كما قال تعالى: [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ

وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ] (البقرة: ٢٢٢) ؛ إذ في التوبة تقرب من الله تعالى بالإقدام

على الطاعة واجتناب المعصية، وذلك عن طريق الظفر بحب الله، كما جاء في

الحديث القدسي أنه عز وجل قال: «وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما

افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه» [١] .

٢ - سبب للفلاح في الدنيا والآخرة: كما قال الله عز وجل: [وَتُوبُوا إِلَى

اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (النور: ٣١) ، ومن دلائل ذلك حديث

أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض

فدُلَّ على راهب فأتاه، فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً؛ فهل له من توبة؟ قال:

لا. فقتله فكمَّل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدُلَّ على رجل عالم،

فقال: إنه قتل مائة نفس؛ فهل له من توبة؟ قال: نعم، ومن يحول بينه وبين

التوبة، انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا

ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء. فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت،

فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً

مقبلاً بقلبه إلى الله. وقالت: ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط. فأتاهم ملك

في صورة آدمي فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى

فهو له. فقاسوه فوجوده إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة» [٢] ، فهذا

الرجل لم يعمل خيراً قط لكن حين تاب أفلح وسعد.

٣ - سبيل عدم الخوض في الظلم: كما قال الله عز وجل: [وَمَن لَّمْ يَتُبْ

فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (الحجرات: ١١) .

قال ابن القيم: «قسم العباد إلى تائب وظالم، وما ثَمَّ (هناك) قسم ثالث

ألبتة، وأوقع اسم الظالم على من لم يتب، ولا أظلم منه لجهله بربه وبحقه،

وبعيب نفسه، وآفات عمله» [٣] .

٤ - سبب لتكفير السيئات ودخول الجنات: كما قال عز وجل: [يَا أَيُّهَا

الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ

وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ]

(التحريم: ٨) . وقال عز وجل: [وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ

ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا

وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ

خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ العَامِلِينَ] (آل عمران: ١٣٥-١٣٦) . وقال صلى الله

عليه وسلم: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» [٤] . وقال صلى الله عليه

وسلم: «اتق الله حيث ما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق

حسن» [٥] . وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا عملت سيئة فأتبعها بحسنة تمسحها»

[٦] . وقال صلى الله عليه وسلم: «يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما

الآخر، كلاهما يدخل الجنة. فقالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: يقاتل هذا في سبيل

الله عز وجل فيُستشهد، ثم يتوب الله على القاتل فيُسلم، فيقاتل في سبيل الله عز

وجل فيُستشهد» [٧] .

٥ - سبب لتبديل السيئات حسنات: كما قال الله عز وجل: [إِلاَّ مَن تَابَ

وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً]

(الفرقان: ٧٠) ، وعن أبي طويلٍ رضي الله عنه أنه قال: «أتيت النبي

صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت من عمل الذنوب كلها ولم يترك منها شيئاً، وهو

في ذلك لم يترك حاجة ولا دَاجَة إلا أتاها؛ فهل لذلك من توبة؟ قال: فهل أسلمت؟

قال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. قال: تفعل الخيرات،

وتترك السيئات فيجعلهن الله لك خيرات كلهن. قال: وغدراتي وفجراتي. قال:

نعم. قال: الله أكبر. فما زال يكبر حتى توارى» [٨] .

٦ - سببٌ لسلامة القلب ونقائه: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال

رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن العبد إذا أخطأ نُكتت في قلبه نكتة سوداء،

فإذا هو نَزَع واستغفر وتاب صُقل قلبه، وإن عاد زيد فيه حتى تعلو قلبه، وهو

الران الذي ذكر الله [كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ] (المطففين:

١٤) » [٩] .

٧ - سبب لتحصيل دعاء الملائكة واستغفارهم: كما قال عز وجل حكاية عن

الملائكة أنهم يدعون الله قائلين: [فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ

الجَحِيمِ] (غافر: ٧) .

* الترغيب في التوبة:

وردت العديد من النصوص التي تأمر بالتوبة وترغب فيها، ومن ذلك:

١ - قول الله عز وجل: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً]

(التحريم: ٨) .

٢ - وقوله تعالى: [وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]

(النور: ٣١) .

٣ - وقوله سبحانه: [أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ]

(المائدة: ٧٤) .

٤ - وقوله تعالى: [قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن

رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ] (الزمر: ٥٣) .

٥ - وعن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

«إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار

ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» [١٠] .

٦ - وعن رفاعة الجهني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه

وسلم: «إن الله يمهل حتى إذا ذهب من الليل نصفه أو ثلثاه قال:» لا يسألن

عبادي غيري، مَنْ يدعني أستجب له، مَنْ يسألني أعطه، مَنْ يستغفرني أغفر له.

حتى يطلع الفجر « [١١] .

٧ - وعن صفوان بن عسال رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم:

» إن للتوبة باباً عرض ما بين مصراعيه ما بين المشرق والمغرب، لا يغلق حتى

تطلع الشمس من مغربها « [١٢] .

٨ - وعن أنس رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم:» لله أشد

فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه؛ من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت

منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، قد أيس من

راحلته، فبينما هو كذلك؛ إذ بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة

الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك!! أخطأ من شدة الفرح « [١٣] .

٩ - وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

» لو أخطأتم حتى تبلغ خطاياكم السماء، ثم تبتم لتاب الله عليكم « [١٤] .

١٠ - وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:» كل

بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون « [١٥] .

* حكم التوبة:

التوبة نوعان: واجبة ومستحبة:

فالواجبة: هي التوبة من ترك واجب أو فعل محظور، وهذه واجبة على

جميع المكلفين؛ إذ تجب التوبة على جميع العباد من ذنوبهم ومعاصيهم؛ لقوله عز

وجل: [وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (النور: ٣١) ،

وقوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً] (التحريم: ٨) .

وهذا الوجوب واجب على الفور لا التراخي؛ لأن ظواهر النصوص، ووضع

اللغة يدلان على ذلك، ولأن التنفيذ على الفور والمبادرة إلى التوبة طريق السلامة

من خطر الوقوع في المعاصي.

والمستحبة: هي التوبة من ترك المستحبات وفعل المكروهات، فمن اقتصر

على التوبة الأولى كان من الأبرار المقتصدين، ومن تاب التوبتين كان من السابقين

المقربين، ومن لم يأت بالأولى كان من الظالمين؛ إما الكافرين، وإما الفاسقين.

* شروط التوبة:

إذا استجمعت التوبة الشروط اللازمة لها؛ فإنها مقبولة ماحية للذنوب

والمعاصي التي يتب منها، وشروط التوبة هي:

١ - أن تكون خالصة لله تعالى، واقعة لمحض الخوف من الله وخشيته،

والرغبة فيما لديه، والهيبة مما عنده سبحانه، لا كمن يتوب لحفظ مصلحته

ومنصبه ورياسته، أو لحفظ قوته وماله، أو لاستدعاء حمد الناس أو الهروب من

ذمهم، أو لئلا يتسلط عليه السفهاء، أو لكرهه للأمر الذي كان عاصياً لله تعالى به،

وانتهاء نهمته منه، أو لإفلاسه وعجزه وعدم قدرته على اقتراف المعصية، ونحو

ذلك من العلل التي تقدح في صحة التوبة وخلوصها لله عز وجل. قال الله تعالى:

[فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً]

(الكهف: ١١٠) ، وقال سبحانه في الحديث القدسي:» أنا أغنى الشركاء عن

الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه « [١٦] .

٢ - أن تكون التوبة موافقة لهدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن

التوبة من العبادات الخالصة التي يجب أن تتلقى عن الله ورسوله صلى الله عليه

وسلم الذي قال:» من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد « [١٧] .

قال ابن رجب رحمه الله:» فكما أن كل عمل لا يراد به وجه الله تعالى

فليس لعامله فيه ثواب، فكذلك كل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله؛ فهو مردود

على عامله، وكل من أحدث في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله فليس من الدين في

شيء « [١٨] .

وقال الثوري رحمه الله:» كان الفقهاء يقولون: لا يستقيم قول إلا بعمل،

ولا يصح قول وعمل إلا بنية، ولا يستقيم قول وعمل ونية إلا بالسنة « [١٩] .

٣ - أن يقلع الإنسان عن الذنب: وذلك لأن التوبة تستحيل مع مباشرة العبد

للذنب الذي يتوب منه، فمن لا يصلي لا بد له أن يصلي، ومن يكذب لا بد له أن

يترك الكذب، ومن يعق والديه لا بد له من برهما.. وهكذا.

ولا شك أن من ادعى التوبة، وأكثر من ترديد قول: (أستغفر الله) مع

إقامته على المعصية التي يتوب منها، لا شك أنه كاذب في ادعائه، بل هو

كالمستهزئ بالله سبحانه، والمقياس هو العمل والسلوك، وليس الكلام والادعاء،

فكم من إنسان ليس له من الإسلام إلا الاسم، ومن الأخلاق إلا الادعاء، ومن

التوبة إلا الرياء.

٤ - أن يندم على فعل الذنوب: إذ من لم يندم على فعل الذنب فذلك يدل على

رضاه به وإصراره، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

» الندم توبة « [٢٠] .

والنادم: هو الذي يتمنى لو عاد به الزمان، واستقبل من أمره ما استدبر؛ ما

فعل الذنب، ولاستقام على أمر الله عز وجل وطاعته ولم يفارقها.

٥ - أن يعزم على ألا يعود إلى الذنب أبداً: والعزم: هو الإصرار على عدم

العودة إلى اقتراف الذنب مرة أخرى. وهو من لوازم صدق التوبة، فلا توبة لمن

يعلن الإقلاع عن ذنب وهو ينوي اقترافه، أو لا مانع لديه من ذلك؛ إذ ذلك حال

المتلاعبين. والعزم على عدم الذنب لا يعني عدم الوقوع في الذنب؛ بحيث متى

عاد إلى الذنب بطلت توبته، بل المطلوب من العبد أن يعزم عزماً أكيداً، وأن

يصر إصراراً جازماً على عدم العودة إلى الذنب، فمتى فعل ذلك صحت توبته

وقبلت، فمن أزله الشيطان بعد ذلك فوقع في الذنب مرة أخرى؛ فإنه يحتاج إلى

توبة صادقة أخرى، ولا علاقة لهذه التوبة الثانية بالتوبة الأولى، وتوبته الأولى

صحيحة غير باطلة، لحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه إن رجلاً جاء إلى النبي

صلى الله عليه وسلم فقال:» يا رسول الله أحدنا يذنب، قال: يُكتب عليه. قال:

ثم يستغفر منه ويتوب. قال: يُغفر له ويتاب عليه. قال فيعود فيذنب. قال:

فيُكتب عليه. قال: ثم يستغفر منه ويتوب. قال: يُغفر له ويتاب عليه، ولا يمل

الله حتى تملوا « [٢١] ، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه

وسلم فيما يحكيه عن ربه عز وجل قال:» أذنب عبد ذنباً، فقال: اللهم اغفر لي

ذنبي! فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب.

ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي! فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب

ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب. ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر

لي ذنبي! فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ

بالذنب. اعمل ما شئت فقد غفرت لك « [٢٢] .

٦ - إرجاع الحقوق إلى أصحابها: إذا كان الذنب يتعلق بحق آدمي كسرقة أو

غش ونحو ذلك فلا بد أن يرد الحق إلى صاحبه إلا أن يسامح صاحب الحق ويعفو.

أما إن كان الذنب سباً أو شتماً أو غيبة أو نميمة؛ فالواجب أن يطلب من صاحب

الحق مسامحته، إلا إذا كان طلب المسامحة منه يؤدي إلى نفرة وعداوة بينهما،

فالمطلوب منه أن يدعو له في ظهر الغيب، ويذكره بخير في المجالس التي ذكره

فيها بِشر، حتى يغلب على ظنه أنه رد حقه ووفَّاه بقدر ما نال منه.

٧ - أن تقع التوبة في وقتها المشروع، وهو قبل أحد أمرين:

أ - الغرغرة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:» إن الله يقبل توبة العبد ما لم

يغرغر « [٢٣] . والمراد بالغرغرة: بلوغ الروح الحلقوم، ووصول العبد في النزع

مرحلة يوقن فيها بحضور الموت دون شك، كفرعون الذي قال حين أدركه الغرق:

[آمَنتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ] (يونس:

٩٠) ، فلم يقبل الله توبته قال عز وجل: [آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ

المُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا

لَغَافِلُونَ] (يونس: ٩١-٩٢) .

ب - طلوع الشمس من مغربها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:» من تاب قبل

أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه « [٢٤] ، وقوله صلى الله عليه وسلم:

» للجنة ثمانية أبواب: سبعة مغلقة، وباب مفتوح للتوبة حتى تطلع الشمس

من مغربها « [٢٥] .

* أساليب الشيطان في إبعاد الإنسان عن التوبة:

١ - التزيين: بحيث يزين الشيطان للعبد المعاصي، ويحببها له، ويجعله

يميل إليها، وينفره من الطاعة، ويظهر له صعوبتها، والمشقة في فعلها.

٢ - التلبيس: بحيث يلبس الشيطان على العبد ويخدعه في كون الحرام

حلالاً، والمنكر معروفاً، والباطل حقاً، حتى تأنس نفسه إلى فعل ما لا يرضي الله

تعالى، ويزول ما في نفسه من تحرج من إتيان المعصية، ويصير اقترافه لها أمراً

معتاداً لا غضاضة ولا حرج في نفسه منه.

٣ - التسويف: حين لا يجدي تزيين الشيطان وتلبيسه على العبد؛ يقود

الشيطان العبد إلى التسويف وتأخير التوبة، فيقول له حين يراه مصرّاً على التوبة:

لا بأس أن تتوب، ولكن لماذا العجلة وأنت في مرحلة الشباب؟ لماذا تتوب؟ ..

حتى تكمل الدراسة. فإذا أكمل الدراسة قال له: حتى تجد عملاً. فإذا وجد قال:

حتى تتزوج. فإذا تزوج قال له: حتى تؤمّن المستقبل. وهكذا يتدرج معه في

التسويف حتى يضعف إقباله على التوبة، أو حتى يفاجئه الموت قبلها.

وعلاج التسويف يكون بتذكر الموت والبلى، وأن الصغير قد يموت قبل

الكبير، والصحيح قبل المريض، قال صلى الله عليه وسلم حاضاً على تذكره:

» أكثروا ذكر هاذم اللذات: الموت « [٢٦] . وقد ذم الله سبحانه من اغتر بالمغفرة

فتمادى في المعصية، فقال تعالى: [فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الكِتَابَ يَأْخُذُونَ

عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا] (الأعراف: ١٦٩) .

٤ - تهوين المعصية: حين يحرص العبد على التوبة مستعظماً ذنبه وما

اقترفه؛ يأتيه الشيطان ويقول له: ماذا فعلت حتى تتوب؟ أنت من خيار الناس،

والتوبة يحتاجها أصحاب المعاصي الكثيرة الكبيرة، فأنت لست منهم فلا تشغل

نفسك بذلك، وحتى لو تضاعفت ذنوبك فهي صغيرة قليلة بالنسبة لغيرك، والله

غفور رحيم؛ لا يؤاخذ الناس بمثل ذلك، قال ابن مسعود رضي الله عنه:» إن

المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه

كذباب وقع على أنفه، قال به هكذا فطار « [٢٧] .

٥ - تصعيب الاستمرار على الطاعة بعد التوبة: التوبة: تحتاج إلى استقامة

على الطاعة، والاستقامة شاقة على النفس، وتجلب عداوة أصدقاء السوء، فيأتيه

الشيطان ويقول له: لماذا تتعب وتحمل نفسك مشقة الطاعة وعداوة من حولك من

المنحرفين القريبين والبعيدين.

٦ - التيئيس: يسرف بعض العباد في اقتراف المعاصي، ويذنبون فيطمعون

في التوبة، وحين يقدمون عليها يستعظمون ذنوبهم وهي عظيمة فيغلب عليهم جانب

الخوف على جانب الرجاء، فيدخل الشيطان عليهم من هذا السبيل، ويقذف في

نفوسهم أن الله عز وجل لا يقبل توبتهم لأن ذنوبهم عظيمة وكثيرة؛ لذا يصاب

الإنسان باليأس والقنوط من رحمة الله، وهذا اليأس والقنوط ذنب آخر يضاف إلى

الذنوب الأخرى التي تحتاج إلى توبة منها.

وعلاجه بتذكر سعة رحمة الله وعظيم مغفرته، قال الله تعالى: [قُلْ يَا

عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ

جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ] (الزمر: ٥٣) . وقال صلى الله عليه وسلم:

» قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم: إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما

كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم: لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت

لك ولا أبالي، يا ابن آدم: إنك لو أتيتني بقراب الأرض [ملؤها، أو ما يقارب

ملأها] خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة « [٢٨] . وجاءت

امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم» وهي الغامدية «فقالت: يا رسول الله!

إني قد زنيت فطهرني. فردها، فلما كان الغد، قالت: يا رسول الله! لم تردني؟

لعلك أن تردني كما رددت ماعزاً! فو الله إني لحبلى! قال:» إما لا، فاذهبي

حتى تلدي «، فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، قالت: هذا قد ولدته. قال:

» اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه «، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز

فقالت: هذا يا نبي الله! قد فطمته وقد أكل الطعام. فدفع الصبي إلى رجل من

المسلمين، ثم أمر بها فحُفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها، فأقبل خالد بن

الوليد بحجر فرمى رأسها، فتَنَضَّح الدم على وجه خالد فسبها، فسمع النبي صلى الله

عليه وسلم سبَّه إياها فقال:» مهلاً! فو الذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها

صاحب مكس لغُفر له « [٢٩] ، ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت، وفي رواية

أخرى:» لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل

وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى « [٣٠] .

٧ - الاغترار بكثرة العاصين: بمشاركتهم في المعصية ثم العقوبة، والظن

بأن ذلك ينفع، وقد نفى الله ذلك، فقال: [وَلَن يَنفَعَكُمُ اليَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي

العَذَابِ مُشْتَرِكُونَ] (الزخرف: ٣٩) .

* علامات صحة التوبة:

هناك علامات كثيرة لصحة التوبة، من أبرزها:

١ - أن يكون العبد بعد التوبة خيراً منه قبلها؛ بحيث يكثر من عمل

الصالحات، ومصاحبة أهل العلم والخير والصلاح، ويحرص جداً على ترك

المعاصي والسيئات، والابتعاد عن أهل الزيغ والانحراف.

٢ - أن لا يزال الخوف مصاحباً له لا يأمن من مكر الله طرفة عين، فخوفه

مستمر إلى أن يسمع قول الرسل لقبض روحه: [أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا

بِالْجَنَّةِ الَتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ] (فصلت: ٣٠) .

٣ - عظم ندمه وتحسر قلبه على ما فَرَط منه وخوفه من سوء عاقبته؛ لأن

من لم يتحسر قلبه ويندم على ما فرط في الدنيا تحسر في الآخرة إذا حقت الحقائق

وعاين ثواب المطيعين وعقاب العاصين، فلا بد من تقطُّع القلب إما في الدنيا وإما

في الآخرة.

* بواعث التوبة:

هناك دوافع كثيرة تساعد العبد على الإسراع في التوبة والتعجيل بها، ومن

ذلك:

١ - عموم الأمر بالتوبة والحث على تعجيلها: ومن ذلك قوله تعالى:

[وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (النور: ٣١) . وقوله عز

وجل: [وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى] (طه: ٨٢) .

وقال صلى الله عليه وسلم:» إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار،

ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها « [٣١] .

٢ - معرفة الإنسان لعلاقته بالزمن:

أ - الزمن هو الحياة: قال الحسن البصري:» يا ابن آدم: إنما أنت أيام

مجموعة، كلما مضى يوم مضى بعضك، وإنما أنت بين راحلتين تنقلانك، ينقلك

الليل إلى النهار، وينقلك النهار إلى الليل، حتى يسلمانك إلى الآخرة « [٣٢] .

ب - أهمية استثمار العبد للحياة ليسعد: قال صلى الله عليه وسلم:» اغتنم

خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك،

وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك « [٣٣] .

ج - الزمن الماضي لا يعود، ولكن يمكن محاسبة النفس على تفريطها فيه؛

بحيث يتذكر العبد أخطاءه وذنوبه في ماضيه، ليورثه ذلك ذلاً وانكساراً بين يدي

الله عز جل، فيندفع في مستقبله لاستثمار أيامه في طاعة الله عز وجل، والابتعاد

عن الذنوب والمعاصي التي يقع فيها؛ حتى لا يكون مستقبله شبيهاً بماضيه.

٣ - الحياء من الله تعالى: باستشعار نعمه وعظيم فضله وجزيل عطاياه، ثم

مقارنتها بتقصير العبد وتفريطه في حق الله تبارك وتعالى، وهذه المعاني لما

اجتمعت في دعاء استحق أن يسمى (سيد الاستغفار) ، وهو أن يقول:» اللهم

أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت

أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء لك بذنبي فاغفر لي

فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت « [٣٤] .

٤ - الموت والمستقبل: يمكن للعبد أن ينوي استثمار مستقبله فيما يرضي الله

عز وجل، لكن تلك الإمكانية تبقى أمراً يمكن تحققه ويمكن عدم تحققه؛ لاعتبارات

كثيرة؛ أهمها: إمكانية مفاجأة الموت للعبد في أي لحظة؛ إذ قد يصبح ولا يمسي،

ويمسي ولا يصبح، وحين يدرك العبد ذلك فإن ذلك يحثه على المسارعة إلى تنفيذ

ما عزم عليه من توبة وتصحيح لواقع حياته. وفي هذا المعنى يقول الصحابي

الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:» إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا

أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك « [٣٥] .

٥ - التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم: غفر لرسول الله صلى الله

عليه وسلم ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومع هذا فقد كان صلى الله عليه وسلم يقول:

» يا أيها الناس، توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب في اليوم مائة مرة « [٣٦] .

ويقول:» والله! إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة «

[٣٧] ، ويقول صلى الله عليه وسلم:» إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في

اليوم مائة مرة « [٣٨] . وللعبد في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة،

قال الله تعالى: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ

الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً] (الأحزاب: ٢١) . وقد كان الصحابة رضي الله عنهم

يعدون له صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد قبل أن يقوم:» رب اغفر لي

وتب علي إنك أنت التواب الغفور «مائة مرة [٣٩] . وما صلى صلاة قط بعد إذ

أنزلت عليه سورة: [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ] (النصر: ١) إلا قال فيها

صلى الله عليه وسلم:» سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي « [٤٠] .

وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:» لن ينجي أحداً منكم عملُه. قالوا: ولا

أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل « [٤١] .

٦ - مرافقة الأخيار: إذ المرء على دين خليله، ولذا قال عمر بن الخطاب

رضي الله عنه:» اجلسوا إلى التوابين فإنهم أرق أفئدة « [٤٢] . وقال محمد بن

كعب القرظي:» التوبة يجمعها أربعة أشياء: الاستغفار باللسان، والإقلاع

بالأبدان، وإضمار ترك العَود بالجَنان، ومهاجرة سيء الإخوان « [٤٣] .

٧ - الاقتداء بالسلف الصالح: نظراً لعظم الذنب وشناعته فقد أدرك السلف

أهمية التوبة، وقد روي عن الصحابة الكرام الشيء الكثير، ومن ذلك:

أ - عن خالد اللجلاج أن اللجلاج أباه أخبره:» أنه كان قاعداً يعمل في

السوق، فمرت امرأة تحمل صبياً فثار الناس معها وثرت فيمن ثار، فانتهت إلى

النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «من أبو هذا معك؟» فسكتت، فقال

شاب حذْوَها: أنا أبوه يا رسول الله. فأقبل عليها فقال: «من أبو هذا معك؟»

قال الفتى: أنا أبوه يا رسول الله. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعض

من حوله يسألهم عنه، فقالوا: ما علمنا عنه إلا خيراً، فقال النبي صلى الله عليه

وسلم له: «أحصنت؟» قال: نعم. فأمر به فرُجم، قال: فخرجنا به فحفرنا له

حتى أمكنا، ثم رميناه بالحجارة حتى هدأ، فجاء رجل يسأل عن المرجوم، فانطلقنا

به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: هذا جاء يسأل عن الخبيث. فقال رسول

الله صلى الله عليه وسلم: «لهو أطيب عند الله من ريح المسك» ، فإذا هو أبوه!

فأعنَّاه على غسله وتكفينه ودفنه وما أدري قال: والصلاة عليه أم لا « [٤٤] .

ب - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:» جاء رجل إلى النبي

صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني عالجت امرأة في أقصى المدينة،

وإني أصبت منها دون أن أمسها، فأنا هذا فاقض فيَّ ما شئت. فقال له عمر: لقد

سترك الله لو سترت نفسك. قال فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، فقام

الرجل فانطلق، فأتبعه النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً دعاه، وتلا عليه هذه الآية:

[وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ

ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ] (هود: ١١٤) ، فقال رجل من القوم: يا نبي الله! هذا له

خاصة قال: «بل للناس كافة» [٤٥] .

ج - قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا عن غزوة تبوك، فقدم النبي صلى الله عليه

وسلم فسألهم عن سبب تخلفهم، فصدقوا في قولهم وأنهم لا عذر لهم، فقاطعهم النبي

صلى الله عليه وسلم خمسين يوماً، ونهى المسلمين عن كلامهم حتى زوجاتهم،

حتى أنزل الله توبتهم، ونزل فيهم قوله عز وجل: [لَقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ

وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ العُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ

فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا

ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ

إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ] (التوبة: ١١٧-١١٨)

[٤٦] .

د - عن سليمان بن بريدة عن أبيه، قال: جاء ماعز بن مالك إلى النبي

صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! طهرني. فقال: «ويحك، ارجع

فاستغفر الله وتب إليه» قال: فرجع غير بعيد، ثم جاء فقال: يا رسول الله!

طهرني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، حتى إذا كانت الرابعة قال له

رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فيم أطهرك؟» فقال: من الزنا، فسأل

رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبِهِ جنون؟» فأُخبر أنه ليس بمجنون. فقال:

«أشرب خمراً؟» فقام رجل فاستنكهه، فلم يجد منه ريح خمر. قال: فقال رسول

الله: «أزنيت؟» فقال: نعم. فأمر به فرُجم، فكان الناس فيه فرقتين: قائل

يقول: لقد هلك، لقد أحاطت به خطيئته. وقائل يقول: ما توبة أفضل من توبة

ماعز؛ أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده في يده، ثم قال: اقتلني

بالحجارة! قال: فلبثوا بذلك يومين أو ثلاثة، ثم جاء رسول الله صلى الله عليه

وسلم وهم جلوس فسلم ثم جلس فقال: «استغفروا لماعز بن مالك» قال: فقالوا:

غفر الله لماعز بن مالك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد تاب توبة

لو قسمت بين أمة لوسعتهم» [٤٧] .

وختاماً: إن هذا الواجب الكبير ليس يستغنى عنه عبد، ولا يعذر في تركه

فرد، ولن يقوم شأن الأمة ما لم يبادر الأفراد إلي أداء واجباتهم، والتوبة مما فرطوا

فيه في حق الله تعالى، بدلاً من التلاوم وإلقاء التبعات على الآخرين؛ تهرباً من

المسؤولية، وهل الأمة إلا مجموع أفرادها؟! نسأل الله سبحانه بمنِّه وكرمه العون

والسداد، وأن يجود علينا بالنصر لدينه والمؤمنين، وصلى الله وسلم على نبينا

محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


(١) البخاري، رقم ٦٥٠٢.
(٢) البخاري، رقم ٣٤٧٠.
(٣) مدارج السالكين، ابن القيم، ١/ ١٩٩.
(٤) ابن ماجه، رقم ٤٢٥٠، وحسنه الألباني.
(٥) الترمذي، رقم ١٩٨٧، وقال: حسن صحيح، وحسنه الألباني.
(٦) أحمد، رقم ٢١٤٨٧، وقال محققه: حسن لغيره.
(٧) مسلم، رقم ١٨٩٠.
(٨) المعجم الكبير، للطبراني، رقم ٧٢٣٥، وقال عنه المنذري في الترغيب والترهيب، ٤/ ١١٣، وهذا إسناد جيد قوي.
(٩) الترمذي، رقم ٣٣٣٤، وقال حسن صحيح، وحسنه الألباني.
(١٠) مسلم، رقم ٢٧٥٩.
(١١) مسلم، رقم ٧٥٨، ابن ماجه، رقم ١٣٦٧، واللفظ له.
(١٢) الطبراني في الكبير، رقم ٧٣٨٣، وصححه النووي في شرحه لمسلم: ١٧/٤٠.
(١٣) مسلم، رقم ٢٧٤٧.
(١٤) ابن ماجه، رقم ٤٢٤٨، وحسنه الألباني.
(١٥) ابن ماجه، رقم ٤٢٥١، وحسنه الألباني.
(١٦) مسلم، رقم ٢٩٨٥.
(١٧) مسلم، رقم ١٧١٨.
(١٨) جامع العلوم والحكم: ١/ ٥٩.
(١٩) الإبانة الكبرى، لابن بطة: ١/ ٣٣٣.
(٢٠) ابن ماجه، رقم ٤٢٥٢، وصححه الألباني.
(٢١) الطبراني في الأوسط، رقم ٨٦٨٩، وقال الهيثمي في المجمع: (١٠/٢٠٠) ، إسناده جيد.
(٢٢) البخاري، رقم ٧٥٠٧، مسلم، رقم ٢٧٥٨، واللفظ له.
(٢٣) الترمذي، رقم ٣٥٣٧، وقال: حسن غريب، وحسنه الألباني.
(٢٤) مسلم، رقم ٢٧٠٣.
(٢٥) الطبراني في الكبير، رقم ١٠٤٧٨، وذكر المنذري في الترغيب والترهيب: (٤/ ٨٩) بأن إسناده جيد.
(٢٦) الترمذي، رقم ٢٣٠٧، وقال: حسن صحيح، ووافقه الألباني.
(٢٧) البخاري، رقم ٦٣٠٨.
(٢٨) الترمذي، رقم٣٥٤٠، وقال: حسن غريب، وصححه الألباني.
(٢٩) مسلم، رقم ١٦٩٥.
(٣٠) مسلم، رقم ١٦٩٦.
(٣١) أحمد، رقم ١٩٦١٩، وقال محققه: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
(٣٢) مختصر منهاج القاصدين، للمقدسي، ٦٠.
(٣٣) الحاكم في مستدركه، رقم ٨٦٨٨، وصححه الألباني.
(٣٤) البخاري، رقم ٣٦٠٦.
(٣٥) البخاري، رقم ٦٤١٦.
(٣٦) مسلم، رقم ٢٧٠٢.
(٣٧) البخاري، رقم ٦٣٠٧.
(٣٨) مسلم، رقم ٢٧٠٢.
(٣٩) الترمذي، رقم ٣٤٣٤، وقال (حسن غريب) ، وصححه الألباني.
(٤٠) البخاري، رقم ٤٩٦٨، وأحمد، رقم ٣٧٤٥.
(٤١) البخاري، رقم ٦٤٦٣، وأحمد، رقم ١٠٦١٤، واللفظ له.
(٤٢) إحياء علوم الدين، للغزالي، ٤/ ١٥.
(٤٣) مدارج السالكين، لابن القيم، ١/ ٣١٠.
(٤٤) أبو داود، رقم ٤٤٣٥، وحسن الألباني إسناده.
(٤٥) مسلم، رقم ٢٧٦٣.
(٤٦) مسلم، رقم ٢٧٦٩.
(٤٧) مسلم، رقم ١٦٩٥.