للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رجال منتظرون

[أمل أمة]

جمال أحمد رجب

أمة تفيء إلى ربها، وتعود من بعد طول غياب في ظلمات الجاهلية

وشرورها، أمة تستروح نسمات الإيمان، وقد آن لها أن تقف مرة أخرى بعد

عشرات من السنين على طريق الأصالة والتوحيد.

أمة ينبض قلبها بدم جديد، فتعود إليها حياتها متجددة، بعد أن ظن أعداؤها

أنهم قد قضوا عليها بالسم الزعاف، وما دروا أنهم قد قتلوا الحياة واغتالوا الوجود

يوم أن أوقفوا ريادتها وأنهكوا حياتها.

وهاهم أعداء الأمة اليوم يصرخون.. فمن ينجيهم من عذاب أليم؟ ! ! أمة

تعود إلى ذاتها التي ضيعتها، وإلى رسالتها التي هانت عليها، أمة تعود إلى روحها

إلى قرآنها.. إلى سنة نبيها.. إلى شريعتها.. إلى دستور حياتها. وطريق

العودة طويل طويل..

طويل أولاً في وقته وزمنه، فهو طريق التأسيس المنهجي وليس الإصلاح

والترقيع العفوي [أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ

بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ..] .

وطويل ثانيًا في تضحياته ومشقاته، فلن يترك الباطل الحق في يسر وسهولة

ولن يرفع أعداء الله راياتهم البيضاء إلا بعد معارك طوال.

يقول ربنا: [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وإن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا

بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ..] ، فهنا أمران من عداد التضحيات

والمشقات:

الأول: أنه ينبغي على رجال الأمة أن يحملوا الأمانة كما أبلغهم الله إياها،

ويبلغوها العباد كما أراد الله لا كما تهوى الأنفس وتزينه الشياطين، وهذه تضحية

ومشقه أولى.

الثاني: يفهم من قوله تعالى [واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ] [المائدة: ٨] أن

البلاء واقع بمجرد إبلاغ الحق إلى الخلق، وهذه تضحية ومشقة ثانية، يقول ربنا:

[لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وأَنفُسِكُمْ ولَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ ومِنَ الَذِينَ

أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً..] وعلى هذا الطريق - طريق العودة - يقف رجال يحملون

عقيدة الأئمة وسلف الأمة، فعليها يأتلفون ويجتمعون، ومن دونها يفارقون،

يتربون على عظائم الأمور ومكارم الأخلاق، صفوفهم منتظمة، حريصون على

الوحدة والائتلاف وليس الفرقة والخلاف، هممهم عالية، صبر على المحن، وبعد

عن الفتن، عقولهم متزنة، جنوبهم لينة، أخطاؤهم معدودة، إذا ذكر الله وجلت

قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون، دامعة أعينهم،

حزينة قلوبهم، يبكون يوماً قصيًرا لغد طويل، لا يحزنون على ما فاتهم من الدنيا،

ولا يفرحون بما أتاهم منها، [الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ومِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ]

أنفاسهم طويلة مثل طول طريقهم.. وآراءهم حكيمة على مثل ما يواجهون..

واعون لواقعهم الذي يحيونه فهم له مستبينون لا يخدعهم معسول قول جاهلية

عصرهم عن حقيقة كيدها وعنادها وتنكرها لطريق الله، واجتيالها للعباد - كل

العباد - عن مصدر عزهم وسعادتهم ألا وهو دينهم الحق، فماذا بعد الحق إلا

الضلال؟ ! !

فهم ممتثلون قوله تعالى: [وكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ ولِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ]

وهؤلاء هم الرجال المنتظرون.

هم الصف الأول، هم النخبة الموجهة، هم الصفوة المنتقاة، هم حراس الأمة

وقادتها وعقولها، رجال هم عين الأمة وضميرها، رجال يذودون عن الأمة،

ويدافعون عنها، ويدفعون الأعداء، رجال يوجهون الأمة، وبهم تسترشد الأمة

طريقها، رجال تلوذ بهم الأمة - بعد الله - في مدلهمات الأمور وجسام المواجهات، رجال تناط بهم أمانة حمل هذا الدين العظيم، وإبلاغه للناس والتمكين به في

الأرض [وعَدَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا

اسْتَخْلَفَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ولَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَذِي ارْتَضَى لَهُمْ ولَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ

أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً] ، رجال تحتاجهم الأمة في كل ظروف تاريخها

الطويل، وحاجتها إليهم اليوم أشد، إنهم رجال المواقف ...

غير أن المنهجية الأصولية التي تلتزم بها هذه الأمة ورجالها تقتضي أن

نعرض صفحة من علمها المدون يقتضيه السياق:

أولا: قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُوْلِي

الأَمْرِ مِنكُمْ فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ والرَّسُولِ ... ] اتفق أهل السنة

على أن العلماء من أولى الأمر وطاعتهم معطوفة على طاعة الله ورسوله، وبداهة

فإن هؤلاء العلماء في زماننا هم الذين يطيعون الله ورسوله، ويتقون الله مع قيامهم

بالحق لا يخشون في الله لومة لائم، ولا يشترون بآيات الله ثمنًا قليلاً، ولذا لا

يجوز أهل السنة لعلمائهم أن يغيروا دين الله فيأمرون بما شاؤا وينهون عما شاؤا.

مما تقدم وجب على الأمة طاعة علمائها.

ثانيًا: إننا نحيا عصر التخصص العلمي الدقيق، ولهذا كان علينا أن نصبغ

الحركة الإسلامية بصبغة التخصصية، فهذا يتخصص بتاريخ الأمة الإسلامية على

مر القرون يعلم حركته، ويدرك تطوراته ومراحله، ويفهم مده وجزره، وآخر

يتخصص بعلم الرجال الذين تصدوا القيادة والتوجيه والتأثير في هذه الأمة في

القرون الأخيرة - مثلاً - فيعلم نشأتهم وتربيتهم ومنطلقاتهم وأفكارهم ومخططاتهم

وأهدافهم التي سعوا لتحقيقها ولتنفيذها في هذه الأمة، وثالث يتخصص بعلم التفسير

الشرعي يفهم أصوله ويعلم مدلولات النصوص ومراميها وأسباب نزولها والمحكم

منها والمتشابه والخاص والعام والمطلق والمقيد إلى آخر ذلك.. ورابع يتخصص

بعلم الاقتصاد.. وخامس بعلم الدعوة والتأثير والتربية.. . إلى آخر تلك

التخصصات وهذه العلوم والفنون التي تحتاجها الأمة متمثلة في رجال أكفاء،

يوجهون ويصنعون حضارتها.

إن ميزات الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- أنه قد ربى جيلاً كاملاً

قادرًا على أن يتبوأ مكانة في الصدارة لهذه الأمة، وحينما رحل الرسول الكريم إلى

ربه لم تنهزم الأمة ولم تندثر بل علت وانتشرت وغزت الأرض لتكون كلمة الله

هي العليا.

وهانحن نقول مشددين عليها:

أعطني رجالاً أصنع لك حضارة..

-يتبع-