للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[المساعدات الأمريكية للفلسطينيين أولويات مختلة وشروط خطرة]

إبراهيم أبو الهيجاء

من المعروف في تاريخ الدعم المالي الأمريكي للفلسطينيين أن الولايات المتحدة لا تدعم جهاز السلطة الفلسطينية بشكل مباشر، وإنما تلجأ إلى تصريف هذا الدعم من خلال فريق الدول المانحة الدولي، وبهذه الآلية التحايلية أمنت الولايات المتحدة لذاتها ثغرة الهروب من التزاماتها الجدية؛ ليس فقط تجاه الشعب الفلسطيني النامي؛ بل حتى تجاه السلطة الفلسطينية المتبلورة نتاج اتفاق سياسي رعته هي ذاتها. ورغم أن السلطة الفلسطينية لبت الشروط الأمنية في العلاقة مع الاحتلال الإسرائيلي، إلا أن المساعدات الأميركية كانت شحيحة، وبقيت مساعداتها محصورة في إطار الدول المانحة أو صندوق النقد، أو تركزت في رفع الجاهزية الأمنية الفلسطينية دون أن يُدرج أو يُذكر حجم هذا التمويل في الموازنات الرسمية، كل ذلك كان يبين التالي:

١ - أن السلطة الفلسطينية الناشئة لم تتلق مساعدات اميركية تليق بحجم الثمن الذي قدمته في التسوية التي هي دون شك مصلحة أميركية، مما يؤكد أن الولايات المتحدة لا تعير هذه الجهات العربية أي رعاية مقابلة أو متبادلة.

٢ - أوهمت الولايات المتحدة السلطة الفلسطينية بجنة اقتصادية قبل التوقيع في أوسلو، وقد تبين فيما بعد ان كل ذلك مجموعة أكاذيب ورطت السلطة في انتفاخ اقتصادي أوهم الشعب الفلسطيني بأحلام سنغافورة الشرق الأوسط. ومع الوقت أدرك الشعب الفلسطيني أن أوضاعه الاقتصادية بعد التسوية ساءت بدل أن تتحسن، وفاقم ذلك السوء الاحتكارات والفساد المتفشي في أجهزة ووزارات السلطة من جهة، وحجم الإطار التوظيفي المتضخم الذي سعى لحل مشكلة البطالة، أو ربط الولاء بالتوظيف، مما أدى إلى بطالة مقنعة تأخذ ٥٠% من موازنة السلطة الكلية و ٦٨% من النفقات الجارية، وهذا أحدث عجزاً سنوياً يقدر بـ ٥٠٠ مليون دولار خاص فقط بالنفقات التشغيلية التي لو توقف صرفها الآن لانهارت السلطة على الفور.

٣ - بالمقابل بقيت دولة الصهاينة تستفيد من التهدئة المتحصلة نتاج التسوية المستجدة بأوسلو، من حيث حجم الاستثمار والعلاقات المنفتحة والتجارة الخارجية، والأهم أن الولايات المتحدة بقيت عند التزامها السنوي (لإسرائيل) والمقدر بثلاثة مليارات دولار، موزعة كالآتي: ٦٠% للجانب العسكري، و٤٠% للجانب الاقتصادي بعد اتفاقية كامب ديفيد مع مصر، ناهيك عن البرامج الاقتصادية المشتركة والتسهيلات التجارية والائتمانية، القروض طويلة الأجل، وبلغت حصيلة المساعدات المباشرة من عام ١٩٨٩م، حتى عام ٢٠٠٢م (٤٢ مليار دولار) ، وهو تقريباً أكثر من نصف المساعدات المقدمة منذ نشوء إسرائيل عام ١٩٤٨م والتي بلغت ٨٣ مليار دولار.

٤ - في محطات مختلفة لا سيما في هَبَّة النفق الفلسطينية، تدخلت الولايات المتحدة سياسياً لتقويض دعم المؤسسات والدول المانحة لإجبار السلطة على تعديل سلوكها الأمني والسياسي تجاه (إسرائيل) ، والشواهد على ذلك كثيرة.

- أوجه المساعدات الأميركية:

توجه مجمل المساعدات الأميركية فقط إلى المنظمات غير الحكومية الفلسطينية، وهي بالمناسبة لم تتجاوز منذ سنة ١٩٩٦م وحتى الآن مبلغ ٩٠٠ مليون دولار، وهذا بالطبع رقم سخيف تجاه المعاناة الفلسطينية التي تخسر (يومياً) بعد انتفاضة الأقصى ١١ مليون دولار في القطاعات المختلفة ـ حسب إحصاءات الأمم المتحدة ـ ويمكن حصر وجهة هذه المساعدات بالبنود التالية:

١ - التزام سنوي من خلال وكالة غوث اللاجئين (تعليم وصحة وتدريب وإصلاح ضرر) يبلغ ٨٨ مليون دولار ارتفعت إلى ١٢٨ مليون دولار بعد انتفاضة الأقصى، وهذه المساعدات بالكاد تؤمِّن الاحتياجات الأساسية للاجئين في وطنهم، وحتى هذا التمويل جوبه بالكثير من التشكيك الإسرائيلي بعد تحول المخيمات الفلسطينية لمعاقل المقاومة، فضيقت الولايات المتحدة تصرُّف الوكالة في هذا الدعم من خلال التدقيق في هوية المستفيدين من جهة، وعدم إصلاح أضرار بيوت المقاومين أو عوائلهم مثلاً.

٢ - التزام سنوي من خلال وكالة التنمية الأمريكية يبلغ ٧٥ مليون دولار، ارتفع إلى ١٢٠ مليون دولار، يوجه أغلبه للقضايا الفكرية والتطويرية والإصلاحية؛ وذلك حسب المفهوم الأمريكي لكل هذه المعطيات.

٣ - بعد انتفاضة الأقصى أيضاً جرى توجيه ٢٠ مليون دولار مباشرة للسلطة في عهد حكومة أبو مازن، هي الأسبقية الأولى في توجيه المال بشكل مباشر.

٤ - بعد انتفاضة الأقصى جرى تبني العديد من البرامج الصحية والبنى التحتية بلغت ما يصل إلى ١٠٠ مليون دولار.

من خلال ما تقدم نستطيع استنتاج التالي:

أولاً: أن هذه المساعدات هشة، ولا يمكن أن تساهم في إنتاج اقتصاد فلسطيني يناسب الاولويات أو التنمويات الحقيقية؛ لأن التمويل مشروط بتطابقه مع البرامج والمصالح الاميركية، وليس الحاجات والأولويات الحقيقية.

ثانياً: ما بعد انتفاضة الأقصى نستطيع أن نرصد توجهات مالية أميركية انحرفت عن البرامج السابقة وحاولت محاكاة بعض جوانب المعاناة الفلسطينية؛ مع الحرص الشديد على عدم مساعدة المقاومين الفلسطينيين.

ويمكن رصد أسباب الانحراف الاميركي الطفيف عن السياسات السابقة في سعة التمويل أو أشكاله (ما بعد انتفاضة الأقصى) إلى التالي:

١ - الخشية من انهيار السلطة، والحاجة إلى الحفاظ على جيش المنتفعين منها بدل تحولهم إلى جيش من المقاومين، وهذا قريب جداً من الفلسفة الإسرائيلية التي تسعى إلى التهرب من الأعباء المدنية رغم سيطرتها الفعلية على كل مفاصل الحياة الفلسطينية؛ بحيث تبقيها مشلولة سياسياً، وضعيفة أمنياً بمقدار أو حدود تصديها للمقاومة الفلسطينية.

٢ - الحرب الأميركية والإسرائيلية على الجمعيات الإسلامية في الداخل والخارج، والحاجة إلى خلق بديل يعتمد عليه يبقى التمويل بيده يحدد لمن يعطي ولمن لا يعطي.

٣ - الخشية من تفرد الجمعيات الإسلامية في مساعدة الفلسطينيين المتضررين، ومن ثم قدرتها على تامين بنية إسنادية للمقاومين، وإنشاء بديل اجتماعي وارث لنظام السلطة الفلسطينية المتآكل.

- إشكالية الدعم الأميركي للمنظمات غير الحكومية:

الغريب أن الولايات المتحدة تخلط عمداً بين دعمها للشعب الفلسطيني والمنظمات غير الحكومية، فتحسب هذا على ذاك، ووجه الاعتراض لا يتعلق بالدعم الأميركي لتلك المنظمات؛ ففي الوضع الصحي ذلك هو المسار الأفضل، ولكن علينا أن نعيد النظر قبل تصنيف هذا الدعم، وكأنه دعم يصل لفئات الشعب المتضرر، من حيث:

ورغم أهمية هذه العناوين لدى الشعوب المعافاة من ظروف الاحتلال، إلا أن الحقيقة الملحَّة تبقى لإغاثة الشعب المتضرر يومياً. وللأسف فإن العديد من المنظمات الفلسطينية التي كانت تحاكي التمويل أكثر من محاكاة مدى الضرورة والحاجة، ساهمت في ذلك التشويه، من حيث درت أو لم تدرِ.

٣ ـ عندما حاولت السلطة سنة ١٩٩٩م السيطرة على التمويل الذي تحصله تلك المنظمات والذي يصل سنوياً إلى ٢٠٠ مليون دولار أخفقت، وذلك نتيجة تدخل اميركي حاسم رغم علاقة السلطة الجيدة بالأميركان في ذلك الحين، ورغم إدراكنا أن غاية السلطة السيطرة على هذه الموارد أكثر من رغبتها في محاربة تلك المنظمات، إلا أن إخفاقها يدل على مدى الاهتمام الأميركي بتكريس هذا التمويل بـ (أجندته) ذات الإشكالية.

- مخاطر الاشتراطات الجديدة:

الخطوة الجديدة التي سعت إليها الولايات المتحدة من خلال وكالة التنمية الأميركية، هي إضافة بند على شكل وثيقة يلزم الجمعيات أو الهيئات صراحة بعدم تقديم أي دعم مادي أو أية موارد لأي فرد أو هيئة تعلم أو بوسعها أن تعلم أنها تدعو إلى / أو تخطط أو ترعى أو تشارك أو أنها قد شاركت في النشاط (الإرهابي) . وتشكل هذه الشهادة أحد الأحكام والشروط الصريحة للاتفاقية، وأي خرق لها سيشكل أساساً لإنهاء الاتفاقية بشكل انفرادي من قِبَل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية قبل انتهاء مدتها.

من الواضح أن التفصيل الفني والتدقيق اللفظي لمصطلح (الإرهاب) حسبما جاء، قُصِد منه عدم وجود أي فسحة أو هامش للتهرب منها؛ لأن المطلوب هو أبعد من التوقيع على وثيقة روتينية، ويتمثل بالتالي:

١ ـ إخضاع الجمعيات الفلسطينية للشروط السياسية والمفاهيم الأميركية حول الإرهاب، الذي يعني حسب قانون الإرهاب الأميركي تنكُّر تلك الجمعيات لمقاومتهم المشروعة التي تصنفها اللوائح الأميركية كإرهاب ممارس ضد دولة مسالمة وآمنة، وليس ضد احتلال.

٢ - تضييق الخناق على المقاومة الفلسطينية، بعد ضرب إسنادهم من قِبَل الجمعيات الإسلامية، والمطلوب أيضاً إغلاق كل المنافذ التي يمكن أن يستفيدوا هم أو أقاربهم منها.

٣ - الهدف السياسي الكلي هو إجبار الفلسطينيين على تحسس مدى الثمن الذي يمكن أن يدفعوه إذا ما استمروا بالانتفاضة، أو بتأمين الدعم الشعبي لها؛ بحيث يصلون إلى لحظة الإنهاك والاستسلام؛ فبعد محاصرتهم سياسياً يأتي حصارهم اقتصادياً؛ بحيث يصبحون عالة على المساعدات الأميركية بالشروط التي يتنكرون فيها لمقاومتهم وحقوقهم.

٤ - لقد حصلت إسرائيل على تنكر فلسطيني رسمي لبعض فعاليات المقاومة، ولا سيما عمليات العمق، والمطلوب الآن إخضاع المؤسسات الأهلية للمنطق ذاته، بما يحاصر شرعية أعمال المقاومة رسمياً وأهلياً.

٥ - إن الآثار الخطرة لهذه الوثيقة ستأتي مع تقدم الزمن، حينما يتدخل المزاج الأميركي العلني والإسرائيلي الخفي في الوقوف على كل فعل، أو قول لهذه الجمعيات، وربما غدا التدخل في إطارها وموظفيها وقوائم المستفيدين منها، وربما مطالبتها غداً باستنكار عمليات المقاومة ونبذها، والانخراط الواضح في تأييد كل المبادرات السياسية الأميركية ... وهكذا.

- المواقف الفلسطينية تجاه تلك الاشتراطات:

اتسمت تلك المواقف بالتالي:

١ - التأخر في التحرك، بعد أن تورط الكثير من الهيئات والجمعيات بالتوقيع على هذه الوثيقة بقصد أو بدون قصد سوى دعاوى الجهل بخطورتها أو مراعاة لإشكالية توقف الدعم الأميركي عنها مما قد يعني نهايتها.

٢ - موقف السلطة الرسمي ذو إشكالية في ضوء أن تنكُّرها علناً لما أسمته بالارهاب والعنف لا يمكِّنها من مقاومة الوثيقة أو معارضتها لكونها تخشى ازدياد حنق الأمريكيين عليها.

٣ - تحرُّك القوى الفلسطينية ضعيف في التحذير من مخاطر الوثيقة، في ضوء تصورها المسبق والقائم على فلسفة «أن هذا التحرك الأمريكي متوقع وغير مستبعد» وربما يخشى بعضٌ «أن يظهر بمن يذرف الدموع على دعم أميركي هش ومختل» .

كل ذلك يدل على تلكؤ وأحياناً عجز التحرك الفلسطيني الرسمي والأهلي وحتى الشعبي، ورغم اليقظة المتأخرة لبعض القوى والفعاليات السياسية والأهلية، إلا أن التحرك بقي ضعيفاً وأولياً، وبرأينا أن استحقاقات الخطورة سيجري تلمسها مع مرور الوقت؛ ولعل الخطوة الأمريكية الأخيرة دليل على ما نذهب إليه؛ فقد أوردت (القناة الثانية في التلفزيون الفلسطيني أثناء إعداد هذا المقال) أن الإدارة الأمريكية هددت السلطة الفلسطينية بوقف دعمها للمنظمات غير الحكومية إذا لم يجرِ تسليم ثلاثة نشطاء فلسطينيين متهمين بتفجير الموكب الأمريكي العائد من غزة قبل مدة، مما أدى إلى قتل ثلاثة حراس أميركيين.

من المهم القول في نهاية كل ما تقدم: إن الإشكالية ليست فيما يقصده الدعم الأمريكي؛ فهذا معروف لكل قارئ ألف باء السياسة، ولكن الأهم: ماذا نريد نحن العرب والفلسطينيين؟ وإلى أي حد نحن واعون لما يريدون؟ وكيف يمكننا ترجمة ما نؤمن به إلى برامج؟