للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الرسائل الأمريكية

[نظرات في التسريبات الإعلامية]

وهل هي سبق صحفي أم لتحقيق أهداف مرسومة؟

د. باسم خفاجي

تهدف هذه المقالة إلى تفسير تكرر ظاهرة تسريب الأخبار الإعلامية التي تظهر وكأنها فضائح تدين تصرفات الإدارة الأمريكية وتعاملاتها مع العالم العربي والإسلامي. فهل من الممكن أن يكون الكثير من هذه التسريبات الإعلامية مقصودة لتحقيق أثرٍ مَّا يساهم في خدمة المشروع الأمريكي للسيطرة على المنطقة، وليس مجرد سباقات صحفية للنيل من الإدارة الأمريكية من قِبَل من يعارضونها؟ يقدم المقال مجموعة من التساؤلات حول هذا الموضوع، ومتابعة لحقيقة المستفيدين من تسريب هذه الأخبار على مدى الأعوام الماضية. يخلص المقال إلى أنه قد لا تتوفر أدلة دامغة لإدانة الإدارة الأمريكية بتعمد تسريب الأخبار طوال الأعوام الماضية، ولكن هناك ما يكفي من القرائن لإثارة الشكوك حول تكرار هذه الظاهرة خاصة فيما يتعلق بالعالم العربي والإسلامي.

- الفضائح الإعلامية:

انتشرت ظاهرة التسريبات الإعلامية المتعلقة بتعامل الإدارة الأمريكية مع العالم العربي والإسلامي بشكل ملحوظ منذ أحداث سبتمبر الشهيرة. موقف الإدارة الأمريكية من هذه الظاهرة متكرر أيضاً ويجمع بين النفي والإثبات في الأمر.

وعدم البحث عن سبب التسريب أو من قام به. لم يحدث في معظم هذه الحالات أن عرف العالم حقاً من الذي سرب الخبر أو لماذا فعل ذلك؟

ولنا أن نتساءل: هل ما يحدث لأمريكا هي فضائح إعلامية يتم الكشف عنها واحدة تلو الأخرى نتيجة لجهود من يعارضون أمريكا، أم أننا أمام حيلة من حيل الإعلام والسياسة الأمريكية التي لا تعترف بأخلاق أو قيم عدا القيم النفعية وكل ما يبرر أو يدعم مشروعات الهيمنة؟

لقد شهدت الأعوام الماضية مجموعة من الأخبار التي تسربت للعالم رغم رغبة الإدارة الأمريكية فيما بدا للجميع. فانتشر خبر إنشاء مكتب نشر الأكاذيب بالبنتاجون، وسارعت أمريكا إلى نفي الخبر، وبعدها تسربت الأخبار عن انتهاكات حقوق المسلمين في القارة الأمريكية بعد أحداث سبتمبر.

ظهرت بعد ذلك صور التعامل مع المعتقلين المتهمين بمحاربة أمريكا، والذين تم ترحيلهم إلى معتقل جوانتنامو، وتلا ذلك أخبار فضائح سجن أبو غريب من قتل وإهانة للسجناء، واغتصاب الرجال والنساء، وسجن الأطفال.

تسربت كذلك إلى الإعلام الصور المقززة عن تصرفات الجنود الأمريكيين عندما يقتحمون المنازل في العراق وأفغانستان على أهلها العزل والأبرياء، وكيف يتم العبث بكل الممتلكات وإهانة الرجال والنساء وترويع الأطفال. أظهر الإعلام أيضاً كيف يُعتقل المسلمون في أمريكا في ساعات الفجر، وكيف يتم سحبهم على مرأى من وسائل الإعلام وهم بملابس لا تليق، ويظهر بعد ذلك أنهم أبرياء.

حصلت وكالات الأنباء أيضاً بطريقة ما على صور جنود الاحتلال وهم يطلقون الرصاص على الجرحى في العراق، وتبعتها أو سبقتها أخبار الاستهزاء بالقرآن في معتقل جوانتنامو، وسبق كل ذلك فضائح تعذيب المعتقلين على يد مخابرات الدول التي تتعامل معها الإدارة الأمريكية في حربها ضد الإرهاب.

- أحداث ومصادفات:

تسربت كل هذه الأخبار الى الإعلام في تسلسل عجيب يتناسب مع ظروف تلك الأوقات. كانت الإدارة الأمريكية تسعى ظاهراً في كل مرة إلى تكذيب الخبر، ثم عدم نفيه قطعياً، ثم الحديث عن محاسبة المقصرين، والانتقال من ذلك إلى التعامل مع التسريب التالي للأخبار، وكأن الأمر بمجمله يتم رغم إرادة أو تدبير الإدارة الأمريكية.

قد لا يكون الأمر إلا مجموعة من الأحداث التي لا يربط بينها سوى كراهية وبغض بعض الإعلاميين لما تقوم به أمريكا من انتهاكات للقيم والأخلاق التي تدعو إليها الحضارة الغربية، والتي يعتنقها ويدافع عنها الكثير من الصحفيين الغربيين، وهذا هو التفسير الإيجابي لتكرر حدوث هذه التسريبات إلى الإعلام. ولكن هناك أكثر من سؤال يتبادر إلى الذهن ويلقي بالشك على هذا التفسير الإيجابي لما يحدث ويتكرر في الأعوام الماضية.

- أسئلة وشكوك:

أول هذه الأسئلة هو: لماذا لم تتحرك الإدارة الأمريكية لمنع مثل هذه التسريبات أو الكشف عمن قاموا بها ووضع القيود التي تمنع من تكرارها على افتراض أنها تؤذي جهود الإدارة الأمريكية في تحسين علاقاتها مع العالم الإسلامي؟

والسؤال الثاني هو: لماذا تتكرر هذه التسريبات في أوقات تتناسب تماماً مع الرغبات الأمريكية في تركيع المقاومة أو تهديد الحكام أو إرهاب الشعوب العربية والإسلامية من مقاومة المشروع الأمريكي، ومن المستفيد حقاً من هذه الأخبار التي تتسرب إلى الصحف ووسائل الإعلام، ولماذا لا يعاقب أحد على هذه التسريبات، وهل من تفسير آخر لحدوثها؟

وأخيراً: لماذا تحدث التسريبات دائماً في دول حليفة لأمريكا ومشاركة معها في الحملة على الإرهاب، وليست الدول المعادية لأمريكا والرافضة لمشروعات الاحتلال؟ أليس من الملفت للنظر أن التسريب في معظم الأحيان لا يحدث في الدول المعادية لأمريكا، وإنما في الدول الصديقة لها كبريطانيا وإيطاليا أو في أمريكا نفسها، وأن عدداً من هذه التسريبات تمت من خلال المؤسسة العسكرية نفسها.

إن الرؤية التي تقدم في هذا المقال هي أن الولايات المتحدة هي المستفيد الأكبر من نشر هذه الأخبار حتى لو تسببت في بعض الآثار السلبية على المدى القصير. لا يوجد ما يمنع من أن تكون الإدارة الأمريكية هي المحرك الرئيس في هذه التسريبات. لا يخفى على كاتب هذا المقال أن من السهولة بمكان أن توصم هذه الفكرة بأنها من نتاج من يعانون من «ذهنية المؤامرة» في كل شيء؛ وليس الكاتب منهم. لكن من المهم إدراك مدى عدم عقلانية تكرار المصادفات التي تصب في خدمة جهة ما دون أن يكون لها طرف في صنعها أو على الأقل غض الطرف عن حدوثها وتكرارها.

- تعمد التسريب:

إن تعمد تسريب أخبار مقززة وتنافس بعض وسائل الإعلام الأمريكية المعروفة بولائها للإدارة الأمريكية في نشر هذه الفضائح مقصود لذاته؛ وأدلته كثيرة، ويعارضها بعض العقلاء في الصحف والمجلات الأمريكية، ولكن الإدارة لا تلقي لهم بالاً. لقد كتب المحلل السياسي الأمريكي (رودجر باربر) في مقال صدر مؤخراً قائلاً: «إن سلسلة التفاصيل التي ظهرت والمتعلقة بقتل سجينين أفغانيين في قاعدة باغرام الجوية مفزعة للغاية، وتثير في النفس القشعريرة؛ حيث عذب هذان السجينان على ايدي الجنود الاميركيين حتى الموت. وملف التحقيقات لما جرى في باغرام الذي حصلت عليه «نيويورك تايمز» يظهر ان عمليات الإساءة للسجناء شيء روتيني تمارس فيه تصرفات في غاية الوحشية من تقييد أيدي السجناء، وتعليقهم في سقف زنازينهم، وحرمانهم من النوم، وركلهم وضربهم وإذلالهم جنسياً، وتهديدهم بالكلاب البوليسية؛ وهي أمور للأسف قد سبق استخدامها بالكامل في السجون الأمريكية» . وهذه الأمور جميعها تتنافى مع الحرية والالتزام بالقانون واحترام حقوق وآدمية الإنسان التي تدعو لها الحضارة الغربية؛ فلماذا تجتهد الإدارة الأمريكية في نشر هذه التسريبات والسماح بها دون بحث أو معاقبة لمن يسربون هذه الأخبار؟

يمكن أن تكون هذه الأفكار من نتائج نظريات المؤامرة، ويمكن أن تكون أمريكا بريئة من كل ما نسب إليها في هذا المقال من تخطيط وسوء نية، ولكنها في كل الأحوال مستفيدة من كل هذه التسريبات، ولعلها لذلك لا تمانع في حدوثها، بل تسارع في نشرها عبر وسائل إعلامها التي تتحكم في ٨٥% من إعلام العالم.

إن أمريكا ترسل رسائل ضمنية لهذه الأمة العربية والإسلامية من خلال تلك الأخبار التي تظهر وكأنها قد سربت رغم إرادة أمريكا، ومن ثم لا تمانع الشعوب من نقلها وتداولها بسرعة كبيرة وبعاطفة حقيقية، وهو ما أرادته أمريكا في المقام الأول لينشر الفزع من الحماقة الأمريكية، وهو ما يصب في خدمة إضعاف كل جهود مقاومة الهيمنة.

- الرسائل الأمريكية:

إن الولايات المتحدة في حاجة إلى قتل روح أي شكل من أشكال المعارضة أو المقاومة في الأمة العربية والإسلامية حتى يتمكن مشروع الهيمنة من المضي قدماً في هذه المنطقة من العالم. ولا نعني هنا المعارضة المسلحة، وإنما كل أشكال المعارضة أو التأجيل أو المقاومة للخطط الأمريكية للشرق الأوسط.

الأمر ليس مرتبطاً فقط بمن يحملون السلاح، ولكنه يمتد للجميع من حكام ومن محكومين.. من أنصار الإسلام ومن دعاة القومية.. من الشعوب إلى القادة.. ممن يعادون ويبغضون أمريكا؛ والأهم من ذلك من يؤمنون بأهمية وجدوى التعاون معها. الجميع مستهدف برسائل إعلامية سياسية أمريكية مركزة ومعلبة ومطلوب تمريرها من خلال المفكرين والقادة وعموم الشعوب إلى أجيال المستقبل.

تعتقد أمريكا أن أي مقاومة أو تعطيل لمشروعاتها هي جريمة يجب أن يعاقب من يفكر فيها، ولا بد أن يشاهد الجميع ماذا يمكن ان يحدث لهم من جراء التصدي لأمريكا، وكأنها تقول: «إياكِ أعني واسمعي يا جارة!» .

إن تسريب الأخبار عن التعذيب والإهانات والقتل العمد للجرحى، وانتهاك حقوق الشعوب ومقدساتها.. كل ذلك قد يكون مقصوداً لتكوين ثقافة الخوف من مواجهة أمريكا، وهو ما يخدم المشروع الأمريكي على المدى الطويل. سيتسبب ذلك أيضاً في فضائح إعلامية يظن القائمون على مثل هذا النوع من التخطيط الإعلامي أنها لا ترقى إلى درجة تهديد الفوائد الكثيرة التي تجنى من تسريب هذه الفضائح إلى العامة. إن أمريكا ترسل عدداً من الرسائل الضمنية إلى الشعوب وقادتها ومفكريها وعامتها من خلال ما يظهر وكأنه حدث رغماً عنها. وفيما يلي عرض لهذه الرسائل الموجهة للأمة من خلال استقراء ما تم تسريبه إلى وسائل الإعلام:

- رسالة إلى القادة:

إن تعمد تصوير الرئيس العراقي السابق في صور مهينة لا تليق بالرؤساء وتتنافى حتى مع حقوق المساجين التي حددتها القوانين الدولية هي رسالة لكل قائد يفكر في تحدي الإدارة الأمريكية.

الرسالة تحمل معانيَ كثيرة من بينها أن صداقة أمريكا لفترةٍ ما لا تعني ضمان استمرار هذه الصداقة، وأن ما يمكن أن يحدث لطاغية عندما تستهدفه الإدارة الأمريكية بسهامها الإعلامية يمكن أن يتحول إلى لعنة تلاحق هذا القائد وأسرته وكل من يمت إليه بصلة أو نسب أو قرابة، وهي أمور هامة في الحياة العربية وفي تقاليد القبائل والأسر. كما أن الرسالة الإعلامية تقدم صورة مقززة لما يمكن أن يقوم به الإعلام الغربي الذي لا يراعي أي أصول حرفية أو قواعد أخلاقية.

لقد تنبهت لذلك بعض وسائل الإعلام الأمريكية التي تحاول الالتزام بالمصداقية الصحفية. فقد لاحظت صحيفة «لوس أنجلوس تايمز» أنه يمكن النظر إلى الصور ونشرها على أنها صفعة إهانة للمسلمين العرب السنة. وأضافت أن كثيراً من أهل السنة يشعرون بأن ثمة تحيزاً تجاههم وإجحافاً بحقوقهم، وأنهم يتعرضون للإهانة من قِبَل الاحتلال ... وأضافت «التايمز» : «كما يمكن أن تثير الصور مشاعر السخط في أوساط المسلمين خارج العراق؛ إذ يشعرون أن الولايات المتحدة لا تأبه بأحاسيسهم ولا تقيم وزناً لمعتقداتهم وثقافتهم، ولا تعبأ بالحساسية الشديدة التي تنفخ هذه الصور في نارها. فقد عرف عن المسلمين عموماً أنهم يتجنبون الظهور في الأماكن العامة من دون أن يكونوا بكامل هندامهم وأفضل ملابسهم» (١) .

ليس (صدَّام) هو المقصود بتسريب صوره إلى الإعلام؛ فهو ورقة قد احترقت منذ زمن، ولكن الرسالة موجهة إلى من يفكر في مقاومة المشروع الأمريكي من قادة ومسؤولين. الرسالة بسيطة ومؤثرة وحقيرة أيضاً.. إنها تخاطب مشاعر كل من هؤلاء القادة قائلة: هل معارضة أو تحدي أمريكا تساوي أن تتناول وسائل الإعلام العالمية صورتك أنت بدلاً من صور الرئيس السابق للعراق؟

- رسائل إلى المقاتلين:

عندما بدأت الحرب الأمريكية على أفغانستان كان من المهم للإدارة الأمريكية أن تقنع المسلمين بعدم جدوى أو فائدة التدخل فيما يحدث في أفغانستان؛ لذلك حرصت أمريكا على أن يتم تسريب أخبار عن كيفية تعامل أمريكا مع الأسرى الذين يتم اعتقالهم في معارك أفغانستان، أو ترحيلهم إلى معتقل جوانتنامو في كوبا.

كانت الصور التي نشرت في تلك الفترة تقدم حقيقة ما يحدث هناك بشكل مرعب ومخيف لكل من يشاهده. لم يتساءل العالم: كيف تم تسريب هذه الصور من أحد أشد المواقع العسكرية سرية في العالم أجمع؟ وتناقل العالم أجمع صور المعتقلين وهم يُنقلون داخل أقفاص حديدية كالحيوانات المفترسة، ووضعت صحيفة «ذي ميل أون صنداي» البريطانية على غلاف عددها الأسبوعي صور المعتقلين مع تعليق ضخم يقول: «إنهم لا يسمعون شيئاً، ولا يرون شيئاً، ولا يشعرون بشيء.. أيديهم وأرجلهم ترسف في القيود. إنهم يركعون مذعورين.. أبهذه الطريقة يدافع بوش وبلير عن حضارتنا؟» . تناقل العالم هذه الصور التي كانت رسالتها الضمنية تحذير كل من يفكر في القتال مما سيحدث له في حال الاعتقال، ولعل الإدارة الأمريكية كانت تعتقد أن ذلك سيخيف ويوقف التيارات الجهادية من تقديم الدعم للطالبان.

إن الوسائل المستخدمة في الاستهزاء بالمعتقلين كانت تتجاوز ما يتطلبه التحقيق إلى الاستهزاء بالقيم والأعراف والأخلاق الإسلامية والعربية، وهي رسالة إلى أبناء هذه الشعوب التي تعرف بالكرامة والإباء أن الوقوع تحت طائلة الجندي الأمريكي سيعني العديد من الإهانات التي تأباها النفس العربية. ولذلك جرى تسريب بعض الأخبار والأحداث التي لا علاقة لها بالضرورة بتعذيب المعتقلين لانتزاع الاعترافات منهم، وإنما كان الهدف هو الإهانة لذات الإهانة، وتعريف العالم بأنها تحدث وستكرر.

لقد رصدت الكاتبة الأمريكية (ميري بارتون) بعض هذه الوسائل المقززة في مقال لها صدر مؤخراً بعنوان: (من المسؤول عن إثارة مشاعر المسلمين؟) ، تقول فيه: «إن هذه القصة أخذت أبعاداً كبيرة نظراً للتقارير المتداولة عن أساليب التحقيقات التي تتبعها القوات الأميركية مع المعتقلين.. قام المحققون باستخدام الكلاب بشكل واسع؛ نظراً لأنهم يعرفون أن المسلمين لديهم حساسية من النجاسة المرتبطة بالكلاب.. إن رامسفيلد نفسه أقر هذا الأسلوب [تعرية المعتقلين] حيث وقع على مذكرة في نوفمبر عام ٢٠٠٢م تقضي باستخدام هذا الأسلوب مع الأسرى إلى جانب قلع شعر اللحية لما يمثله ذلك من إيذاء للملتزمين دينياً ومطلقي اللحى ... وأكد الرقيب (إريك سار) الذي كان يعمل مترجماً في معتقل غوانتانامو والذي قال لوكالة الأسوشيتد برس إنه سيقدم وصفاً تفصيلياً لحادثة قيام واحدة من المحققات برشّ أحد المعتقلين بسائل أحمر اللون قالت عنه إنه دم حيض، ثم قالت للمعتقل: انعم بدم الحيض الليلة في زنزانتك؛ حيث إنه ليس هناك ماء لتطهير نفسك من هذا الدم» (١) .

لم تكتف الإدارة الأمريكية بذلك، ولكنها سربت أيضاً للإعلام أن المعتقلين يُنقلون إلى الدول التي تُعرف بممارسة التعذيب الوحشي في معتقلاتها من أجل الحصول على الاعترافات. والغريب أن الدول التي ذُكرت بالاسم لم تسارع إلى النفي، ولم تبذل الإدارة الأمريكية أي جهد لتصحيح الصورة السلبية التي نجمت عن ذلك، وإنما شغلت العالم بالحديث عما إذا كان المعتقلون يمكن أن يعاملوا كأسرى أم كمجرمي حرب. وتكرر في وسائل الإعلام تسريب الأنباء عن الممارسات المخالفة للقوانين الدولية في تعذيب المعتقلين في الدول المتحالفة مع الإدارة الأمريكية في الحرب ضد الإرهاب، ولم تبذل أية جهود للتعرف عمن قاموا بتسريب هذه الأخبار.

- رسالة إلى المقاومين:

إن تسريب صور وأخبار اغتصاب النساء والعبث بكرامة الرجال، وسجن الأطفال واضطهاد كل من يعترض على الاحتلال هي رسالة لشعوب المنطقة أن تحذر من مغبة المقاومة، وأن تعارض أي رغبات حكومية أو شعبية في تحدي أمريكا أو معارضتها. المطلوب أن يفكر كل مواطن في بلادنا في كيفية تجنب ما يمكن أن يحدث له ولأسرته وأمته في حال مواجهة أمريكا.

هذه الحيلة الإعلامية والنفسية ليست جديدة أو مستحدثة في الفكر النفعي الأمريكي. ففي نص محاضرة ألقاها في عام ١٧١٣م (وليام لنش) ، وهو أحد ملاك العبيد على أسماع «ملاك عبيد» آخرين، يشرح فيها نظرية ترويض (الإنسان - العبد) أوصى ملقي المحاضرة بقتل الرجال من العبيد علناً أمام أسرهم وخاصة أمام النساء والأطفال، ثم الاعتماد بعد ذلك على نساء العبيد لتربية أجيال من العبيد الخاضعين المروضين ـ بحكم تجربتهم لنتيجة المقاومة وما ستمليه المرأة الضعيفة على الأجيال الناشئة التي شهدت فيها قوة إجرام الرجل الأبيض وجبروته وفتكه بالرجل الذي هو مصدر القوة والحماية لها.

هذه هي الرسالة الإعلامية التي توجه لأمتنا بشكل غير مباشر من خلال التسريب المتعمد للمعاملة الوحشية للأسرى والمعتقلين وكل من يقاوم المشروع الأمريكي للهيمنة على المنطقة.

- إلى مسلمي أمريكا:

وعلى نفس المنوال يجري التعامل مع المسلمين في أمريكا. فما يجري حالياً هو محاولة ضمنية ليكون كل منهم عيناً للإدارة الأمريكية على الجالية لكي يأمن على نفسه من الإهانات والاعتقالات التي تصور إعلامياً وتصبح مادة دسمة لوسائل الإعلام الأمريكية عن طريق تسريب الأكاذيب للإعلام.

لقد شعرت أمريكا أن الوجود الإسلامي في القارة قد ساهم بشكل غير مباشر في حدوث ما تعتبره أمريكا كارثة أمنية في سبتمبر ٢٠٠١م. وقد اختارت أمريكا أن تواجه هذا الوجود الإسلامي في أمريكا، وأن تقلم أظفاره بشكل لا يسبب أي إزعاج أمني في المستقبل حتى لو كان ذلك على حساب الحقوق المدنية للجالية.

لذلك جرى اعتقال نماذج من كل فئات المجتمع المسلم في أمريكا والتنكيل بهم بشكل مقزز ومعلن أيضاً لتصل الرسالة واضحة دون أي لبس للجالية المسلمة في أمريكا. ومن يتابع مسلسل الاعتقالات يجد أن الإدارة قد اختارت نماذج لجعلها عبرة لغيرها، وجمع ذلك بين اعتقال الدعاة إلى رؤساء الجمعيات الخيرية إلى الكتاب والمفكرين وحتى من يجيدون استخدام التقنيات الإليكترونية أو من يساهمون في خدمة العمل الدعوي بأي شكل من الأشكال.

فقد شهدت الأعوام الثلاثة الأخيرة اعتقال العديد من الشخصيات الإسلامية في القارة الأمريكية كالدكتور سامي العريان الذي اتهم بالتعاون مع حركة الجهاد الإسلامي، والدكتور رافل ظافر الذي اعتقل بتهمة مساعدة الشعب العراقي خلال فترة المقاطعة، وكذلك الدكتور علي التميمي الذي يواجه أحكام تصل إلى السجن مدى الحياة بدعوى التحريض على مساعدة الطالبان. وفي كل الحالات السابقة لا توجد أدلة اتهام حقيقية، وإنما تقوم الإدارة الأمريكية بإعادة تفسير أحداث معينة بشكل يتناسب مع المزاج النفسي الأمريكي في الآونة الأخيرة، ويُستخدَم ذلك مبرراً للاعتقال والمحاكمة وتشويه تاريخ هذه الشخصيات واتهامها بما لم يحدث. وكان من نتيجة ذلك أن ابتعد الكثير من أبناء الجالية عن العمل الخيرى وعن المشاركة في أنشطة وفعاليات المساجد وجمعيات المسلمين في تلك القارة.

- رسالة إلى عموم الأمة:

أما الرسالة الأمريكية الأخيرة فهي موجهة إلى عموم الأمة بمفكريها وبسطائها أيضاً.. إلى كل من يرى عدم جواز الإساءة إلى المصاحف أو إهانة القرآن.. إليهم جميعاً كانت الرسالة الأمريكية الإعلامية هي أن يعلموا أن معارضة أمريكا قد تسببت في ذلك، وأدت إلى أن الجنود الحمقى ـ هكذا يراد تصويرهم ـ لن يردعهم شيء عن الاستهزاء بالقرآن ما دام هناك من المسلمين من يخطط لإزعاج أمريكا.

ولذلك فحتى عندما نفت مجلة «نيوزويك» الأخبار التي تسربت عن طريقها في أن القرآن قد أهين في جوانتانامو، وقَبِلَ العالم بذلك.. خرجت المباحث الفيدرالية الأمريكية لتؤكد أن تحقيقاتها تثبت أن القرآن قد تمت إهانته. هل يعقل أن يكون ذلك من المصادفات أيضاً؟

لقد وصفت وزيرة الخارجية (كوندوليزا رايس) المقال الذي صدر في «نيوزويك» بأنه «مخيف» ، مشيرة إلى أنه «سبَّب مشاكل كثيرة» . وقالت إن المقال «خلق مشكلة خطيرة» لواشنطن في العالم الإسلامي؛ ومع ذلك فلم يتحدث أي مسؤول أمريكي عن تسريب الخبر، وإنما جرى التأكيد على تبعاته، وتضخيمها. ويركز على هذه النقطة الكاتب الأمريكي (جون مارتن) قائلاً: «إن السبب الرئيسي للغضب هو إخفاق الولايات المتحدة بإجراء تحقيق مناسب بعد سنوات من نشر تقارير تؤكد حدوث الإساءات، والولايات المتحدة ممثلة بإدارة بوش لم تكلف نفسها الرد على الاتهامات التي تقال حول قيام المحققين بتدنيس القرآن الكريم في غوانتانامو وأماكن أخرى، كما أنها لم تتحمل أي مسؤولية عن هذه الاتهامات، وبدل ذلك دعا المتحدث باسم البيت الأبيض (سكوت ماكليلان) مجلة «نيوزويك» للمساعدة في إصلاح الأضرار التي تسببت بها» (١) .

- جرائم مع سبق الإصرار والترصد:

إن قتل الجرحى جريمة.. وترويع الأبرياء جريمة.. واغتصاب النساء والرجال من قِبَل الجنود جريمة.. ونشر صور طاغية بملابسه الداخلية جريمة حتى في قوانينهم أيضاً حتى وهو طاغية.. ولكنها جميعاً جرائم مقصودة مع سبق الإصرار والترصد، ولم تُرتكب عبثاً.

المطلوب هو أن تتعلم الأمة بجميع فئاتها وطبقاتها وتنوعاتها فنون الركوع للحلم أو الكابوس الأمريكي، وأن تتوقف كل صور وأشكال المعارضة أو المقاومة، وإلا فسيتكرر ما تم تسريبه من أخبار وصور لتمس القادة والشعوب والمقاومين وغيرهم أيضاً.

لقد تحدث (ميكيافيللي) في كتابه (الأمير) عن التعامل مع المقاومة فقال: «نلاحظ أن الرجال إما أن يُستمالوا أو تتم إبادتهم، كما أنهم يثأرون لأنفسهم في الأمور الصغيرة لكنهم لا يستطيعون ذلك في الأمور الكبيرة؛ فإذا ما أضير الرجل مضرة كبرى فلا يجب علينا أن نخشى انتقامه» (١) . ما تسعى إليه أمريكا اليوم هو ان نستشعر جميعاً أن المضرة من المقاومة أو أي شكل من أشكال المعارضة ستكون مضرة كبرى.

وفي سياق نصائح (ميكافيللي) ـ رائد الفكر النفعي السياسي ـ للأمير عن كيفية الحفاظ على هيبته في مواجهة المقاومة كتب قائلاً: «أنا أعتقد أن ذلك سببه القدرة على استعراض القسوة بطريقة مناسبة. فحُسن ارتكاب الجريمة القاسية ـ إذا كان بإمكاننا استخدام كلمة «حُسن» عند الحديث عن النوايا الشريرة ـ يمكِّن من جني الثمار فيما بعد» .

وفي نص المحاضرة التي ألقاها (وليام لينش) عن ترويض العبيد في أمريكا تظهر السياسة الأمريكية في التعامل مع المخالف عندما يقول ناصحاً المستمعين في كيفية كبح جماح المقاومة: «استخدم الخوف وعدم الثقة والحسد لأغراض السيطرة.. أؤكد لك أن زرع الشك وفقدان الثقة هو أقوى من الصدق، وأن الحقد أقوى من التملق والإعجاب.. وإن العبد الأسود بعد أن يتشرب هذه المشاعر فسيحملها ويغذيها تغذية ذاتية وسيولدها لنفسه لمئات من السنين» (٢) .

- أثر مواجهة الحقيقة داخل أمريكا:

قد لا يكون من الممكن أن يتم إثبات تورط أمريكا في تسريب الأخبار بأدلة دامغة لا تقبل الشك؛ لأن الحياة السياسية لا تبنى على حقائق قاطعة. ولذلك فلا بديل عن الاكتفاء بالقرائن التي تربط بين العمل وبين نتائجه والمستفيد منه، وتوقيت التسريب وارتباطه بالمصالح الأمريكية في نفس التوقيت. وإن جاز أن ينظر إلى هذه الفكرة على أنها حقيقية، فلا بد أن لها آثاراً على من يرتبط بها.

قد يظن بعض القراء أن تأثير هذه الحيل الأمريكية سينحصر فقط في العالم العربي والإسلامي، وأنها قد تأتي بنتائجها سلباً أو إيجاباً في هذا الجزء من العالم وحده دون ان يكون لها تأثير على المجتمع الأمريكي نفسه. ولكن الواقع خلاف ذلك.

إن الشعب الأمريكي بمجمله لا يزال يعتقد أن أمريكا يمكن أن تكون «إمبراطورية خيِّرة» وأنها حقاً تعتنق الكثير من المبادئ والقيم الأخلاقية التي تسعى إليها الإنسانية من حرية ورفاهية. ولكن تسريب أخبار القسوة الأمريكية والوحشية في التعامل مع المخالف ـ والتي قد يكون المقصود منها هو تركيع هذا المخالف ـ قد تأتي بنتائج عكسية في المجتمع الأمريكي نفسه الذي يواجه اليوم تناقضاً حاداً بين ما كان يظن أنه يعتقده وبين ما يمارسه فعلاً.

وكما عبر عن ذلك الكاتب الغربي (هورهي أنايا) في مقال صدر له مؤخراً عن الإمبراطورية الأمريكية، فقال: «الشعب الأمريكي سيجد نفسه مضطراً لمواجهة حقيقة أن حكومته لن تحقق النصر في هذه الحرب، وبأنهم هم من سيدفعون فاتورة حرب خاسرة. على الرغم من كل ذلك؛ فإن واشنطن لن تتراجع في سياستها؛ فرجال الحرب المدنيون الأميركيون بثوا أفكارهم بأن أمريكا هي القوة الوحيدة المسيطرة على العالم، والتي لا تقهر» . إن عدم التراجع من الإدارة الأمريكية سيتسبب في إرباك المجتمع الأمريكي داخلياً وفكرياً.

إن الشخصية الأمريكية شخصية تميل إلى التبسيط في كل الأمور، وما يحدث خلال الأعوام الماضية ـ في حال تبسيطه ـ يسبب خللاً كبيراً في هذه النفسية الأمريكية؛ لأنه يمثل تناقضاً صارخاً بين القيم التي عرفت أمريكا بالمناداة بها من أجل مستقبل أفضل لأمريكا وللعالم، والممارسات التي نتجت بسبب الرغبة في سيادة العالم وتحقيق ذلك الحلم الأمريكي. وهذا التناقض سيسبب إرباكاً حقيقياً للفكر الأمريكي، وسيتسبب في هزة للمسلَّمات التي قام عليها المشروع الحضاري الاستعماري لهذه الدولة، وهو ما سيؤدي بالتأكيد مستقبلاً إلى تآكل الرصيد الأخلاقي للحضارة، وهو ـ كما علَّمنا التاريخ ـ المقدمة الحتمية للانكفاء الداخلي وانهيار أحلام السيطرة على الآخر.

- الرد على الرسائل:

إننا نحيا في عالم لا تتوافق فيه المصادفات بهذا الشكل إلا لمن يقبلون أن يوصفوا بالمغفَّلين، وليست هذه الأمة منهم، ولذلك فإن الرسائل الأمريكية قد وصلت واضحة ومؤثرة، ولم تغفل الأمة عن فحواها حتى وإن لم تتمكن حتى الآن من صياغة الرد المناسب لهذه الرسائل.

سيؤكد المستقبل لهذه الإدارة الأمريكية أنها قد أخطأت خطأ جسيماً في تقدير رد فعل هذه الأمة، وهو ما عبر عنه الكاتب الأمريكي (توماس فريدمان) مؤخراً عندما قال: «إنني أعتقد جازماً ان القصص التي تخرج من غوانتانامو لها نفس التأثير السامّ علينا نحن الأمريكيين؛ فقد اثارت العواطف المعادية للولايات المتحدة حول العالم أجمع، ولها فعل المغناطيس في جذب أولئك المستعدين لقتل انفسهم من أجل قتلنا.. ومن الأفضل أن يكون هناك القليل ممن يطوفون العالم ويسعون لإلحاق الضرر بنا بدل أن يكون وراءنا جيل كامل من الكارهين لنا ولكل ما نمثله» .

(*) مدير المركز الدولي لدراسات أمريكا والغرب، وباحث متخصص في شؤون علاقة الغرب وأمريكا بالعالم الإسلامي.