للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

افتتاحية العدد

محاكمة مجرمي الحرب بين (نورمبرج) و (لاهاي)

فعالية الأولى.. وعجز الأخرى

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.. أما بعد:

فإن للإنسان حقوقاً معتبرة، جاء بها الإسلام، حيث كفلت الشريعة الإسلامية

له المكانة اللائقة، وحرمت إلحاق الأذى المادي والمعنوي به، وهيأت للجميع

الأمن والطمأنينة والمحافظة على حياتهم ورد أي اعتداء عليهم:

(إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، حرمة يومكم هذا) [أخرجه ابن ماجه،

كتاب المناسك] (كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه ... ) [اخرجه

الترمذي وابن ماجة، وأحمد في المسند] ، حتى إن الإنسان بإيمانه أعظم حرمة من

بيت الله الحرام: (ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة منك ... ) ... [اخرجه ابن ماجة، كتاب الفتن] .

وبقيت حقوق الإنسان المسلم لها قدرها لا يمسها أحد بسوء يوم كان للإسلام

قوته ومكانته، وحينما فرط أكثر المسلمين في مصدر عزتهم نتيجة بعدهم عن دينهم، وتنحيتهم لشريعة ربهم، وأخذهم بالأنظمة والدساتير المستوردة: تحولوا إلى

أتباع، واستبيحت بلدانهم، وانتهكت أعراضهم وصارت دماؤهم أرخص الدماء

على يد المستعمرين وأذنابهم.

ومع ما تعرض له المسلمون في جل البلدان التي احتلها أولئك الأعداء، وما

قاموا به من قتل واعتقال وتهجير إبان استعمارهم: فإن ذلك لم يوقظ إنسانيتهم،

ولم يدفعهم ذلك لإنصاف المسلمين حتى بعد ظهور ما سمي بـ (وثيقة حقوق

الإنسان) بعد نشوء هيئة الأمم المتحدة، ولم يظهر موضوع (محاكمة مجرمي

الحروب) إلا بعد الحرب العالمية الثانية لمحاسبة النازيين الذي أذاقوا دول الغرب

أمرّ العذاب في عنفوان قوتهم إبان حكم هتلر حيث أحيل إلى المحاكمة ثلاثة

وعشرون من كبار قادة الحزب النازي الألماني من المدنيين والعسكريين بعد انتصار

الحلفاء، وتدميرهم ألمانيا، ودخول جيوشهم (برلين) ، وإصرارهم على أن تكون

المحاكمة في مدينة (نورمبرج) مقر الحزب النازي طيلة خمسة وعشرين عاماً،

شهدت صعود وارتقاء الحكم الهتلري، لتشهد هذه المدينة نفسها انهيار النازيين

وسقوطهم، وتمت المحاكمة ابتداء من ٢١/١٠/١٩٤٥م، وانتهت إلى تثبيت التهم

التالية عليهم:

١- التآمر ضد السلام وانتهاك حرمة المعاهدات والاتفاقات الدولية.

٢- التواطؤ على ارتكاب جرائم ضد السلام.

٣- انتهاك قوانين الحروب وتنفيذ أعمال القتل والتخريب وقتل الرهائن.

٤- اقتراف جرائم ضد الإنسانية.

يقول د/ج. م. جلبرت في كتابه (محاكمات نورمبرج) بعد أن ساق التهم آنفة

الذكر: إنه يستنتج من بين السطور تهمة خامسة لكنها في نظر المحكمة على ما

يبدو تهمة أولى تغطي على كل التهم، وهي: مشاركة المتهمين فيما يزعم في

مذابح اليهود في ألمانيا وبولونيا.

واستمرت المحاكمة على أشدها وبدون أي كلل حتى إعلان النطق الأخير

بالحكم في الجلسة الختامية على النحو التالي:

١- الإعدام لأحد عشر متهماً.

٢- البراءة لثلاثة منهم.

٣- أحكام مختلفة لبقية المتهمين.

ونفذ الإعدام في مساء اليوم نفسه مع الاعتراضات القانونية التي قدمت على

تلك المحاكمة، من حيث التكييف القانوني للمحاكمة، وعدم وجود سوابق لها،

وضرورة أن تكون المحاكمة (عسكرية) .

لقد عانى المسلمون في جل ديار الإسلام مما سمي بـ (الاستعمار) لبلدانهم،

وانتهكت حريات شعوبهم، وسرقت خيرات بلدانهم، وتعرض مجاهدوهم للإعدام

بتهمة المقاومة للمحتلين، ولم تنتهك حرمات أحد مثلما انتهكت حرمات المسلمين

وبلدانهم، و (البوسنة والهرسك) أقرب شاهد ملموس يعرفه القاصي والداني عبر

كل وسائل الإعلام؛ حيث بلغ فيها العدوان الصربي ذروته والاستهتار الدولي

أقصاه حيال تلاعب الصرب بقرارات هيئة الأمم المتحدة وانتهاكها لما سمته

بالمناطق الآمنة، وقيامهم بالإعدامات الجماعية التي يعرفها الجميع.. ولم يُنصَف

المسلمون حتى بعد عقد (اتفاق دايتون) للسلام، الذي ألغى بصورة فعلية قيام دولة

إسلامية في أوروبا، حيث جعل البوسنة اتحاداً مع الكروات، وقبل المسلمون ذلك

على مضض؛ خوفاً من الاستئصال الذي كان يجري بمباركة الهيئة الأممية والدول

الكبرى، ومع أن ذلك الاتفاق تضمن محاكمة مجرمي الحرب في البلقان جميعهم،

إلا أن الأمر استقر على محاكمة زعيمي الصرب: (كرادتيش) و (ميلاديتش) ، وفي

يوم الثلاثاء الموافق ٢٠/١٢/١٤١٦هـ بدأت محاكمة مجرمي حرب البوسنة في

لاهاي (حيث توجد محكمة العدل الدولية) ومن المتوقع استمرارها طويلاً؛ لتتقصى! انتهاكات الصرب بحق المسلمين! ! ، وقد اتخذت إجراءات مبدئية بعزل

المجرمَين الكبيرين من العمل السياسي، وبدأت المحاكمات على استحياء، مع أفراد

من مجرمي الحرب، وبقي الأسبوع الأول حافلاً بنشر الأخبار حول إثبات ونفي

موضوع (استقالة كراديتش) والحقيقة هي: ما قاله نائب الرئيس البوسني:

(أصبحت الأسرة الدولية رهينة كراديتش وقائده العسكري) .

لقد كانت متابعة ومعالجة هيئة الأمم المتحدة لهذه القضية لينة باردة وربما

متواطئة مع استهتارهم بقرارات الهيئة، وتلك الصورة إفراز واضح لازدواجية

المعايير التي تمارسها الهيئة تجاه حقوق المسلمين.

إن المحاكمة لمجرمي الحرب في (نورمبرج) استمرت بكل حماس ومتابعة

جادة، وصدرت القرارات بصورة سريعة وحازمة مع ملاحظاتهم على قانونية

المحاكمة كما سبقت الإشارة إليه، أما محاكمات (لاهاي) الأخيرة لمجرمي حرب

البلقان فقد بدأت على استحياء، وربما تأثر إيقاعها بتهديد الصرب بأنهم سيقتلون

جنود هيئة الأمم المتحدة في حالة إلقاء القبض على زعيمهم وقائده العسكري.

إن القوة والحزم بل الظلم مع المسلمين، والتساهل والاستهتار مع غيرهم:

ظاهرة ملموسة جعلت الهيئة في موقف مشبوه في إجراءاتها، مما يجعلنا غير

متوقعين لأي إنصاف منها لحل قضايا المسلمين.. وسيتضح للجميع أن محاكمة

(لاهاي) مهزلة في بداياتها، وفي أثنائها، وربما في نهاياتها، وهذا ما قد توضحه

الأيام، لأن الهيئة قامت على أساس ظالم، فرق بين الدول، وأوجد (دولاً كبرى)

لها حق النقض لكل ما لا تريده، وهناك أساليب أخرى لتمرير ما تريده تلك الدول

بوسائل الضغوط والتهديد باتخاذ مواقف بعينها لمصالحها.

نحن لا ننتظر الإنصاف من هيئة الأمم المتحدة ولا من منظماتها، لذا لا

نتوقع منها قرارات حازمة سوى ضد المسلمين. بينما يعربد الصهاينة مثلاً ويعتدون

ولا يصدر ضدهم أي قرار بالعقوبات؛ لكننا نذكر أبناء أمتنا بأن عزتهم ومنعتهم لن

تكون إلا بتجمعهم وتعاونهم، وبأن تكون منطلقاتهم هي أصول دينهم الحق بفهم

سلفنا الصالح، وأنهم ما داموا (شذر مذر) فهم عالة على من سواهم، وسيكونون

مُنْتَهَكِين في كرامتهم ومسلوبين في حقوقهم، لأن إذلالنا هدف أعدائنا الذين يعملون

له، كما قال (تعالى) : [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ]

[البقرة: ١٢٠] .