للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الورقة الأخيرة

[ماذا يحدث إذا كان العلم بلا إيمان؟]

إبراهيم بن محمد الحقيل

لا يستطيعُ المرءُ أن يعرف أثر العلم في حياة البشر على اختلاف المستويات

وتنوع المجالات إلا إذا قارن بين عالِم متبحر، وبين أمِّيٍّ نشأ في أحد الأدغال بعيداً

عن أيِّ منفذ معرفي. لا شك أنه سيجدُ أن ما يُفرق بينهما أكثر مما يجمع، كما أنه

سيجد أن عيش هذين الرجلين في مكانٍ واحد يكاد يكون مستحيلاً.

ومن رحمة الله تعالى بعباده أن علمهم ورزقهم وسائل تحصيل العلوم

والمعارف؛ فأعطاهم الأسماع ليسمعوا العلم فيستفيدوا، وأعطاهم الأبصار ليبحثوا

ويقرؤوا، وأعطاهم الأفئدة حتى يتفكروا ويتدبروا ويستنبطوا. قال تعالى: [وَاللَّهُ

أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ

تَشْكُرُونَ] (النحل: ٧٨) .

لقد علّمهم الله تعالى ما يوصلهم إليه وإلى رضوانه وجنته، فأرسل لهم

الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وأراهم من آيات عظمته، وعجائب قدرته ما يدل

على ربوبيته وإلهيته.

وسخر لهم الأرض وما عليها، ورزقهم وسائل الانتفاع بها، وجعل إفادتهم

منها على قدر بحوثهم وتجاربهم، وعملهم وجِدِّهم. وحكمةُ هذا التسخير جَعْلُه

وسيلةً إلى الغاية العظمى الموصلة إلى رضوانه وجنته.

والعلمُ بحرٌ لا ساحل له، سواءٌ منه ما ينفعُ في الدنيا أو ما ينفع في الآخرة،

ولا يستطيعُ أحدٌ الاستحواذ على كل العلم؛ فهناك دائماً من هو أكثر إحاطة به وهو

الله تعالى، كما قال سبحانه: [نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ]

(يوسف: ٧٦) .

إن القرآن يقررُ وجوبَ أخذ العلم عن أهله، ورجوع من لا يعلمُ إلى من يعلم

لكي يتعلم؛ فحين أنكر مشركو مكة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا: الله

أعظم من أن يكون رسولُه بشراً فهلاَّ بعث ملكاً! حينذاك أنزل الله تعالى قوله:

[وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ

* بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ] (النحل: ٤٣-٤٤) . أي: اسألوا يا معشر قريش العلماء

بالتوراة والإنجيل يخبروكم أن جميع الأنبياء كانوا بشراً إن كنتم لا تعلمون ذلك.

وحقيقةٌ كبرى يقررُها كتابُ الله تعالى تتمثلُ في أن أكثر الكفار إنما أعرضوا

عن اتباع الحق بسبب عدم توافر العلم الصحيح لديهم. قال تعالى: [بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ

يَعْلَمُونَ الحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ] (الأنبياء: ٢٤) ، وهذا يلقي مسؤولية عظمى على

أمة الإسلام؛ حيث إن عليها إيصال الحق إلى الناس وبيانه لهم ودعوتهم إليه.

إن كثيراً من عبَّاد الأوثان، وعبَّاد البقر، وعبَّاد الصليب، وعبَّاد العجل

ظنوا جهلاً أن عبادتهم تقربهم إلى الله زلفى، فعبدوا ما عبدوا من دون الله تعالى.

وإن كثيراً من عبّاد المادة وعبّاد العقل البشري ظنوا أن (لا إله، وأن الحياة

مادة) فعملوا للدنيا وأهملوا الآخرة؛ لأن ما ينقصهم من حقيقة العلم جعلهم يجهلون

حتمية الآخرة. فكيف السبيل إلى إخراج هذه الجموع من شركها وتحويلها من عبادة

غير الله إلى عبادة الله وحده إلا أن يُعلَّموا حقيقة الدنيا وما لها، وحقيقة الآخرة وما

يجب لها، وأن يُبصَّروا بالحق المبين، والصراط المستقيم.

وفي جانب آخر فإن العلم إذا لم يُضبط بالإيمان عاد نفعه ضراً، وخيرُه شراً؛

حيث يقود إلى الاستكبار عن الحق على علمٍ وبكل إصرار وجحود؛ منكراً

صاحبُه نعم الله عليه. وقد قص الله علينا أخبار أقوام أوتوا من العلم ما أوتوا لكنهم

أوتوا علماً بلا إيمان فجحدوا نعم الله تعالى، واستكبروا عن الحق المبين. قال

تعالى: [فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُم مِّنَ العِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا

بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ] (غافر: ٨٣) . وقارون جحد نعمة الله عليه ونسب ما أوتي من

مال إلى علمه ف [قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي] (القصص: ٧٨) .

وحضارةُ اليوم توصفُ بأنها حضارةٌ علمية لكنها علمانية، أي: لا دينية، لا

إيمانية، ليس للإيمان بالآخرة فيها مكان، ولا للتصديق بالغيب مجال. هي

حضارة سعت في عمارة الأرض مادياً، وحصرت اهتمامها بالحياة الدنيا في

انفصال تام عن الموت وما بعده، وأصحابُها كما أخبر الله تعالى: [َيعْلَمُونَ ظَاهِرًا

مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ] (الروم: ٧) .

وها هنا سؤال يرد: هذا النوعُ من الحضارة المبني على علوم الدنيا بانفصالٍ

تام عن علوم الآخرة هل أسعد الإنسان وحقق له ما يريد؟ ! لا؛ فالجميعُ لاحظوا

أنه كلما خطا الإنسانُ خطوات في التقدم الدنيوي زاد عددُ زائري العيادات النفسية،

وكلُ الناس يتفقون على أن الحياة البسيطة أكثرُ سعادةً من الحياة المادية المعقدة.

إن العلوم الدنيوية التي حازها البشرُ في القرون المتأخرة قد أسهمت وبشكل

مباشر في رفاهية الإنسان وراحته؛ فقد تنوعت مآكله ومشاربه، وتعددت ملابسه

ومراكبه، وصار مَن في طرف الأرض الشمالي يستطيع محادثة من في طرفها

الجنوبي، والحدث الذي يحصلُ في أقاصي البلدان، ووراء الجبال والبحار يعلمه

من هو في أدناها، والمنتجات التي كان الإنسانُ ينتج القليل منها في عام كامل

أصبحت الآلاتُ تنتج الكثير منها في ثوانٍ معدودة. كلُّ هذا حصل ولا زال يحصل

؛ ولكن ماذا حدث حينما انفصل العلم عن الإيمان، وأصبح علمانياً دنيوياً مادياً لا

يؤمنُ بالغيب ولا يعرفُ للآخرة سبيلاً؟

إنه صارَ علماً يسعى في تدمير الأرض ومن عليها، في سبيل الهيمنة

والسيطرة على العالم. لقد فقد الإنسان السيطرة على العلوم التي تعلمها، فصارت

بعد فقد الإيمان أهم سبب لتدمير العالم؛ فبواسطة العلوم الفيزيائية صنع الإنسان

القنابل الذرية والنووية والبيولوجية والجرثومية التي يعلم مكتشفو نظرياتها وصانعو

صواريخها أنها لو أطلقت لأهلكت ملايين البشر بمن فيهم صانعوها ومطلقوها ومع

ذلك صنعها الإنسان؛ لأنه لا إيمان يضبطه، ولا خوف من الآخرة يردعُه عن

الإسهام في دمار البشرية. وكم من الوزر يحملُه صانعو هذه المدمرات التي أطلق

بعضها في الحرب الكونية الثانية فأهلكت ملايين البشر! !

وفي مجال الهندسة الوراثية صاروا بالعلم يلعبون بالأجنةِ يريدون أن يخلقوا

كخلق الله تعالى.

إنهم وبالعلم لوَّثوا البحار والأنهار، وأفسدوا الزروع والأشجار؛ حتى ما عاد

لأثمارها طعم بسبب الكيميائيات التي تنضجها قبل وقتها، وتجعلها أكبر من حجمها،

وتزيد في محصولها، والضحية من يأكلها. وأعظم من ذلك أنهم صاروا يأكلون

ما يُخرجون بعد تحليله ومعالجته كما تفعل الجلاّلة من الحيوان! !

إنهم وبالعلم أطلقوا الأقمار الصناعية التجسسية فهل سعدوا؟ !

إن التجسس يدل على الخوف، والخوفُ دليل شقاءٍ لا دليل سعادة! !

إنهم وبالعلم سهلوا ارتكاب الفواحش وعرضوها عبر فضائياتهم، وتفننوا في

مداعبة الغرائز والهبوط بالإنسان إلى الحيوانية وإلى ما هو أقلُّ منها؛ فهل شبعوا؟ !

لا؛ لأنهم يريدون فناً أكثر إثارة وأكثر غريزية وبهيمية، ولستُ أعلم في مجال

الشهوات شيئاً يُعرض أقل وضاعة من الزنا واللواط والسحاق وسائر الشذوذ فماذا

يريدون؟ وإلى أي مدى سيصلون؟

إنهم وبالعلم نوّعوا التجارات، وعددوا سبل الحصول على المال، وصار

البيعُ والشراء عن طريق شبكات الاتصال العالمية؛ فهل شبع أهلُ المال من المال؟

لا؛ فإنهم يريدون المزيد والمزيد، وإلى متى؟ وكلُّ ما يجري على الأرض

يجري إلى متى؟ !

إن له أجلاً وإن له نهاية فهل يعقلون؟ وهل يضبطون ما أوتوا من علوم

الدنيا بالإيمان بالغيب والإيمان بالدارِ الآخرة؟ ! إنهم لن يتعظوا ولن يعقلوا حتى

تقع الواقعة. فلينظر كل عاقل إلى أي مدى وصل العلمُ: إنه لما انفصل عن

الإيمان أشقاهم في الدنيا ويوشك أن يدمرهم.

وصدق الله العظيم إذ يقول: [فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الحَيَاةَ

الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ العِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ

اهْتَدَى * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا

وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى] (النجم: ٢٩-٣١) .