للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أطفال الحضارة المعاصرة ... نحو الهاوية]

إن ظاهرة الاعتداءات التي يتعرض لها الأطفال في دول الحضارة المعاصرة

تكاد تملأ سمع العالم وبصره منذ سنوات، وخصوصاً من يقدر له أن يعيش في مثل

هذه الدول المتحضرة! ! .. هذه الاعتداءات تشمل الضرب الجسمي الوحشي،

التعذيب بالآلات الحادة، إطفاء السجائر بأجسام الأطفال الرقيقة، السجن في أماكن

مظلمة، ربط الطفل في زاوية من زوايا البيت لفترات قد تتجاوز الأشهر، بل

أحياناً السنوات! ! هذا عدا الترك والإهمال بكل معانيه [الصحية-التغذية - التعليم

والتربية.. الخ] ، والإهانات العاطفية، بيع الأطفال مقابل مبلغٍ من المال، الطرد

والإبعاد عن المنزل في سن مبكرة جداً.. إلى آخر هذه الأساليب الوحشية المفزعة..

وقد يدهش المرء عند سماع مثل هذه الحالات المذهلة من التعذيب، وقد

يصف هذه المجتمعات بالوحشية والبهيمية.. لكنه سرعان ما يتضح له خطأ هذا

الوصف والتشبيه إذا علم أن ما يتعرض له أطفال الحضارة المعاصرة من أساليب

التعذيب والتفنن فيها إنما يحدث من أقرب المقربين منهم، ممن يقوم على رعايتهم

وتربيتهم، بل - وفي كثير من الحالات -من آبائهم وأمهاتهم.. نعم إن الوحوش

الكاسرة لتعطف على صغارها بدافع الفطرة التي فطرها الله عليها، والرحمة التي

أودعها في قلوبها تجاه صغارها.. بل وأحياناً تجاه أبناء جنسها.

فليس الذئب يأكل لحم ذئب ... ويأكل بعضنا بعضاً عياناً

إن هذه الوحوش لتدفع عن صغارها كل سوء، وتكدح من أجل تأمين الرزق

لها، وتوفر لها المكان الآمن، وهي مع ذلك مستعدة للتضحية بحياتها من أجل أن

يبقى صغارها، وهذا الأمر لا يحتاج إلى دليل ولا إلى كثير من الإيضاح.. ولكن

ما لا تتقبله العقول السليمة، ولا الفطر القويمة أن يقوم من كرمه الله بالعقل والفهم

والإدراك بمثل هذه الأساليب الوحشية - مع التحفظ على هذه الكلمة - ويصب

صنوف العذاب على من؟ على أطفاله وفلذات كبده.. ولو كان الأمر متعلقاً بأطفال

غيره أو بأطفال من دول العالم الثالث لهان الأمر، خصوصاً إذا تذكرنا العقلية

الاستعمارية التي يتمتع بها كل من الغرب الرأسمالي، والشرق الملحد، والتي لا

تزال كثير من الشعوب تعاني منها أو من آثارها.

ولنأخذ أعرق هذه المجتمعات مدنية وتحضراً، كشريحة من شرائح المجتمع

الغربي المتحضر نجري عليها هذا البحث - أعني المجتمع الإنجليزي - فالحكومة

البريطانية تستعد الآن لإصدار (كتاب أبيض) يتعلق بمشروع قانون حماية الطفولة

المزمع طرحه على مجلس العموم، وقد وعدت الحكومة بأن تأخذ في الاعتبار

اقتراحات وصفت بأنها (دراماتيكية مثيرة) لأنها تعطي الطفل الحق في أن يطلب

قضائياً الانفصال عن أبويه إذا تعرض للإساءة من جانبهما [الشرق الأوسط

٤/١١/ ١٩٨٦] .

ولا تظن - أخي القارئ - أن حضارة القرن العشرين المبدعة عجزت أن

تبتكر أساليب جديدة أكثر تقدماً - نحو الهاوية - في هذا المجال.. ويحق لك أن

تسأل: وأي جريمة بقيت لم ترتكب في حق هؤلاء الأطفال الأبرياء؟ . لكن إن

كنت ممن تابع الصحافة الغربية، والبريطانية منها على وجه أخص، في الآونة

الأخيرة فإنك لابد أن تكون أدركت ما أرمي إليه.. هذا الأسلوب الجديد هو ما

يسمى (بالاعتداء الجنسي على الأطفال) .. فلقد أنشئ خط هاتفي جديد في مدينة

ليدز البريطانية لمساعدة الأطفال الذين تعرضوا لمثل هذا النوع من الاعتداء، ولقد

تلقت محطة تلفزيون B. B. C البريطانية ما يتراوح بين ٣٠ - ٥٠ ألف مكالمة

هاتفية خلال الاثنتي عشرة ساعة الأولى التي فُتحت فيها الخطوط الهاتفية للأطفال.. لكن ألفي مكالمة فقط تمكنت المحطة من الإجابة عليها.. ورغم أن أكثرهم كانوا

من البالغين الذين أبدوا استعدادهم للمساعدة في هذا المجال إلا أن ٣٠٦ ممن خابروا

المحطة كانوا من الأطفال الذين يشكون من وقوعهم تحت هذه المأساة، وقد أحيل

عشرة منهم إلى أقسام الرعاية الاجتماعية، أو المكاتب المدعومة من المتطوعين أو

الشرطة [الأوبزيرفر ٢/١١/١٩٨٦] .

ويتبين حجم هذه المشكلة، والتي أثيرت بمناسبة إنشاء هذا الخط الهاتفي من

خلال تصريح الدكتورة جلاسر Dr Glaser والتي تعمل في إحدى مستشفيات

لندن حيث تقول:

إن الوحدة التابعة لها والمختصة بالأطفال المعتدى عليهم، والتي تخدم إدارة

صحية واحدة فقط.. إن هذه الوحدة تتلقى الآن ٨٠ حالة جديدة سنوياً والتي قد

تكون مؤشراً لوجود ١٦ ألف حالة جديدة سنوياً في إنجلترا أو مقاطعة ويلز.

إن أقسام الرعاية الاجتماعية غير قادرة على استيعاب الأعداد الكبيرة من الأطفال المعتدى عليهم، وإن بيوت رعاية الأطفال والتي كان مقرراً إغلاقها ستبقى ...

مفتوحة الآن، في مدينة ليدز.. لقد اكتشف الأطباء مثل هذه الاعتداءات منذ أربع

سنوات، فلقد زاد عدد هذه الحالات من عشر حالات في عام ٨٣ م إلى ٤٠٠ حالة

في هذه السنة ٨٦) [الاندبندنت البريطانية ٣/١١/٨٦] .

يقول الدكتور (كوستوفر هوبز) والذي يقود مجموعة مختصة بهذا النوع من

الاعتداء على الأطفال في المستشفي التابع لجامعة ليدز:

لقد دربنا أساتذة المدارس والحضانات ورجال الشرطة والزائرين الصحيين

للتعرف على مؤشرات الاعتداء عند الأطفال، ولقد أنشأنا أعداداً كبيرة من بيوت

الحضانة، وسنبحث عن عدد كبير من العوائل كي تأخذ هؤلاء الأطفال.. ولكن

المشكلة التي تواجهنا أن هؤلاء الأطفال يحتاجون إلى عوائل ذات خبرات في

التعامل مع مثل هذه الحالات لأن لديهم كثيراً من المشاكل الاجتماعية والنفسية،

حيث يتصرفون تصرفاتٍ غير ملائمة) [الاندبندنت ٣/١١/ ٨٦] .

كما ذكر ناطق باسم المنظمة المذكورة بتاريخ ١٣/٧/٨٦ (إن أكثر من ٣٠٠

طفل في مدينة ليدز يتلقون علاجاً نفسياً بعد أن تعرضوا لاعتداءات من بعض أفراد

عوائلهم أو من بالغين آخرين.

ولنر الآن ما موقف القانون البريطاني من هذه المشكلة، وما مدى مساهمته

في حلها، والقضاء عليها؟

يقول «ميرسي هوكر Maurice Hawker» مدير الخدمات الاجتماعية

في مجلس مقاطعة اسكس:

إن المشكلة تكمن في أن القانون لا يحمي هؤلاء الأطفال.. حيث إننا نخسر كثيراً من الحالات عندما نحاول أخذ هؤلاء الأطفال للعناية بهم، وذلك بسبب عبء الإثباتات الهرقلية (القاسية) .. وعلى عموم المجتمع أن يأخذ حقوق الأطفال في حساباته [الأوبزيرفر ١٢/١١/٨٦] .

ويقول الدكتور هوبز: «إنه من الصعوبة بمكان اتخاذ أي إجراء ضد

الشخص المغتصب؛ إلا إذا اعترف بذلك.. حتى لو كان التشخيص الطبي يثبت

هذا الشيء، إن القانون أصبح حصانة للمغتصب.. والشرطة تعرف ذلك وقليل

جداً من الحالات ترسل إلى المحكمة» [الأندبندنت ٣/١١/٨٦] .

هذا هو إسهام القانون في حل المشكلة.. حماية المجرم.. ووضع العراقيل

أمام المصلحين والعقلاء.. والنتيجة زيادة الجريمة والانحطاط الخلقي والاجتماعي،

وتفشي الأمراض، والمزيد من النفقات الاقتصادية لعلاج ذلك كله..

وهذه المشكلة لم تنشاً من فراغ، بل إنها جاءت نتيجة انحراف موجه في

مناهج التعليم، ووسائل الإعلام، وثالثة الأثافي تساهل القانون في القضاء على

الجريمة.

وإن لوسائل الإعلام حصة الأسد من إشاعة مثل هذه الجرائم فما يُعرض في

قنوات التلفاز من أفلام ولقطات تحرض على الجريمة الجنسية، وما يعرض في

أشرطة الفيديو والمسارح والمجلات التي تعرض وتباع على مسمع ومرأى بل

وبحماية من القانون والسلطات.. كل هذا مما يزيد معدل هذه الجريمة.. وليست

الخمور والمخدرات من الساحة ببعيدة في مثل هذه الجرائم.. إذاً، كل شيء في

بلدان الحضارة المعاصرة يحرض على الجريمة وبصفة قانونية رسمية يحارب

القانون نفسه من يحارب الجريمة أو يحاول أن يقف في طريقها.. إنه القانون

الوضعي القائم على مثل نظرية فرويد الحيوانية.. إنه البعد عن منهج الله.. إنه

الضياع..

وإلى أبناء أمتنا نسوق هذه الأمثلة التي تعكس الوجه المظلم للحضارة

المعاصرة مستهدفين أن يزداد أبناء هذه الأمة تمسكاً بما لديهم من منهج حكيم ومن

شرع إلهي - أنزله الله الحكيم الخبير بما يُصلح عباده - فهو الملجأ والعاصم من

أمثال هذه الجرائم. وصدق الله القائل: [ومَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ]

[سورة الأنبياء ١٠٧] .

إن القوانين الوضعية الجاهلية قد ثبت فشلها وعجزها عن محاربة الجريمة

بأنواعها، فهي - كالصانع الأخرق - كلما عالجت أمراً أفسدت أموراً كثيرة بل إن

هذه القوانين مهما بلغت من الحكمة في التقنين والحدة والشدة في التنفيذ والعقوبة

فالجريمة باقية في النفوس.

انه الإسلام.. والإسلام وحده الذي يعالج النفوس قبل أن يحد الحدود

والعقوبات.. إنه المنهج الرباني.

فيامن وليتَ أمراً من أمور التعليم والتربية أو وسيلة من وسائل التوجيه في

عالمنا الإسلامي: اتق الله فيما وليت، ولتكن هذه الأمثلة ماثلة أمامك، وأنت تضع

الخطط والبرامج، ولا يغرنّك خبراء التعليم والإعلام في العالم الغربي أو الشرقي،

فالنتيجة كما ترى مزعجة مفزعة ولو كان عندهم خبرة شاملة كاملة لاستفادت منها

بلادهم.

ولقد خاطبنا ربنا قائلاً: [وسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وتَبَيَّنَ لَكُمْ

كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ] [سورة إبراهيم ٤٥] والعاقل من اتعظ بغيره.