للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[يريدون ليطفئوا نور الله]

أ. د. جعفر شيخ إدريس

كنا إلى وقت قريب نُجهد أنفسنا لنعرف حقيقة الموقف الأمريكي من الإسلام، وكنا نستنتج من مجموع سياساتهم أنهم ليسوا ضد هذه الجماعة أو تلك، او هذه الدولة أو تلك، أو هؤلاء الإرهابيين أو أولئك، وإنما هم ضد الإسلام باعتباره الأيديولوجية التي تمثل فيما يرون الخطر الأكبر على الحضارة الغربية بعد سقوط الشيوعية.

لكن أمريكا أراحتنا الآن من عناء الاستنتاج وما يؤدي إليه من اختلاف بين من يقرؤون وينظرون ويستنتجون. أراحونا من عناء الاستنتاج؛ لأنهم صرحوا الآن بما كنا نستنتج وكتبوه وإن لم ينشروه. لكن عدم نشره لم يحل دون معرفته وإذاعة سره؛ فقد نشرت أسبوعية أمريكية مرموقة (١) مقالاً تناقلته كثير من وسائل الإعلام في أمريكا وخارجها، لا لأهمية الصحيفة والكاتب فحسب، ولكن لأهمية الموضوع نفسه.

نشر (كابلان) بحثه تحت عنوان: (القلوب والعقول والدولارات) ذكر فيه أنه قضى أربعة أشهر يجمع معلومات عن مشروع جديد سري للإدارة الأمريكية اسمه (البلوغ إلى العالم الإسلامي) ، وأنه التقى ببعض من اطلعوا على المشروع.

هذا المشروع يعبر عن سياسة جديدة هي التصريح بأن هدف الولايات المتحدة الذي تراه محققاً لمصلحتها الوطنية هو تغيير وجه الإسلام. وافق الرئيس بوش على المشروع، ووزعت نسخ منه لكل اذرع الحكومة الأمريكية.

نلخص فيما يلي بعض الوسائل التي ذكرت في الورقة لتنفيذ هذه الخطة:

- رُصدت للمشروع ملايين الدولارات.

- سيكون المشروع عبارة عن حملة من الحرب السياسية كتلك التي بلغت أوجَها في أيام الحرب الباردة.

- جُنِّد لها مختصون في العمليات الحربية النفسية.

- وعملاء سريون من السي آي إي.

- وخصصت لها مراكز بحوث.

- ووسائل إعلام تمولها الولايات المتحدة.

- سيُعنى المشروع بنشر القيم الأمريكية، قيم الدمقراطية، والتسامح، وحرية المرأة. وبالدعاية لطريقة الحياة الغربية.

- الوقيعة بين المعتدلين والمتطرفين من الجماعات الإسلامية، والتعامل مع المعتدلين لمحاربة المتطرفين.

- يقوم عملاء السي آي إي، بتشويه سمعة الجماعات الإسلامية والزعماء الدينيين الذين لا يتبعون الخط.

- تغيير مناهج المدارس والمعاهد الإسلامية ليُحذف منها ما يرونه سبباً للتطرف وعدم التسامح. ويقول المقال إن الأمر بلغ بهم أن يمولوا إنشاء مدارس إسلامية بهذه المواصفات.

تآمرُ أعداء الله على دين الله، ومحاولتهم إطفاء نور الله ليس بالأمر الجديد. وليس بالغريب أيضاً أن يجدوا مِنْ بين مَنْ ينتسبون إلى الإسلام من يعينهم على تحقيق مآربهم أو يضعف أمام إغراءاتهم أو تهديداتهم: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة: ٥٢] .

لكننا نريد أن نعلق تعليقات يسيرة على بعض الوسائل التي ذكروها رجاء أن لا ينخدع بها بعض إخواننا المخلصين.

أولاً: قضية الدمقراطية: ما الذي تستفيده أمريكا أو يستفيده الغرب من أن تسود الدمقراطية في العالم الإسلامي إذا كان المقصود بالدمقراطية كما يفهمها معظم الناس عندنا إنما هو الانتخابات وتداول السلطة، والشفافية وحكم القانون وغير ذلك من أمور لا يعترض عليها المسلمون من حيث المبدأ؟ كيف تكون الدمقراطية بهذا المعنى وسيلة لتحقيق هدفهم بتغيير وجه الإسلام؟ إنها لا تكون، لكن الذي يكون هو الدمقراطية بالمعنى الذي يريدونه هم: الديمقراطية بمعنى حكم الشعب، بمعنى ان ينتشر الاعتقاد بين المسلمين بأن الشعب هو السلطة التشريعية العليا التي يحق لها أن تُحِلَّ ما شاءت وتُحرِّم ما شاءت. والدمقراطية بمعنى النموذج الأمريكي، أي أن يفهم الناس من الدمقراطية التشبه بالولايات المتحدة في ما تتبع من مبادئ وما تصدر من قوانين، وما يرى الغرب أنه حق إنساني.

ثم قضية المرأة: أيضاً نتساءل: ماذا يستفيد الغرب من حرية المرأة أو من إعطائها حقوقها؟ لا يستفيد شيئاً إلا إذا فُهمت حرية المرأة بفهمهم هم لها، حريتها في أن تلبس كيف شاءت، وأن تتزوج من شاءت من المسلمين وغير المسلمين. وأهم من ذلك أن تخرج من بيتها لتكون موظفة، وأن يعد هذا الخروج شرفاً لها بينما يعد عمل البيت وتربية الأطفال إهانة لها. كيف يخدم هذا الخروج هدفهم؟ لقد وجدوا بالتجربة أن المرأة إذا عملت قلَّ إنجابها أو انعدم؛ لدرجة أن أكبر مشكلة تهدد المجتمعات الغربية بل والصناعية بوجه عام بما في ذلك اليابان هي انخفاض عدد المواليد حتى وصفوا هذا بأنه انتحار. وهم يرون أن المسلمين ما زالوا يتوالدون، وأن نسبة الشباب بينهم أعظم بكثير من نسبتها في المجتمعات الغربية، وأن هؤلاء الشباب هم جنود الإرهاب والتطرف فلا بد من العمل على الحد من تكاثرهم.

القضية الثالثة هي قضية التسامح والذي يعنون به أن يعتقد المسلم أن ما عنده من دين هو الحق الذي لا ريب فيه، وأن كل ما خالفه فهو باطل، أي أن لا يؤمن بمثل قول الله ـ تعالى ـ: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلاَّ الضَّلالُ} [يونس: ٣٢] .

{فَإن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ} [القصص: ٥٠] .

بل عليه أن يؤمن بالآخر، بمعنى أن يعتقد في نسبية الحقيقة، فيقول: إذا كان من حقي أن أرى أن ديني هو الحق؛ فلماذا لا يكون من حقه هو أيضاً أن يرى أن ما هو عليه حق وليس مجرد تزيين شيطاني كما يصفه القرآن في مثل قوله ـ تعالى ـ:

{أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر: ٨] .

{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: ١٠٣ - ١٠٤] .

ليس هنالك إذن حق مطلق، وعلى فرض وجوده؛ فلماذا يكون هو ما أعتقده أنا لا ما يعتقده الآخر؟

كتب أحدهم قريباً مقالاً بمناسبة المظاهرات التي خرجت في العالم الإسلامي محتجة على تدنيس المسؤولين الأمريكان للمصحف الشريف، كتب يقول: إن مثل هذه المظاهرات هي من أسباب عدم احترام الناس للمسلمين. وقال إنه لم يحدث أبداً أن اليهود أو النصارى أو البوذيين قاموا بمظاهرات عنيفة كهذه في المرات التي عُرِّضت فيها دياناتهم للإساءة. ما عَلِمَ المغفل أن هذا نفسه مما يدل على يقين المسلمين بأن كتابهم الذي بين أيديهم هو كلام الله تعالى، وأنه ليس لأهل الديانات التي ذكرها يقين مثل هذا بالنسبة لكتبهم.

القضية الرابعة هي قضية الدعاية لنمط الحياة الغربية: تقوم هذه الدعاية على خديعتين:

أولاهما: أن ما هم عليه ليس نمطاً أو ثقافة غربية خاصة بأناس معينين فيكون لغيرهم أن يختاروا من الأنماط والثقافات ما شاؤوا، وإنما هو قيمة إنسانية صالحة للناس أجمعين، وأن من لا يأخذ بها يكون بذلك ناقصاً من الناحية الإنسانية.

والخديعة الثانية: هي أن نمط حياتهم ولا سيما ما يسمونه بـ (المديرنتي) هو وحده الصالح لعصرنا، وأن من لا يأخذ به من الأمم يكون بالضرورة متخلفاً، وأن هذا هو سبب تخلف العالم العربي بالذات. انظر كيف أن هذه الخديعة تقوم على افتراض يتناقض مع الخديعة التي قبلها؛ فبينما تقول تلك إنه ليس هناك حق مطلق، وأن لكل فرد ولكل أمة أن تعتقد ما شاءت، تقول هذه: كلاَّ؛ إن نمط الحياة الغربية هو النمط الإنساني والعصراني الذي لا يناسب البشر في عصرنا غيره. ولكن لا عجب فالباطل دائماً لجلج متناقض لا يؤثر إلا في من هو أصلاً مأفوك:

{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ * إنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات: ٧ - ٩] .

لكننا نقول إن الحذر من مؤامرات الأعداء شيء، والوسوسة شيء آخر.

علينا أن نحذر مؤامرات الأعداء، لكن علينا أيضاً أن نكون عقلاء؛ فلا نترك شيئاً نعلم أن فيه خيراً لنا دينياً أو دنيوياً لمجرد أن الأعداء يستغلونه. علينا أن لا نبالغ كما يفعل بعض الناس في الاعتقاد بأن كل ما يحيكه الأعداء وكل ما يخططون له ينفذ كما يريدون؛ فالله ـ تعالى ـ يؤكد لنا عكس ذلك:

{كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [المائدة: ٦٤] .

{إنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج: ٣٨] .

فعلينا أن نتذكر إذن مع أخذنا بالأسباب أن سلاحنا الذي لا يُفَلُّ هو إيماننا، وأنه كلما قوي إيماننا وازداد يقيننا تحقق وعد الله بالدفاع عنا.


(*) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.
(١) US.