للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قضايا ثقافية

الازدواجية اللغوية.. والمرض الثقافي

خميس بن عاشور [*]

ما من شك في أن العلاقة بين اللغة والثقافة تكاد أن تكون عضوية أو ترادفية؛

فالثقافة هي مجموعة المعارف المكتسبة في مجالات العلم والدين والفن التي يتميز

بها المجتمع، وأما اللغة وعلى الرغم من اعتبارها وسيلة وأداة للتوصيل فهي

العنصر الأساسي في التركيبة الثقافية؛ إذ لا يعقل وجود ثقافة من غير لغة مهما

كانت صفة هذه اللغة بوصفها أداة للتوصيل والاكتساب المعرفي بالإضافة إلى أن

اللغة هي مخزن للثقافة.

وقد يبدو من الوهلة الأولى أن الازدواجية اللغوية هي تدعيم للثقافة وإثراء لها؛

وهذا من الناحية الصورية صحيح، ولكن من الوجهة الواقعية نرى أن الاختلال

الحاصل على نطاق عريض يجعل من هذه الازدواجية المزعومة أداة هدم لا بناء؛

ولا سيما في حالة عدم حصول توازن من حيث الإجادة والاتقان للُّغة الأم؛ ففي هذه

الحالة تُحدث الازدواجية صراعاً خطيراً قد يؤدي إلى الانفصام الثقافي أو الانسلاخ

الثقافي مثلما هو حاصل في بعض الأقطار المغاربية كالجزائر على الخصوص؛

حيث ينص دستورها وقوانينها على أن العربية هي اللغة الوطنية الرسمية؛ ومع

ذلك فإن اللغة الفرنسية لا تزال تحتل الصدارة على المستويين الرسمي والعرفي،

ومثل هذه الازدواجية المختلة تتسبب في إذكاء ذلك الصراع والتناقض بين القيم

الثقافية التي تتضمنها كل لغة بالضرورة؛ فنجد على سبيل المثال تعارض قيم

الحرية المسؤولة في الثقافة العربية مع قيم الإباحية والتهتك في الثقافة الفرنسية

الحديثة، وقيم الإيمان بالألوهية مع قيم الإلحاد!

إن الشخصية في علم النفس التحليلي تتكون من جانب موروث وجانب

مكتسب. وفيما يتعلق بالشخصية الجمعية وشخصية الأمم فإن الجانب الموروث هو

التراث؛ فإذا كانت اللغة الدخيلة أي الاستعمارية تعمل جاهدة على تشويه التراث

وإزاحته عن الميدان؛ فإنها بذلك تعمل على إذكاء ذلك الصراع الذي يهدف إلى

تدمير حصون المقاومة حتى يتحقق لها الانتشار والسيادة. واليوم وقد رحل

الاستعمار عسكرياً فإن الصراع الثقافي لا يزال مستعراً؛ ومن أهم مظاهره تلك

الازدواجية اللغوية المختلة، ومن ثَمَّ المرض الثقافي؛ حيث ينعدم ذلك التوازن

المطلوب الذي يعطي اللغة الأم حق السيادة في عقر دارها.

إن أشهر العلماء والمفكرين والأدباء قديماً وحديثاً كانوا يكتبون ويفكرون بلغة

واحدة رغم احتمال معرفة الكثير منهم بلغات أخرى؛ فهل عُرف «كونفشيوس»

بغير لغته الصينية؟ وهل عُرف «سقراط» و «أرسطو» و «أفلاطون» بغير

اللغة اليونانية؟ أم هل عُرف «ابن رشد» و «ابن تيمية» و «ابن خلدون»

بغير اللغة العربية؟ وفي العصور الحديثة: هل عُرف «كانط» و «ماكس فيبر»

بغير الألمانية؟ وهل عرف «ديكارت» و «روسو» بغير الفرنسية؟ أم هل

عرف «باكون» ، و «وليام جيمس» ، و «جورج أورويل» بغير اللغة

الإنجليزية؟ أما نحن في ثقافتنا المريضة بالفصام فإنه يفرض علينا أن نستوعب

لغة غيرنا وثقافته حتى وإن كنا لم نستوعب الحد الأدنى من لغتنا وثقافتنا الثرية

والأصيلة.

إن مثقفينا يحملون لواء الدفاع عن الازدواجية اللغوية والثقافية على الرغم من

عدم براءة هذه الدعوة؛ وحتى الدول التي تشجعنا على ذلك لا تؤمن بها في بلدها

مثل فرنسا؛ مع العلم أن كل الفرنسيين الذين تلقوا دراسة حكومية منتظمة يلمُّون

باللغة الإنجليزية على الأقل؛ فالازدواجية عندهم وظيفية وبذلك لا تعتبر مرضاً

ثقافياً كما هو الحال عندنا. ومع افتراض بعض المحاسن من هذه الازدواجية فإن

الترجمة كفيلة بتحقيقها على أحس وجه دون مخاطر الوقوع في المرض الثقافي أو

الانسلاخ الثقافي؛ فالترجمة كان من المفروض أن تكون هدفاً لهذه الازدواجية.

ولكن الحقيقة المؤسفة أن هؤلاء المزدوجين - ولا سيما في الدول المغاربية -

لم يحققوا ذلك الهدف، بل صاروا يكتبون ويفكرون باللغة الاستعمارية أي الفرنسية

حتى إن بعضهم اعتبر الفرنسية غنيمة حرب! ولنا أن نتساءل: كيف تكون غنيمة

حرب عند مَنْ فَقَدَ روحه؟ فالترجمة هي الوسيلة الصحيحة التي تدعم الثقافة الأم؛

وليست هذه الازدواجية المفروضة إلا مظهراً من مظاهر المرض الثقافي، والعبرة

في النتائج، والأعمال بخواتيمها؛ فقد أصبح العديد من الأدباء المغاربيين رُواداً في

الأدب الفرانكفوني المعاصر، ولذلك فإن المستفيد من ذلك هو الأدب الفرنسي

والثقافة الفرنسية. ومع ذلك فإن بعضهم قد شعر بوخز الضمير، فكان دائماً

يستحضر هذه العقدة عقدة الكتابة بغير اللغة الأم، ومنهم من آب ورجع بعد جهد

جهيد إلى أحضان لغته وثقافته العريقة في ثرائها وتنوعها؛ في حين ارتد بعض

آخر وصار يكتب باللغة الأخرى وخاصة الفرنسية التي سحرتهم بما تختزنه من

ثقافة لائيكية، هذه الثقافة التي تعتبر نادرة إن لم تكن منعدمة في الثقافة العربية.

إن الترجمة مدعوة اليوم لأن تكون العلاج الفعال للمرض الثقافي؛ وذلك عن

طريق التركيز على نقل المعارف الإنسانية والعلوم النافعة التي تخدم استراتيجيتنا

الثقافية لا أن تساهم في تعميق مرضنا الثقافي والحضاري المستشري، وفي إطار

هذه الاستراتيجية فهي مدعوة أيضاً إلى نقل ثقافتنا إلى الغير؛ لأن لها وزناً يوجب

علينا المساهمة في تطوير الفكر الإنساني والقيم البشرية وتحقيق الواجب من الدعوة

نحو الشعوب والقبائل والأمم الأخرى.

والغريب في الأمر هنا أن أُولى التراجم لصحيح البخاري لم يقم بها مسلمون،

بل قام بها رجل دين مسيحي أسلم هو «ليوبولد فايس» «محمد أسد» وأن أول

فهرسة لألفاظ الحديث النبوي الشريف في العصر الحديث قام بها جماعة من

المستشرقين الغربيين؛ وهذا دليل ساطع على قوة الثقافة العربية الإسلامية حتى في

أزمنة الانحطاط هذه التي يسمونها: عصر النهضة عصر الاستعمار والاحتكاك

المباشر بالثقافة الغربية بإيجابياتها وسلبياتها. وكلنا يتذكر تلك البعثات التي كان

الفرنسيون والألمان والإنجليز يحرصون على إرسالها إلى جامعاتهم من أبناء البلاد

المستعمَرة لتعلُّم القوانين الفرنسية والإنجليزية والآداب والفنون اللاتينية؛ فماذا

كانت النتيجة؟ لقد تعرضت هذه النخب إلى عمليات غسل مخ ثقافي، وعند

رجوعهم إلى الأوطان عملوا على تخفيف المؤونة التي أنفقها الاستعمار المباشر

بتنفيذ مقاصده وفلسفته في الميدان، ولذلك فإن أول ما عرفناه من مؤلفات مترجمة

إلى العربية هي كتب القانون والفلسفة والآداب الغربية بالإضافة إلى

كتب المستشرقين، ومَنْ من الباحثين لا يعرف كتاب «العقيدة والشريعة»

لـ «جولد زيهر» أو كتاب «تاريخ آداب اللغة العربية» لـ: «كارل

بروكلمان» أو «دائرة المعارف الإسلامية البريطانية» وما فيها من اعتداء على

المنهجية العلمية وعلى تراثنا الإسلامي العريق؟

إن أول خطوة يتحتم علينا القيام بها اليوم هي الاعتراف الرسمي بالذنب الذي

ارتكبته النخب المثقفة والنخب الحاكمة في عالمنا العربي والإسلامي؛ فهؤلاء ذهبوا

بأنظارهم بعيداً مع أن زادهم قليل قليل في رحلة الاستغراب والخراب الفكري،

فبحثوا في حقائب الغير كأنهم لصوص، واستوعبوا ما أريد لهم أن يستوعبوا،

ولبسوا ما أريد لهم أن يلبسوا من أثواب الزيغ والعقوق، وركبوا كل المراكب التي

تسخط الرحمن وترضي شياطين الفكر الغربي وساسته؛ وبعد ذلك ظنوا أنهم قد

وصلوا، ففرحوا بما عندهم من العلم، وعندما نظروا ذات مرة إلى مواطئ أقدامهم

قالوا: من نحن؟ فمنهم الذين أدركوا أنهم قد وقعوا في شراك أُجِيدَ حبكها في دوائر

الغزو الثقافي ومراكز الاستدمار الفكري، ولكنهم أدركوا بعد حين من الدهر أن

ثعالب الاستغراب أرادوا لهم أن يكونوا لقطاء مع أن نسبهم شريف.

إن الخدمات التي قدمتها هذه النخب المستغربة بثقافتها المهجَّنة لم تحظَ حتى

باعتراف أولئك الذين يفترض أن يباركوا هذه المجهودات الانسلاخية؛ فهذا زعيم

الوجودية الفرنسي «جان بول سارتر» يصف الإنتاج الأدبي لهؤلاء المهجَّنين

والمدجَّنين فكرياً بقوله: «هذه بضاعتنا ردت إلينا» وكان الأجدر أن يضيف كلمة:

«مشوهة» .

ومع ذلك لنا أن نتساءل: لماذا منحت جائزة «نوبل» للآداب لأديب مصري

كبير هو «نجيب محفوظ» سنة ١٩٨٨م، ولم تُمنح لطه حسين [**] الذي توفي

سنة ١٩٧٣م والذي يعتبر في رأي جمهور النقاد عميد الأدب العربي المعاصر؟

فهل كان الوقت لم يحن بعدُ؛ لأن العرب لم يخرجوا من طور الحضانة؟ أم أن

هناك حسابات أخرى؟ ففي سنة ١٩٥٥م كتب الشيخ «محمد الغزالي» - رحمه

الله- مع ثلاثة أزهريين تقريراً ودفعوه إلى الرئيس «جمال عبد الناصر» ذكروا

فيه أن رواية «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ التي كانت جريدة «الأهرام»

تنشرها آنذاك متسلسلة تنال من الذات الإلهية، فما كان من الرئيس إلا أن أمر

بسحب الرواية ومصادرتها وانتهت القضية.

ولكن غضب الأزهريين سجلته خلايا مؤسسة «ألفريد نوبل» واحتفظت به

إلى غاية سنة ١٩٨٨م بعد وفاة عميد الأدب العربي. لقد نال «نجيب محفوظ»

الجائزة؛ لأنه مؤلفها أولاً، ومجَّد الفراعنة ثانياً، وثالثاً: لأنه كان يدعو إلى رفع

درجة الأقباط من مرتبة الأقلية الدينية إلى مرتبة الشريك المقاسم. لقد كوفئ لأنه

ساهم في تنفيذ الخطة التفكيكية للوحدة السياسية والثقافية للأمة العربية الإسلامية؛

فقد حظي بدخول جحر الضب ولم يحظ «طه حسين» بذلك رغم استغرابه

الفرنسي؛ لأن سليقته العربية تغلبت على مرضه الثقافي.. ومع ذلك نجد أكبر

الأدباء الفرنسيين وهو «سارتر» يترفع عن استلام جائزة نوبل للآداب سنة

١٩٦٤م؛ لأن هذه «الضفدعة اليائسة» كانت ترفض نفاق الثقافة الغربية

وإنسانيتها الكاذبة أمام أعين أطفال آسيا وإفريقيا وبطونهم الجائعة عكس أخيه في

فلسفة اليأس «الوجودية» «ألبير كامو» الذي لم يستطع أن يخالف عقله وقلبه

عندما طرح سؤاله الجوهري: «هل الحياة تستحق منا أن نعيشها أم لا؟» فقد

استلم جائزة نوبل سنة ١٩٥٧م؛ إنه أراد أن يعيش؛ لأن ذلك من طبيعة «الأقدام

السود» (مصطلح يقصد به في الجزائر المستوطنين الغربيين) ولا عبرة عنده

بمن اختار الانتحار انتقاماً من هذه الجبرية الوجودية. هذا «الكامو» عندما سئل

عن رأيه في استقلال الجزائر أجاب إجابة ذكية بقوله: لو خُيرت بين الحرية وأمي

لاخترت أمي. أي فرنسا.

واليوم وفي خضم مرضنا الثقافي يطل علينا الغرب بمشروع العولمة

الاقتصادية والثقافية، وهو بذلك يريد استغلال قوته الحالية التي قد لا تدوم طويلاً

من أجل تحقيق مآربه القريبة والبعيدة معاً، وأصبحنا نسمع كثيراً عن فكرة نهاية

التاريخ والحوار بين الأديان والثقافات، وقد علمنا أن الحوار لا يكون ناجحاً إلا إذا

كان بين أطراف متكافئة، ونحن وإن كنا أقوياء فعلاً بثقافتنا العربية الإسلامية فإننا

ضعفاء إلى درجة فقدان السيادة بسلوكنا المنحرف عن الصراط المستقيم الذي هو

المقياس الوحيد لرشدنا الثقافي.

وأمام هذه العولمة الجارفة فلا نملك إلا أن نقول: لا بيعة لمكرَه، إننا نرفض

النفاق؛ لأن ذلك ليس من شيم قيمنا الثقافية، وأمام ضعفنا المفتعل فلا يمكن أن

نقابل مثل هذه الدعوات إلا بعين الريبة والشك؛ فالاستعمار العسكري بعد أن تحول

إلى استعمار اقتصادي ها هو اليوم يبدل ملابسه القذرة ليخرج إلينا في طبعة ثالثة

أنيقة في ظاهرها متوحشة في باطنها هي العولمة الشاملة؛ وهذا موضوع قد ييسر

الله معالجته لاحقاً. والله الموفق.


(*) باحث وكاتب جزائري.
(**) حتى طه حسين لم يسلم من المآخذ والأخطاء التي تطعن في الإسلام، ومن ذلك مقولته في
انتحال الشعر الجاهلي، وادعاؤه أن ذكر قصة إبراهيم - عليه السلام - في القرآن لا يعني أنها
حقيقية، وهي مسألة نوقشت في حينه من فطاحل العلماء؛ حيث سفهوا رأيه أمثال (محمد الخضر
حسين، ومحمد عرفة، وغيرهم) .