للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أمريكا ومشروع التقسيم في العراق]

هواجس أم تصميم

محمد الزواوي

كما دخلت الإدارة الأمريكية في أزمة جديدة بعد المواجهة الإيرانية في مجلس الأمن، مع تملُّك إيران لجزء كبير من مفاتيح اللعبة في العراق، وبات ظاهر الوجود الأمريكي في العراق أنه يمثل مأزقاً للإدارة الأمريكية، وأنها دخلت مستنقعاً لا تستطيع الخروج منه، وأن الوضع ينتقل من سيئ إلى أسوأ، ولكن مسؤولي التخطيط الاستراتيجي في الإدارة الأمريكية يرون عكس ذلك.

فالاستراتيجيون ينظرون إلى العالم بخرائطه كنقاط مضيئة من النفط والذهب والموارد والمصادر الطبيعية، ثم بعد ذلك ينظرون إلى تلك الأراضي وسكانها وسبل السيطرة عليهم، وينظرون إلى الاختلافات العرقية والمذهبية والقبلية وكيفية استغلالها سواء بالتحريش بينهم أو نصرة طرف على الآخر، أو عن طريق السيطرة على الأطراف معاً. ولا أعتقد أن الاستراتيجيين الأمريكيين يرون نقطة أكثر إضاءة على الخريطة من شمال العراق الغني بالموارد الطبيعية.

فشمال العراق من أغنى مناطق العالم بالثروة النفطية، مثل آبار الموصل وكركوك وخانقين، وتقدر كمية المخزون الاحتياطي

المسلمون والعالم ـ أمريكا ومشروع التقسيم في العراق هواجس أم تصميم؟

للسنة الرابعة للحرب على العراق وسقوط بغداد، وما يزال القادة العسكريون الأمريكيون يطالعوننا بتصريحات يؤكدون فيها على عدة أشياء: لا لتقسيم العراق، لا للقواعد الأمريكية الدائمة، لا للانسحاب السريع قبل تجهيز الجيش العراقي، لا للتخفيض الكبير لعدد الجيش الأمريكي بالعراق. ولكن من ينظر إلى الأوضاع على الأرض يعلم أن الولايات المتحدة لن تستطيع المضي قُدُماً في وجودها بالعراق على هذا الوضع المضني والمرهق لجيشها، في ظل انحسار الدعم الشعبي بالداخل الأمريكي، والروح المعنوية المتدنية للجنود الذين لا يرون نوراً في نهاية النفق المظلم.

لحقول النفط في كركوك وحدها بأكثر من ١٠ مليارات برميل، بقدرة إنتاجية تصل إلى ما مقداره ٧٥٠ ألف برميل إلى مليون برميل يومياً، وفي عام ٢٠٠٢م كان خط الأنابيب ينقل نحو مليون برميل من النفط الخام يومياً من حقول كركوك النفطية إلى ميناء جيهان التركي، كما كان الاستيلاء على مدينة كركوك من أهم أهداف قوات الاحتلال الأمريكي بمشاركة الميليشيات الكردية منذ بدء العمليات العسكرية في شمال العراق.

كما يوجد العديد من الأنهار ومصادر المياه العذبة التي تعد محورية وهامة لكل دول المنطقة، ويتوقع أن تكون مصدراً للصراع في القرن الحالي، كما تحوي المنطقة العديد من الثروات الأخرى مثل النحاس والكبريت والكروم والملح، كما أن شمال العراق الذي يسيطر عليه الأكراد يمثل فراغاً استراتيجياً كبيراً للإدارة الأمريكية من الحماقة ألا تسيطر عليه؛ فالأكراد يقبعون وسط محيط معاد من تركيا وإيران وسورية، وسيرحبون بشدة بأن يدخلوا في «الحماية الأمريكية» ، وهو ما خططت له الإدارة الأمريكية منذ البداية.

وقد أشار العديد من المراقبين والمحللين إلى أن الإدارة الأمريكية «فشلت في التخطيط لمرحلة ما بعد غزو العراق» ، ولكن الأيام أثبتت أن هذا منافٍ للحقيقة؛ فالولايات المتحدة خططت تحديداً لهذه المرحلة وبكل دقة وتصميم، واستطاعت الوصول إلى هدفها الأسمى في العراق بعد احتلالها، هذا الهدف هو إيجاد مناخ من الفوضى وَضَعَ بيئةً يكون الكل فيها خاسراً في العراق، من انتشار الفوضى والسلاح واليأس بين جميع أطراف المعادلة العراقية. وليس خافياً على ذي لُبٍّ المصلحة الأمريكية في تدمير الأضرحة والمزارات الشيعية؛ فهذا هو المناخ المناسب لإشعال حرب أهلية في العراق، هذه الحرب التي من شأنها تعميق فكرة انفصال تلك الأطراف بعضها عن بعض، وتحقيق حكم ذاتي لكل من السنة والشيعة والأكراد، ومن هذه النقطة سوف تبدأ الإدارة الأمريكية في الدخول في المرحلة الجديدة، في دويلات ما بعد العراق.

فتقسيم العراق سيكون بمنزلة طوق النجاة للإدارة الأمريكية في العراق؛ وقد لا يكون هناك ترحيب بالقوات الأمريكية في المناطق السنية، أو حتى في المناطق الشيعية بسبب المواجهة النووية مع إيران والأبعاد الاستراتيجية الأخرى للمد الفارسي في المنطقة، وسمعة إيران والشيعة في العالم الإسلامي على المدى البعيد. وفي ظل وجود تركيا وإيران وسورية الذين يعارضون وجود دولة كردية، فسوف تكون الولايات المتحدة هي خير نصير «للمظلوم الضعيف المضطهد الشعب الكردي» الذي يطالب بحق من حقوق الإنسان، ألا وهو «حق تقرير المصير، وحق الانفصال» كما حدث في تيمور الشرقية التي انفصلت عن إندونيسيا بنفطها ومواردها، وسنغافورة التي انفصلت عن ماليزيا بحق تقرير المصير، وسترحب أمريكا بوجود قواعد دائمة لها في المنطقة الكردية بشمال العراق، كما أن الأرقام تؤكد أن المنطقة الكردية هي أكثر مناطق العراق أمناً للأمريكان، وتشهد المنطقة أقل العمليات العسكرية ضد الاحتلال ووجوده بالعراق.

وخُطَطُ تقسيم العراق ليست وليدة اليوم أو العام الماضي أو حتى الأيام التي سبقت غزو العراق، ولكن تقسيم العراق كان مطروحاً على الأجندة الأمريكية منذ عهد طويل، ومنذ صدور وثيقة Clean Break الشهيرة عام ١٩٩٦ التي كانت تهدف إلى تأمين «الدولة الصهيونية» ، كما نادى بتقسيم العراق العديد من المفكرين والمؤرخين الصهاينة، أمثال (بيني موريس) و (روبرت بلاكويل) و (برنارد لويس) وغيرهم كثير، والذين كانوا يطالبون بتصحيح الخطأ الذي وقعت فيه بريطانيا عندما كانت تحتل العراق؛ فقد صرح المؤرخ الصهيوني (بيني موريس) في عدد من الإذاعات الأمريكية قبيل الحرب على العراق أن «العراق دولة مصطنعة رسمها الإنجليز وخلطوا فيها عشوائياً شعوباً وطوائف لا تريد في الحقيقة أن تتعايش مع بعضها» . كما اعتبر المؤرخ اليهودي الأمريكي (برنارد لويس) العراق دولة مصطنعة، وأن احتلاله فرصة لتصحيح هذا الخطأ الذي ارتكبه البريطانيون، بإعادة تقسيمه عرقياً وطائفياً.

كما اتخذت الولايات المتحدة خطوات أخرى من أجل تحقيق هدفها في تقسيم العراق، بالرغم من أن كل التصريحات العلنية من الإدارة الأمريكية كانت تنفي تقسيم العراق، وأن أمريكا تريد الحفاظ على وحدته وسلامة أراضيه، ولكن الدستور العراقي الجديد الذي تم الاستفتاء عليه في ١٥ أكتوبر ٢٠٠٥م ليجسد مفهوم التقسيم من خلال تسمية الدولة بالدولة الاتحادية أو الفيدرالية، قد جاءت عبارة (اتحادي) ٦١ مرة في هذا الدستور، كما فرق ما بين الدستور الاتحادي ودستور الأقاليم، بالرغم من تأكيده على عدة عبارات مثل: الهوية الإسلامية، والحفاظ على سلامة أراضي العراق، والالتزام بميثاق الجامعة العربية، إلى آخر هذا الكلام الذي لا يهم أمريكا في شيء؛ فما كان يهم الولايات المتحدة فيه هو عبارة واحدة فقط: وهي أنه دستور اتحادي؛ مما يجعل الباب مفتوحاً أمام الانفصال بعد أن تتشكل هوية كل «اتحاد» وإقليم على حدة، وصياغته لقوانين وتنظيمات خاصة به وبإدارة ثرواته.

كما يحمل هذا الدستور في طياته بذور الفرقة والخلاف، بأن وضع بعض العبارات غير الواضحة من أجل أن تكون هناك مقدرة على إشعال الخلافات في أي وقت، مثل تلك الفقرة في المادة (١٠٩) التي تقول: «تقوم الحكومة الاتحادية بإدارة النفط والغاز المستخرج من الحقول الحالية مع حكومات الإقليم والمحافظات المنتجة؛ على أن توزع وارداتها بشكل منصف يتناسب مع التوزيع السكاني في جميع أنحاء البلاد، مع تحديد حصة لفترة محددة للأقاليم المتضررة والتي حرمت منه بصورة مجحفة من قِبَل النظام السابق والتي تضررت بعد ذلك بما يؤمِّن التنمية المتوازنة للمناطق المختلفة من البلاد وينظم ذلك بقانون» ، وهو ما يفتح الباب على مصراعيه أمام الأكراد بالمطالبة بما يرون من حصة تعويضاً لهم وإنصافاً لشعبهم، وهو ما يمكن أن يكون فتيل أزمة في أي وقت من الأوقات.

وكافة التقارير تشير إلى وجود حالة من الرغبة الكردية الشعبية في الانفصال، ويظهر ذلك من خلال تصريحات كافة الأكراد حول العالم الذين يطالبون بحقهم في تقرير المصير والعيش في ظل دولة بثقافة ولغة كردية خاصة بهم، ويقولون إنهم لديهم كافة مقومات وجود الدولة؛ ولكنهم نسوا الإشارة إلى أن اللبنة الأخيرة في تلك الدولة الكردية أنه يجب أن تكون الحماية الأمريكية لهم، والذي لن يكون بلا مقابل بالطبع؛ وبذلك ستستطيع أمريكا أن تفرض إملاءاتها على الدولة الكردية، وستقوم شركات السلاح الأمريكية بإنشاء خطوط إنتاج كاملة لتوفير حاجات الدولة الناشئة التي تقع في بيئة معادية، كما أن «الدولة الصهيونية» لن تكون بعيدة عن تلك المعادلة.

فالكيان الصهيوني من أكبر المستفيدين من وجود دولة كردية في تلك المنطقة، كما أشارت صحيفة (هآرتس الصهيونية) بتاريخ ١٦/٥/٢٠٠٥ أن هناك أنبوباً نفطياً مقترحاً سينقل النفط من كركوك والموصل إلى ميناء حيفا عبر الأردن، وطلب مسؤول كبير في البنتاجون من وزارة الخارجية الأمريكية بحث تكلفة ضخ النفط من كركوك إلى حيفا، وترميم خط النفط الذي كان يستعمل قبل عام ١٩٤٨ في نقل النفط، وصرح مسؤول صهيوني أن القرار ينتظر موافقة الأردن، الذي سيحصل على حصة مقابل اختراق الأنبوب لأراضيه.

كما ستنتظر «الدولة العبرية» أول ضربة من مِعْوَل التقسيم الذي سوف يحدث شرخاً عميقاً في المنطقة العربية، هذا الشرخ الذي سيمتد إلى دول الجوار وربما إلى كافة دول المنطقة، وسيظل هذا الشرخ يتشعب ويتسع ويؤدي إلى تمحور دول واستقطاب كيانات بناء على ضربة المعول الأولى تلك، مما سيغير من الصورة التي عليها المنطقة العربية في عالم اليوم، بوجود دولة أخرى شيعية من ورائها مد فارسي، مما سيجعل المواجهة حتمية بين السنة والشيعة، وهو المطلب الأسمى لأمريكا و «الصهاينة» ، كما كانت الحرب العراقية الإيرانية هي الأوزة التي تبيض ذهباً للإدارة الأمريكية، وكان (رامسفيلد) ذاته هو الممول الرئيس لتلك الحرب بالأسلحة الكيماوية وغير التقليدية.

ويمكن لأمريكا في هذا الوقت أن تظل على الحياد، وأن يكون أملها هو حماية تلك الدولة الكردية المستضعفة، كما سوف تستطيع الولايات المتحدة أن تهدئ مخاوف الأقطاب العالمية الأخرى، مثل الصين التي تعتمد على النفط الإيراني والذي سيظل يتدفق بلا توقف، وسوف تظل أمريكا حريصة على إرضاء كافة الدول الكبرى التي سترضى بقسمة من الكعكة العراقية، وعلى مستوى شعوب العالم ستكون لأمريكا «قضية أخلاقية» أخرى، غير تلك الخاصة «بتحرير الشعب العراقي» ، فتلك القضية سوف تصبح إعانة الشعب الكردي الصديق على نيل استقلاله وحق تقرير مصيره.

وقد بدأ التحضير الإعلامي الأمريكي والبريطاني لقضية التقسيم منذ وقت طويل، ومؤخراً كتبت (جاريث ستانسفيلد) في «الصنداي تيليجراف» البريطانية مقالاً صباح الأحد ١٩ مارس ٢٠٠٦ بعنوان: «هل ينقذ التقسيم العراق من نُذُر حرب أهلية؟» تقول فيه: «ومهما كانت الأسباب؛ فما من شك في حرج الموقف الذي يقف فيه العراق الآن. وبالرغم من الجدل الدائر بين السياسيين والأكاديميين بشأن ما إذا كانت هناك حرب أهلية تدور في العراق بالفعل، فإن الحقيقة هي أن العنف يظل موجوداً، ولا يزال هناك قدر كبير من الأمل بين عامة العراقيين» ، وهذا الأمل فيما تراه هو التقسيم.

وكتبت الصحيفة ذاتها خبراً ينقل عن (رامسفيلد) قوله: «نحن نحاول معرفة ماذا سنفعل إذا سقط العراق في دوامة حرب أهلية» ، ثم يضيف: «مجتمع الاستخبارات يفكر بشأن هذا ويحلله» . وبالطبع فإن مجتمع الاستخبارات هذا لم يبدأ اليوم ولا أمس، ولكنه بدأ منذ وقت مبكر للغاية، قبل غزو العراق بعدة سنوات، وتم تتويجه بمباحثات سرية مع الجانب الإيراني، وقد خرجت الكثير من التصريحات الإيرانية التي تصب في هذا الاتجاه أيضاً على لسان (عبد العزيز الحكيم الطبطبائي) وغيره، وقد صرح المذكور في ١١ أغسطس ٢٠٠٥ في خطابه بمدينة النجف بمطالبته بإقامة إقليم فيدرالي يضم جنوب ووسط العراق.

ولا ريب أن أمريكا تدرس الآن كافة الحلول والخيارات الممكنة مع إيران؛ فما كان إرسال الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن إلا مقدمة للضغط على إيران قبل إجراء أي مفاوضات بشأن العراق، وربما تضغط أمريكا على إيران بأن تجمد الأخيرة برنامجها النووي نظير سماح أمريكا بقيام دولة شيعية في العراق المقسَّم، ونظير السماح لإيران أيضاً باستمرارها في ضخ النفط وتصديره إلى الصين، وبهذا تكون أمريكا قد ضربت عصفورين بحجر واحد: تجميد النووي الإيراني، وبسط نفوذها العسكري على المنطقة من خلال الدولة الكردية، وإرضاء الصين أحد أهم الأقطاب العالمية.

ويبدو أن الجانب الإيراني قد وصلته الرسالة الأمريكية من خلال الاجتماعات السرية بينهما؛ فقد صرح السفير الإيراني في أنقرة (فيروز دولت أبادي) لصحيفة «ميلليت» التركية بتاريخ ٥ أبريل ٢٠٠٦ أن هدف الولايات المتحدة من مشروع الشرق الأوسط الكبير، هو إقامة دولة كردية مستقلة في المنطقة، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة تسعى لتأسيس دول عرقية صغيرة تخضع للسيطرة الأمريكية، وأوضح السفير الإيراني أن مشروع كردستان الكبير تم طرحه خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، وأن السياسات الرامية لتنفيذ هذا المشروع «لا تزال سارية حتى الآن» ، وأضاف أن أمريكا تتحرك لإقامة دولة كردية مستقلة على أن تقوم بعد ذلك باستقطاع جزء من الأراضي التركية والإيرانية لضمها لهذه الدولة.

كما أن أمريكا لن تجد فرصة لتأديب سورية أفضل من إقامة الدولة الكردية في المنطقة، كما أن تأليب أكراد سورية سيكون من أهم وسائل زعزعة النظام في البلاد، ولن تعدم أمريكا «جلبي» آخر، كردياً سورياً هذه المرة ليكون رأس الحربة في المنفى لزعزعة النظام، أو استغلال الآخرين لتحقيق مصالحها التي بدأت أبعادها تتضح في المنطقة. وسيكون لدى أمريكا العديد من الخيارات الاستراتيجية لتضخيم وتعزيز تلك الدولة الكردية التي ستنشأ عملاقة بعد الدعم الأمريكي لها وبسبب مصادرها الطبيعية الهائلة، وستكون بمثابة الدولة الأم: داعمة لكافة الأكراد في دول الجوار.

أما تركيا والتي صرحت مراراً وتكراراً بأنها لن تسمح بقيام دولة كردية في المنطقة فلن تستطيع مواجهة دولة تدعمها الولايات المتحدة دعماً مباشراً، كما أن الولايات المتحدة من خلال قنواتها الدبلوماسية تمتلك ورقة دخول تركيا للاتحاد الأوروبي؛ فهي كدولة رائدة في حلف شمال الأطلنطي «الناتو» تمتلك زمام دول أوروبا، ولا يخرج عن فلك أمريكا سوى فرنسا وألمانيا، وتستطيع طمأنة مخاوف تركيا بأنها لن تسمح للأكراد بانتزاع شبر من أراضيها، كما ستغض أمريكا الطَّرْف عن أية عمليات قمعية للجيش التركي لتطهير أراضيها من الأكراد الذين سيفرون إلى الدولة الجديدة، وبذلك تنعم تركيا ـ ولو مؤقتاً ـ بأمن قومي داخلي خالٍ من الانفصاليين الأكراد.

وربما تمتلك أمريكا الكثير من أوراق اللعبة في المنطقة بوضع أقدامها في أفغانستان والعراق، من خلال قواعد عسكرية وجوية في الخليج العربي وتركيا، وكلها نقاط تماس تستطيع أمريكا استغلالها استراتيجياً بصورة جيدة، سواء كان ذلك وسيلة للضغط، أو حتى وسيلة لإلهاب المنطقة في حالة حدوث أي مواجهة عسكرية مع إيران، مثل قيام «الدولة الصهيونية» بقصف المفاعلات الإيرانية بمساعدة أمريكية؛ فأمريكا تستطيع تأليب تركيا والخليج العربي كله على إيران في حالة قصف إيران لأي من القواعد العسكرية في تركيا أو الخليج، مما سيجعل الجميع يفكرون ألف مرة قبل الدخول في خيار عسكري مع الولايات المتحدة.

إن الولايات المتحدة تسير بخطى ثابتة تجاه إنشاء الدولة الكردية في المنطقة، وتنتظر ضربة المعول الأولى لتقسيم العراق ورفع علم كردستان لتشكيل ما يمكن وصفه بـ «إسرائيل الثانية» . ولا يزال المجتمع المخابراتي والاستراتيجي وقوافل التضليل الإعلامي يعملون على تحقيق هذا الهدف بأجندة واضحة تمضي بخطى متأنية، وبأساليب مغرقة في الخداع الاستراتيجي، وبتصريحات علنية ترفض أفكار التقسيم والقواعد على لسانَيْ وزير الدفاع ووزيرة الخارجية، بل على لسان الرئيس الأمريكي ذاته، الذي لا يزال يلعب باقتدار دور الببغاء الأبله الذي يقف على قمة جبل الجليد الأمريكي الذي لا يظهر منه شيء إلا قمته وفوقها هذا الببغاء الملون، الذي ينقل تلك الخطابات التي تُطلب منه لتوصيل رسائل تضليلية بعينها، والذي لا يفتأ يؤكد على ما يُطلَب منه تأكيده.

وتسير المخططات الأمريكية في المنطقة على وعي وإدراك تام من جانب إيران وتركيا وربما سورية أيضاً، ولكن يظل البعد العربي غائباً عن تلك المعادلة بسبب طبيعة الأوضاع السياسية والاقتصادية في البلاد العربية، ولا تزال المنطقة تغط في سبات عميق، حالة من النوم الإرادية أو الإجبارية، ولكنها لا تزال حالة سبات عميق، وتغافل تام عن أهم قضايا الأمن القومي العربي، وملاحقة للأهداف الشخصية والإقليمية وتغليب الخلافات البينية على المصلحة العليا للأمة العربية والإسلامية، في ظل حالة من التصفيق الحاد والانحناء إعجاباً وإكباراً بسياسات (بوش) التي تحرِّم سحب القوات الأمريكية من العراق بدعوى أن ذلك سيمثل خطراً على الأمة العربية، و «سيخلق حالة من الفوضى في المنطقة» .