قضايا ثقافية
تقويم العلوم الاجتماعية المعاصرة
والأسلوب الإسلامي البديل
(٢/٢)
د. محمد منظور عالم
في الحلقة الأولى تحدث الكاتب عن أن العالم في مفترق طرق؛ حيث يمكن
أن تسيطر الفوضى وتنفصم عرى الأخوة ولا يسود العدل المجتمع، وبيّن أن عبء
التحديات والمسؤوليات يقع على كاهل العلماء الاجتماعيين عموماً والمسلمين منهم
على وجه أخص. وقد أوجز القسم الأول بقوله: إن الانفجار السكاني مع التطور
السريع في التقنية في مجال الاتصالات والمؤسسات المالية والمستوى الراقي للتقنية
في مجال الزراعة من خلال التقنية الحيوية واستخدام الآلات سوف يتسبب في
مشكلة خطيرة لبقاء الجنس البشري، وواجبنا أن نتناول هذه القضايا بالمناقشة
والبحث حتى نجد لها الحلول.
إن الإسلام هو دين السلام والتقدم والرخاء، إنه دين ومرشد للناس جميعاً؛
وله أسلوبه المتميز في البحث عن الحقيقة.
فالحق في المبادئ العامة للإسلام هو الحكم بين الناس، ولا مجال في الإسلام
للحواجز الاصطناعية في الفصل، إنه يدمج بين الناس، ولذا فإن الإنسان في
النموذج الجديد هو تركيبة من: الوجوه المادية الملموسة التجريبية (الجسم) والوجوه
الروحية غير التجريبية (الروح) . والسلوك البشري هو نتيجة تفاعل ديناميكي بين
هذه القوى، وبذلك لا يمكن اعتبار الإنسان أحد تروس عجلة التنمية أو التقليل من
شأنه ليصبح واحداً من هذه المكونات فقط.
إن النموذج الجديد يحدد دوراً ديناميكياً ليلعبه في خدمة الإنسانية؛ وذلك
بتفعيل العوامل الروحية في تحديد السلوك البشري. إذن: يمكن أن نخلص إلى أنه
بالنموذج الجديد، أو في الإسلام، ليس هناك (علم) في السلوك البشري يستبعد
الوجوه الروحية للبشر، إن علاقة البشر بالخالق هي أقوى وأهم مؤثر في حياة
الإنسان. كيف يستطيع علماء الاجتماع تحقيق نظرة فاحصة إلى صنع الإنسان
(غير المرئي) وإلى ديناميكيات التفاعلات بين مكونات (غير المرئيات) إلا من
خلال الوحي الإلهي [القرآن والحديث الثابت، إبراهيم رجب ١٩٩٣، ص ٤٨٨] ،
بيد أن السؤال الأهم هو: كيف لنا أن ندرس الوجه غير التجريبي لوجودنا؟ من
الواضح أن الظواهر الروحية تعلو على التجارب الحسية وهي فوق المكان والزمان، فالسبب وحده لا يستطيع أن يدرك كنهه؛ لذا علينا أن ندخل الوحي في نظرية
المعرفة وكذلك في طريقتنا وأسلوبنا، ويمكن أن يتم ذلك ببناء نظرية بواسطة دمج
طريقة النموذج التقليدي المعروف والنموذج الجديد.
يقول (تيرنر) (١٩٧٨م) : (إن هدف العلوم هو تطوير النظرية) (ص٢٤) كما
أن (دوز) يذكر أن (النظرية هي المفتاح الأخير للنشاط العلمي والرفض النهائي إذا
ظهرت نظرية أفضل) [١٩٨٤م، ص ٤٦٨] . ودون الدخول في تفاصيل الكثير
مما كُتِبَ حول موضوع بناء النظرية والمصادر المتعددة للمعرفة التي تنمي الإدراك
يكفينا أن نورد ما قاله (ويلبر) (١٩٩٠م) :
(إن الصراع بين العلم والدين هو وقد كان دوماً صراع بين المظهر العلمي
الزائف للدين والمظهر الديني الزائف للعلم، وإذا ظل العلم علماً والدين ديناً فليس
هناك احتمال للصراع، أو أن أي صراع قد يحدث يمكن أن يظهر ليقلل من خطأ
الفئة) (ص ٣٥) . إذن فإن الاستراتيجية الأساسية لدمج الإدراك الديني في تطوير
نظريات العلوم الاجتماعية دون فقدان صلاحيتها الخارجية، سوف يتضمن ما يلي:
[رجب، الصفحات ٤٩٠ -٤٩١] :
١- إطارات نظرية للطبيعة البشرية، وموقع الإنسانية من الكون،
والترتيبات الاجتماعية، وأسباب المشكلات الفردية والاجتماعية. ويستنبط ذلك من
الدين أي القرآن والحديث المثبت مع تفسير ذوي الشأن.
٢- سوف تتولد الافتراضات من هذه الإطارات النظرية لاختيارها على
الواقع الكلي الذي يشتمل على العالم التجريبي والوجوه غير التجريبية.
٣- إذا أثبتت الافتراضات المستنبطة من الإطارات النظرية التي تولدت من
المصادر الدينية فإن هذا يعني:
أ- نجاحنا في إحداث حقائق صالحة.
ب- ثقتنا في الإطار النظري الذي يستنبط من المصادر الدينية سوف تتزايد.
٤- إذا رفضت الافتراضات فإن هذا يعني:
أ- أن طرقنا البحثية وإجراءاتنا ليست على المستوى المطلوب.
ب- أن فهمنا أو تفسيرنا للوحي غير صحيح ويحتاج إلى إعادة صياغة.
٥- نحن لا نتوقع حدوث تعارض بين القرآن والحديث المثبت، أو بين هذا
التفسير من جهة والحقائق الثابتة من جهة أخرى؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو
مصدر الوحي وهو خالق الكون.
وتعتمد الاستراتيجية المقترحة على الافتراضات التالية:
١- إذا كان تفسيرنا للقرآن وفهمنا للحديث المثبت صحيحاً فيمكننا عمل إطار
نظري يلبي احتياجات الاختبار الدقيق والقوي في (الواقع الكلي) .
٢- استنباط مثل هذا الإطار النظري من المصادر القرآنية والحديث يضمن
إدراكاً قيماً بدرجة عالية من الثقة والتأكد عند مقارنتها بمجرد الحدس والتخمين؛
إضافة إلى أن فيها نوعاً من الاقتصاد إذا وضعنا في اعتبارنا الجهود التي تبذل في
البحث.
٣- إذا لم تصمد الافتراضات المستنبطة من هذه الإطارات أمام البحث في
(الواقع الكلي) فمن الحكمة تكرار فحص إجراءاتنا البحثية قبل القفز إلى نتائج
الإطار النظري. ويعرف العاملون في مجال الأبحاث ذلك الكم الهائل من وجوه
النقد التي يمكن أن توجّه إلى إجرءاتنا البحثية.
إن اختبار الافتراضات التي تستنبط من هذه الإطارات النظرية يملي علينا
ابتكار أساليب وتقنيات قادرة على لمس (الواقع الكلي) . ويخبرنا (سيبورين)
(١٩٨٥م، ٢١٢) حول الرغبة في الحصول على طرق أفضل لفهم الموضوعية
ووعي الفرد، وكذلك كيفية الوصل بين الأشخاص في كامل إنسانيتهم بما في ذلك
الأبعاد الأخلاقية والدينية.
وقبل الختام يجدر أن نخصص بعض الصفحات لبعض القضايا المهمة التي
يمكن أن تُسمى تحديات تواجه علماء الاجتماع المسلمين:
١- نحن جميعاً نعلم أن حجر الزاوية في صرح الإيمان (الإسلامي) هو
القناعة بأن الإسلام هو آخر الديانات ويصلح لحياة البشرية في جميع الظروف،
غير أن عقول المسلمين عموماً والمسلمين في (الهند) بخاصة أخفقوا في تشكيل
نموذج بديل لبيئة اجتماعية ثقافية مختلفة بالكامل وظروف مختلفة إذا ما قورنت
بالنموذج الكلاسيكي.
٢- ويشير القرآن بوضوح تام إلى أن هناك صلة مباشرة بين الإنكار والذنب
والجهل، ورغم ذلك ساد ولفترة طويلة من الزمن إهمال لأهم جزء من القوة
الديناميكية للإسلام ألا وهي المعرفة؛ إذ تراجعت حتى وصلت مرحلة فرض الكفاية، ونتيجة لذلك يُصنّف مجتمع المسلمين بأنه أكثر المجتمعات تخلفاً في التعليم وفي
معرفة القراءة والكتابة، وينطبق هذا على النوعين من التعليم الديني والدنيوي
[عابدين، ١٩٩٣م، ص ٢٣٠] .
٣- ولا شك في أن الإسلام هو طريقة منزلة من السماء للحياة، ورسالته هي
لجميع الجنس البشري، ويمتلك حلولاً لجميع مشكلات البشر، وهذه الرسالة في
ذاتها تدعو إلى الارتقاء بالمستوى الاجتماعي والاقتصادي للظروف المعاصرة،
والنظر في الوجوه التاريخية للماضي. ويعني ذلك أنه ينبغي على المسلمين عموماً
وعلماء الاجتماع منهم بخاصة الارتقاء إلى مستوى التحدي، والقيام بدراسة مبادئ
السلوك وقواعده خاصة في البيئة التعددية.
٤- في الطريقة الإسلامية لا تكون الدعوة كالوصايا العشر، فهي في جوهرها
وظيفة إنسانية يؤديها الإنسان وسط البشر [عابدين، ١٩٩٣م، ص ٢٣٣] ، ولكن
للأسف فمن الناحية الأخلاقية والروحية وليس فقط من الناحية الاجتماعية والسياسية
فإن المسلمين لا يمثلون قدوة يحتذيها بقية البشر، وفي هذه الناحية فإن للأقليات
الإسلامية دوراً أكبر لتقوم به ومسؤولية تتحملها وأن تواجه التحديات؛ فهم يتعاملون
أكثر مع غير المسلمين، ويتصلون بهم؛ حيث إنهم يعيشون معهم جنباً إلى جنب،
وعلى علماء الاجتماع المسلمين أن يقتربوا أكثر ليباشروا هذا الدور حتى يُخرِجوا
الجنس البشري من جميع أنواع الاستعباد والإهانة إلى مستوى العزّة والكرامة.
٥- وهناك قضايا كثيرة مثل تعليم المرأة ووضعها الشرعي ومشاركتها في
الحياة الاجتماعية هذا من جهة، والتفاهم المشترك بعد التمدين بين الأمم وغير ذلك، مما يستحق عنايتنا حتى نعطي الإرشاد والتوجيه.
إذاً: فإن الحاجة إلى عالم الاجتماع المسلم ينبغي أن تزداد قوة ويجب إدراكها، وعليهم أن يعيدوا النظر في قوانينهم وأساليبهم من خلال الاستفادة من الوحي
الإلهي.
أضف إلى ذلك أن علماء الاجتماع المسلمين بحاجة لأن يرتقوا بعلمهم وفهمهم
لما يسمى بالعلوم الدينية، وأن يزيلوا الحواجز الاصطناعية التي ناقشناها سابقاً.
وفي الختام نرجو أن نعلن بوضوح تام أن هدف علماء الاجتماع المسلمين بعد
إبراز النموذج الجديد هو:
أ - خدمة الإنسانية: إنها مسؤوليتنا وواجبنا نحن علماء الاجتماع أن نضع
تصورات للسبل والوسائل، وأن نقوم بوضع تصاميم لدراساتنا وأبحاثنا حتى
تساعدنا على إزالة الفوارق في جميع الوجوه الاجتماعية والاقتصادية، وتوفير مناخ
من المساواة والأخوة التي تسمى الينابيع الرئيسة للتوحيد أو الإسلام.
ب - تأسيس العدالة في جميع مناحي الحياة، وهنا أيضاً يتعاظم دور علماء
الاجتماع بوصفهم سفراء للإسلام وخبراء في ما نعاصر من مجالات للدراسة.
وأخيراً وليس آخراً ...
ج - توفير الاستقرار في المجتمع؛ لأن عدم الاستقرار يقود إلى الصراعات
والفوضى والكراهية، وهو ينحرف بالقدرات الإيجابية ويجعل من الجنس البشري
حيوانياً غير إنساني وعدوانياً. وعلى عالم الاجتماع المسلم أن يقوم بدور متميز في
تغيير الحال وفي تأسيس الاستقرار في المجتمع.
ويقول الحق تبارك وتعالى: [فَإمَّا يَاًتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا
يَضِلُّ ولا يَشْقَى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ
القِيَامَةِ أَعْمَى] [طه: ١٢٣، ١٢٤] .
إذا كان الدين ديناً حقاً والعلم حقائق صادقة فلا مجال للصراع بينهما أهمية
الاستقرار في المجتمعات أن نقيضها يقود للفوضى والكراهية والصراعات على
الحقيقة، وينعكس هذا التغيير على التحليل الذي يوضح العلم كشكل ثقافي محسوس
وقيمة ناقل.