المسلمون والعالم
[افتراس النمور الآسيوية]
عامر عبد المنعم
ما زالت الأسواق النقدية والبورصات في دول جنوب شرق آسيا، التي أطلق
عليها (النمور الآسيوية) غارقة في أمواج متلاحقة من الصدمات والانهيارات؛ إذ
تراجعت معدلات النمو التي أذهلت العالم خلال السنوات الأخيرة، بمعدل غير
مسبوق، لتفقد هذه الدول نسبة كبيرة من إجمالي ثرواتها تتراوح بين ٤٠% إلى
٦٠% في غضون الأشهر القليلة الماضية.
تسببت الأزمة في شيوع موجة من القلق والهلع في كل أنحاء العالم خشية
انتقال عدوى الانهيارات الاقتصادية إلى الولايات المتحدة وأوروبا وباقي الدول.
فقد انخفضت أسعار العملات في تايلاند وكوريا الجنوبية وأندونيسيا وماليزيا
وسنغافورة والفلبين في مقابل الدولار الأمريكي بنسب كبيرة، وتأثرت اليابان
والصين بشكل نسبي.
كانت قمة التدهور في تايلاند التي بدأت منها شرارة التقلبات حيث قررت مع
تفاقم الأزمة تصفية ٥٦ بنكاً من بين ٥٨ مؤسسة مالية نتيجة تراكم الديون عليها
وعجزها عن تسديد المستحقات للمقرضين من البنوك والشركات الأمريكية.
لا أحد يدري إلى أي مدى ستصل الأزمة؛ فمن الواضح حتى الآن أنها بلا
قاع.. فلا توجد دراسات ومعلومات مؤكدة عن زمن احتواء هذه الأزمة ومتى
يتوقف هذا التردي؟ !
والحكومات نفسها - خاصة في الغرب - لا تعرف حدود انتشار هذه
الانهيارات واحتمالات وصولها إلى كبريات الأسواق الصاعدة في الصين وروسيا؛
فصناع السياسة في كل أنحاء العالم يتخوفون من هذه الأزمة لسرعة انتشارها وكأنها
مرض معدٍ يسقط بسببه المزيد من الضحايا يومياً.
السؤال الذي يتردد في كل مكان هو: لماذا حدثت هذه الانهيارات؟ وما
الحقيقة وراء هذه الأزمة الخطيرة التي أكلت حصاد السنين في أيام؟
لا يمكن الحديث عن سبب واحد، وإنما العديد من الأسباب، كما أن الأسباب
قد تختلف من دولة إلى أخرى، ومع هذا فإن هناك بعض الأسباب الظاهرة التي
كانت وراء نسبة كبيرة من الانهيارات.
١- قروض الربا:
في مقدمة هذه الأسباب: القروض الربوية التي قدمتها المؤسسات المالية
الأمريكية للبنوك والشركات في هذه البلدان بدون ضمانات، وإغراقها في هذا
المستنقع لربط اقتصاديات هذه البلدان بعجلة الاقتصاد الأمريكي، وفتح أسواقها
للمنتجات الأمريكية.. وقد نجحت الولايات المتحدة فعلاً في تحقيق أهدافها خلال
السنوات الماضية؛ إذ استطاعت أن تفتح أسواق هذه البلدان أمام السلع والمنتجات
والخدمات الأمريكية من خلال شبكة المستوردين ورجال الأعمال الذين ارتبطوا
بالمصالح الأمريكية.
وتشير الإحصاءات إلى أن ٤٠% من إجمالي الصادرات الأمريكية توجهت
إلى بلدان جنوب شرق آسيا.
بدأ التأثير المدمر للقروض الأمريكية في تايلاند في البداية مشعلاً الأزمة في
دول الجوار، فقد أغرقت تايلاند نفسها وسقطت في هذا المستنقع منذ عام ١٩٩٤م
عندما فتحت حكومتها الباب على مصراعيه للمقرضين بالدولار، الذين ضخوا ٥٠
مليار دولار في هذا البلد على مدى السنوات الثلاث التالية، فكانت النتيجة تخمة
من الاقتراض؛ حيث كانت الشركات المالية - البنوك - الـ ٩١ فيها تأخذ الدولار
وتعطي مقابله العملة التايلاندية (البات) مشعلة بذلك حمى من الإنفاق والبناء حتى
أصبح أفق بانكوك الآن مسدوداً بناطحات سحاب لم تكتمل ومباني مكاتب شبه خاوية، مما ترتب عليه إفلاس هذه البنوك لتتقلص من ٩١ إلى ٥٨ بنكاً ثم إلى بنكين
اثنين بعد صدمة الانهيارات التي ضربت عصب الاقتصاد.
وصاحبَ ذلك سَحْبُ الشركات الأمريكية والمستثمرين الأمريكيين كلّ
أرصدتهم من تايلاند، هرباً من الخسائر؛ فساهموا في الانهيار الكامل للاقتصاد
وزادوا الأمر سوءاً.
ونظراً للارتباط الوثيق بين دول جنوب شرق آسيا فإن سقوط تايلاند كان سبباً
في تتابع بقية الدول في الهبوط بسرعة الصاروخ في هذه الدوامة؛ حيث دب الذعر
بين المستثمرين ووسط الأسواق الاقتصادية المجاورة فانهارت هي الأخرى.
٢- الإنفاق الاستهلاكي:
هناك بُعْدٌ آخر في أزمة تايلاند أسهم في سرعة الانهيار وهو الإنفاق
الاستهلاكي السفيه والبذخ؛ فمن الغريب أن هذا البلد الصغير كان قبل يونيو ١٩٩٧ م ثاني أكبر سوق لسيارات المرسيدس في العالم.
والواقع أن تايلاند مثل سائر دول جنوب شرق آسيا كانت تعيش رغد الحياة
في ظل الاقتراض الذي جعل الملايين من أبناء الطبقة المتوسطة يشعرون زوراً
بأنهم أثرياء، وعاشوا نمط حياة الأثرياء الحقيقيين؛ لكن بعد أن بدأ السوق ينهار
فقدَ أبناء الطبقة المتوسطة وظائفهم، وصودرت مرهوناتهم وسياراتهم الفارهة،
واضطروا إلى إلغاء رحلاتهم إلى أوروبا وأمريكا، وإلى إخراج أبنائهم من
المدارس الخاصة.
وكما يقول رئيس البنك الزراعي التايلاندي لـ (نيوزويك) : إن أبناء أقوى
العائلات نفوذاً وأكثرها ثروة شاهدوا ثرواتهم تنكمش بنسبة ٦٠%، ومن اقترض
قروضاً كبيرة بضمان ممتلكاته شهد هذه الممتلكات تتبدد تماماً، ولم يعد العالم الذي
تعوّدوا عليه موجوداً، ولا يعرف الكثيرون منهم كيف سيخرجون من هذه الوهدة.
والذين صعدوا مع موجة الازدهار لم يكادوا يستمتعون بالثراء الذي حط عليهم؛ فسياراتهم لم تزل تبدو جديدة في مرائبها، ومنازلهم ما زالت تفوح منها رائحة
الطلاء وهم الآن يفقدون كل شيء.
٣- ماليزيا واليهود:
وإذا كانت القروض الربوية والإنفاق السفيه هما القاسم المشترك في
الانهيارات الاقتصادية في دول جنوب شرق آسيا فإن هناك سبباً آخر لا يقل
خطورة، ظهر بوضوح في اهتزاز الاقتصاد الماليزي، وهو الدور اليهودي
بالمضاربة في البورصة والأسواق المالية.
فقد استطاع رجل الأعمال اليهودي (جورج سوروس) توجيه ضربة موجعة
للاقتصاد الماليزي من خلال سحب الدولار من الأسواق مما تسبب في انهيار العملة
الماليزية، وإثارة الذعر داخل البورصة، وهروب رؤوس الأموال إلى الخارج.
يعد (جورج سوروس) من أشهر رجال المال اليهود المتخصصين في
المضاربات فهو أمريكي من أصل مجري، وله تاريخ طويل في المضاربات؛ إذ
راهن في عام ١٩٩٢م على تراجع الجنيه الإسترليني فاقترض الكثير منه لأجلٍ
قصير وحوّله إلى ماركات ألمانية وتحقق ما راهن عليه، وفقد الجنيه الإسترليني ما
يزيد على ١٢% من قيمته، وكان الفرق ربحاً صافياً لـ (سوروس) يعادل المليار
دولار.
وقد اتهم رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد صراحة (جورج سوروس)
بدوره في الانهيار الذي أصاب البورصة الماليزية، وأشار إلى مؤامرة يهودية
لتدمير اقتصاد ذلك البلد المسلم.
وقد أدت تصريحات مهاتير إلى تصاعد هجوم المنظمات اليهودية الأمريكية
ضد الحكم الماليزي مما ساهم في قيام شركات أمريكية عديدة بتحويل رؤوس أموالها
إلى خارج ماليزيا لتزيد من قوة الصدمة.
ما سبق لا يعني تراجع أهمية الأسباب الأخرى للانهيار في ماليزيا مثل
الاستغراق في الإنفاق الاستهلاكي والبذخ؛ فقد صاحب تزايد معدلات النمو وارتفاع
الدخول شيوع القيم الاستهلاكية؛ وهو ما دعا الحكومة الماليزية إلى توجيه النصائح
للمواطنين من خلال التلفزيون مراراً بعدم شراء سلع الرفاهية المستوردة، وبعدم
السفر إلى الخارج للحفاظ على العملة الأجنبية، وامتلأت الصحف بنصائح عن
أماكن السياحة الداخلية التي يمكن الاستعاضة بها عن الرحلات المكلفة إلى أوروبا
وأمريكا.
محاولات احتواء الأزمة:
نتيجة للارتباط الوثيق بين أسواق المال في آسيا وأسواق أمريكا اللاتينية
والارتباط بين الاقتصاد الأمريكي بالاقتصاد الياباني فقد سعت دول العالم لاحتواء
الأزمة. وسعى صندوق النقد الدولي والمؤسسات الدولية الأخرى لتقديم مساعداتها
وخبراتها لحكومات الدول الآسيوية لوقف الانهيارات ثم إصلاح ما تم من خسائر.
في هذا الإطار وقّع صندوق النقد الدولي العديد من الاتفاقيات مع دول الأزمة
تم بمقتضاها تقديم ٤٧ مليار دولار إلى تايلاند، و٤٠ مليار دولار إلى أندونيسيا،
و٥٧ مليار إلى كوريا.
وقادت اليابان الحملة الدولية لإنقاذ الاقتصاد التايلاندي وباقي الدول على
اعتبار أن تايلاند وجاراتها شريك اقتصادي كبير الأهمية. فعلى سبيل المثال فإن
تايلاند هي سادس أهم سوق مستوردة للسلع اليابانية، كما أنها من أهم الأسواق
الآسيوية المستقبلة للاستثمارات اليابانية. كذلك فإن اليابان تعد بالمقابل أهم شريك
تجاري واستثماري واقتصادي عموماً لتايلاند، وتعتبر النموذج الاقتصادي الذي
تسترشد به تايلاند في تجربتها التنموية القائمة على الاقتصاد الحر، وعلى الاندماج
في الاقتصاد الدولي، وعلى التصنيع من أجل التصدير كمحفز للنمو.
وقد بذلت اليابان إلى جانب تايلاند مساعي حثيثة لتأمين المساعدات لتايلاند
من صندوق النقد الدولي ومن دول تكتل مجموعة (الأسيان) .
وحرص اليابان على إنقاذ أزمة (الأسيان) لا يقل عن حرص الولايات المتحدة
على حماية الاقتصاد الياباني من أي انهيارات؛ وذلك لأن أي اهتزاز في اليابان
يصاحبه بنفس القدر اهتزاز في أسواق المال الأمريكية.
فالبنوك اليابانية تعد أكبر مشترٍ لسندات الخزانة الأمريكية، فهي تمتلك حوالي
٣٧٠ مليار دولار من هذه السندات، وفي حال أي انهيار فإن البنوك اليابانية
ستضطر إلى بيع هذه السندات والتخلص منها؛ وهذا معناه دمار مؤكد للاقتصاد
الأمريكي.
ومن جهتها - وخوفاً من حدوث أي خطر مستقبلي - أرسلت الولايات المتحدة
مبعوثين من وزارة الخزانة الأمريكية إلى اليابان للتأكد من عدم تفكير اليابان في
تسييل هذه السندات في حالة حصول أي هزة، وتقديم الوعود بوقوف الحكومة
الأمريكية إلى جانب اليابان.
وهذا القلق هو الذي دفع الولايات المتحدة إلى السماح لصندوق النقد الذي
يخضع للنفوذ الأمريكي بتقديم أكبر كم من القروض لدول الأزمة لم يحدث أن قُدِّم
مثلها من قبل لأي دولة في العالم وبهذه السرعة.
تأثر دول الغرب بالأزمة:
هناك توقعان رئيسان حول احتمال تسرب هذه الأزمة من آسيا إلى باقي أنحاء
العالم: الأول: عن طريق التجارة، والثاني: عن طريق القطاع المالي الذي يشمل
البورصات، وفي كلا المجالين كان الاتجاه خلال العشرين عاماً الماضية يميل إلى
مزيد من التحرر الاقتصادي ورفع الحواجز وحرية تدفق المنتجات والخدمات من
دولة إلى أخرى وهو ما يطلق عليه مجازاً: (العولمة) مما جعل الاقتصاد العالمي
أشبه بحلقات شديدة الالتصاق بعضها ببعض أكثر من أي وقت مضى.
وبينما كان فيما مضى من الممكن أن تفرض كل دولة سلسلة من الإجراءات
والاحتياطات لحماية سوقها المحلية إلا أن منظمة التجارة العالمية - ومقرها في
جنيف - أصبح من حقها الإصرار على أن تفرض على كل الدول إعطاء الشركات
الأجنبية حرية التنافس في أسواقها. وفي القطاع المالي نجد أن شركات الصرافة
الأجنبية تتبادل يومياً مبالغ وهمية داخل الأسواق المحلية. فمثلاً يبلغ حجم ما
تتداوله هذه الشركات في بريطانيا تريليون دولار.
وإذا أخذنا بريطانيا كمثال على مدى تأثر دولة أوروبية بما يحدث في آسيا
فسنرى أنها تأثرت بشكل كبير بما جرى هناك رغم آلاف الأميال والبحار التي
تفصل بينها وبين أرض الأزمة.
فعندما انهارت مؤخراً مؤسسة (ياماتشي) في اليابان فقد ٣٢٠ شخصاً وظائفهم
في لندن، ممن كانوا يعملون لدى فرع الشركة هناك، ومن الممكن أن يكون هذا
الفقدان المحدود للوظائف بداية لفقدان عدد أكبر من الأشخاص لوظائفهم.
من جهة أخرى فإن بريطانيا تُعَدّ من أكبر الدول التجارية في العالم، ودخل
صادراتها يعادل ثلث الدخل الكلي لباقي مجالات الاقتصاد والخدمات، و ٩% من
صادراتها يذهب إلى اليابان وباقي دول آسيا، والآن تعاني هذه الدول من كساد
اقتصادي بسبب إجراءات التقشف المجبرة على اتباعها والمفروضة عليها من قِبَلِ
صندوق النقد الدولي كوسيلة للخروج من الأزمة مما قلل بالفعل من الطلبات
الآسيوية على المنتجات البريطانية ... وهكذا.
ويمكن القول إن الدرس المستفاد من أزمة البلدان الآسيوية هو إخفاق وصفة
النظام الاقتصادي العالمي في تحقيق الرخاء للشعوب؛ فقد دمرت القروض الربوية
اقتصاديات النمور، وابتلع الإنفاق الاستهلاكي السفيه في أيام الثروة جهود أعوام
طويلة.
لقد ثبت أن سياسة فتح الأبواب وتطبيق سياسات العولمة وإزالة الضوابط
وتحرير السوق جعل للمضاربين والمتآمرين القدرة على توجيه ضربات عميقة
للاقتصاديات الوطنية في لحظات.