للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قراءة في «البيان الأدبي» في الأعداد الثلاثة الأخيرة]

د. حسين علي محمد

هذه قراءة في أعداد البيان الثلاثة الأخيرة، أعداد ذي القعدة، وذي الحجة ١٤٢٥هـ، والمحرم ١٤٢٦هـ نستجلي من خلالها صورة الأدب الإسلامي، كما تقدم النماذج الإبداعية في الشعر والقصة القصيرة

في العدد (٢٠٧) الصادر في ذي القعدة ١٤٢٥هـ نجد قصيدتين للشاعرين عدنان النحوي، وأحمد الصابطي، ومقالاً للأستاذ محمد شلال الحناحنة عن ديوان «بشائر من أكناف الأقصى» للشاعر الدكتور سعد بن عطية الغامدي، وحواراً مع الناقد الدكتور وليد القصاب.

ففي قصيدة الشاعر عدنان علي رضا النحوي، وهي بعنوان «فجر أطلَّ» ، نجد صوتاً يذكرك بكبار شعراء مدرسة الإحياء، ومنهم حافظ إبراهيم (١٨٧٢ ـ ١٩٣٢م) ، ومحمد عبد المطلب (١٨٧١ ـ ١٩٣١م) ، وأحمد محرم (١٨٧٧ ـ ١٩٤٥م) ، وعلي الغاياتي (١٨٨٤ ـ ١٩٥٦م) ، وعلي الجارم (١٨٨٢ ـ ١٩٤٩م) .

والقصيدة نموذج حي لقدرة الشعر البياني المحافظ (الذي يكتبه الآن محمد التهامي، وعدنان النحوي) على أن يكسب للشعر جمهوراً بقدرته الفنية على التعبير عن جراح الأمة وعذاباتها.

ومن جَيّد قول النحوي في القصيدة:

أتوْكِ بزحفٍ كالجبال وأقبلوا

بآلاتهمْ تُلقي لهيبَ جهنمِ

أحاطوكِ مِنْ كلِّ النواحي وأطبقوا

بشرِّ حصارٍ من حواليْكِ مُحكمِ

وما تركوا للمستجيرِ منافذاً

ولا لضعيفٍِ أو لشيْخٍ ومُعْدَمِ

قذائفُ دوَّتْ والمساكنُ أطبقَتْ

على أهْلِها بيْنَ اللهيبِ المُضَرَّمِ

تناثرتِ الأشْلاءُ في كلِّ ساحةٍ

يُحيطُ بها صمْتٌ ولوْعةُ مأْتَمِ

وفي قصيدة أحمد الصابطي، وهي بعنوان «هكذا حدّث التاريخ» نجد صوتاً عالياً يهيب بالناس أن يستيقظوا:

لا تكنْ كومَ عظامْ

تحتهُ عقلٌُ وقلبٌ مِنْ جمادْ

لا تكن ممن يُغطيه حجابُ السنواتْ

وهي قصيدة ذات صوت عالٍ، وحينما يعلو الصوتُ في القصيدة فإن الفنية تتوارى، أو تتلاشى.

وفي مقال الأستاذ محمد شلال الحناحنة عن ديوان «بشائر من أكناف الأقصى» للشاعر الدكتور سعد بن عطية الغامدي عرض لآفاق الديوان الموضوعية: من جهاد لأعداء الأمة، وانتفاضة الحجارة، وغضبة لله ورسوله، ثم الأقصى المُغتصب، ثم عرّج الدارس على بعض الخصائص الفنية، ومنها: المفارقة التصويرية، والتكرار، وحسناً أطلعنا الناقد على نماذج من هذا الديوان الذي قال عنه إنه: «يتدفق تفاؤلاً وحماسة، رغم الآلام والأحزان، وأن الشاعر فيه يُوازن بين إيقاعاته الشفيفة، ومضامينه القابضة على الجمر» (بتصرف) .

ونحن في حاجة إلى التعريف بالإصدارات الجديدة في مجالات الأدب الإسلامي (إبداعاً ونقداً) ؛ لنحاول إنقاذ هذا الأدب من تيه التجاهل الذي يحوطه.

وفي حوار الأستاذ محمود حسين عيسى مع الناقد الدكتور وليد قصاب، تحدث في قضايا أهمها: الدعوة إلى وجود أدب إسلامي، ومسوغاتها، والمعوقات التي تقف في طريقه، وهل للعرب نظرية نقدية، وأسباب انصراف الجمهور العربي المعاصر عن الشعر، وقلة إقبال الجمهور عليه. وهي قضايا شائكة أحسن الدكتور وليد قصّاب فيها وضع النقاط على الحروف، وكشف الكثير من القضايا الملتبسة.

في العدد (٢٠٨) الصادر في ذي الحجة ١٤٢٥هـ نجد قصيدتين: الأولى بعنوان «بَوْح الزلازل» لمروان كجك، والثانية بعنوان «دارفور» للأستاذ حسن مفرق، ونجد قصة بعنوان «سيف عربي يتحدث» لعدنان عبد القادر كزارة.

ومروان كجك في قصيدة «بَوْح الزلازل» يرى في الزلازل غضباً من الله على من يحيدون عن منهجه، ويتنكبون طريق الهدى والعفاف، وهو يتوقف أمام المعاني والإضاءات الإسلامية في هذا الحدث المدمر المزلزل؛ حيثُ أوحى الله إلى الدنيا أن تزلزل الباغين الغافلين، والقصيدة تدور في فلك الشعر الحماسي المدمدم.

وأما قصيدة «دارفور» للأستاذ حسن مفرق، فهي تتناول تكالب الأمم علينا، فها هو العدوان الصليبي لم يكتف في عصرنا الحديث بانتزاع فلسطين، وإنما حاربنا في كل أرض يُذكر اسم الله الحق فيها: في أفغانستان، والبوسنة والهرسك، والشيشان. والشاعر في قصيدته يعجب من غفلة المسلمين، ويستثير حماسهم، بمثل قوله:

يا أُمَّتي والليلُ أمسى حالكاً

وقصائد التأبينِ تقطرُ مِنْ دمي

ماذا دهاك؟ ألم تكوني أمة

ركضتْ بساحِ العزِّ ركضَ الأدهمِ

يا أمَّتي إن الفضَاءَ مُلبَّدٌ

بسحائبِ التخريبِ للمستسْلِمِ

أوَلَم تكوني أمةَ الشرفِ الذي

خلعَ اللثامَ لخائن متلثمِ

لا تُنصتي لمجالسِ الظلمِ الذي

نصرَ الظلومَ وحافَ بالمتكلِّمِ

يا أمَّتي هيا نعودُ لديننا

فالنصرُ في دينِ الإلهِ المُنْعمِ

ونبرة القصيدة عالية، وكان من الممكن أن يتخذ صورة لينميها، ولكنه آثر فنياً أن يتخذ صورة الحديث (عن) بدلاً من الحديث (بـ) ؛ لأن الأمة في تصوره غافلة، ولن تصحو إلا إذا جابهها صوتُ الشاعر بالحقيقة، كاشفةً صريحة كرابعة النهار الكاشف بلا غيوم، وقد جاءت قصيدته معارضة لمعلّقة عنترة التي مطلعها:

(يا دار عبلَة بالجواء تكلمي) فبدأ قصيدته بقوله:

يا دارفورٍ بالعناء تكلمي

وعِمي ظلاماً للعدوِّ وأظلمي

وهي صرخة نرجو ألا تكون في وادٍ؛ فبنو جلدتنا غافلون عما يُراد بهم، والمواقف العربية والإسلامية لا تعدو أن تكون مواقف المغلوبين على أمرهم المنبطحين، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

أما قصة «سيف عربي يتحدث» لعدنان عبد القادر كزارة؛ فهي مبنية على مفارقة تصويرية، طرفها الأول السيف كما عرفناه في تراثنا، ويتضح ذلك من خلال الحوار التالي:

ـ هل انتهت المعركة؟

ـ عن أي معركة تتكلمون؟

ـ إذن أين كنت؟ ولِمَ غادرتنا؟

ـ واخيبتاه! لقد جهزتُ نفسي ليوم طالما حلمتُ له، ولكن لم أدر أنهم كانوا يريدونني ليوم المطعمة لا ليوم الملحمة.

ـ يوم المطعمة؟

ـ نعم، واسمعوا مني الحكاية!

ويروي حكايته أنه حملته سيارة إلى مكان شاهق «يُطاول عنان السماء، ارتقى من يحملني طوابقه العديدة بخطفة البرق، وهو يضغط أزراراً فتنفتح أبواب، ويضغط أزراراً فتوصد أبواب، إلى أن دخل بي قاعةً فسيحةً مزدانة باللوحات والصور، تغصّ بقوم من أجناس شتى، بعضهم يلبس زي آبائي وأجدادي» .

وتكون المُفارقة أنه جيء بالسيف؛ ليقطع كعكة سيأكلها القوم!

وقد صوَّر القاص على لسان السيف هذه الفاجعة، حينما حملته اليد العربية لتفعل به فعلتها، وكأنه يوازن بين صورة السيف في عهدين:

«صار يهزني بطريقة أدخلت الغرور إلى نفسي، فجاشت عواطفي، ورأيتني في ساح المعارك أخطر يميناً ويساراً، مرهف القدّ، رقيق الظبة، أهفو إلى عناق الرؤوس، واختراق الأجساد. لم يدم حلمي طويلاً؛ فسرعان ما أيقظتني يد المدير من أخذة الخيال؛ إذ جرّني من غمدي، وهوى بي على قالب (الكيك) ، فغصت في خضم لزج كثيف» .

وتنتهي القصة بخبر يسوقه الراوي ـ بعد أن ساق القصة على لسان السيف:

«قال الفرّاش العجوز المكلف بخدمة قاعة السلاح في متحف الآثار الإسلامية إنه سمع في الليل أصواتاً لصليل السيوف يشبه أنات بشرية، وفي الصباح حين تفقّد القاعة كعادته كل يوم، وجد السيف الذي استعير لحفلة (الكيك) مطروحاً على الأرض، وقد انشطر إلى نصفين» .

وفي العدد (٢٠٩) الصادر في غرة المحرم ١٤٢٦هـ نجد مقالة لعباس المناصرة بعنوان «الخطاب الأدبي في القرآن الكريم» ، وقصيدة للشاعر محمد العثمان بعنوان «إليكِ يا بغداد» ، وقصة للبويسفي محمد بعنوان «عذابات البحر» .

في مقالة عباس المناصرة التي بعنوان «الخطاب الأدبي في القرآن الكريم» يعرفنا على ملامح الخطاب الأدبي في القرآن الكريم، وقدرته على التأثير في أذواق المخاطبين، والرقي بها نحو الأهداف المرغوبة، وهو أقرب أنواع الخطاب للتربية، وتعديل السلوك وتعليم الناس، وهو خطاب لا يتأثر بتغير الزمان أو المكان.

وفي قصيدة «إليكِ يا بغداد» لمحمد العثمان، يبكي فيه بغداد بعد اجتياحها، ويبدؤها بقوله:

بغدادُ يا انشودةً ترتلُ الدمارْ

بغدادُ يا بحبوحةً تفيء بالحصارْ

سينجلي الغبارْ.. سينْجلي الغبارْ

ويبدو أنها من التجارب الأولى للشاعر، فهي تسير في دائرة الشعر المعتاد الذي لا يُغامر في اللغة أو التصوير، بل يسير في الطريق التي سار فيها السابقون، ومن ثم لم تجد فيها التألق الشعري، أو خصوصية التفرد الإبداعي الذي تبحث عنه في كل نص جديد.

وقصة «عذابات البحر» للبويسفي محمد تتناول موضوع الهجرة بلغة نمطية معتادة، ليس فيها مجال لخصوصية الإبداع: «أأرحلُ عن وطنٍ فيه وُلدتُ وكبرتُ، قضيْتُ فيه أحلى الساعات بين الأهلِ والأحباب، تحت رحمة الأب وعطف الأم الحنون؟ لماذا يا نفسُ تهجرين مجتمعاً تقاليده وعقائده تجري مجرى الدم في جسمك؟ عشت فيه حتى أصبحت جزءاً منك، وأصبحت جزءاً منه» .

حتى وإن جعل البحر يحتضن المسافر، وهو يودع أضواء طنجة إلا أنه لم يستطع أن يعمق هذا الحدث، ويجعل منه فاجعةً بطعم الانتصار.

ولعل لغة القصة هي التي أفقدتها التوهج المطلوب، فرأينا لغةً باترة قاطعة كاللغة في المقالة أو الخاطرة، بل إن بعض المقالات الأدبية ذات الأسلوب الجيد المتوتر بالانفعالات؛ القادر على نقل مشاعر الكاتب بدقة وحيوية ـ كأسلوب الرافعي ـ في «السحاب الأحمر» مثلاً ـ نفتقده هنا.

ومجلة «البيان» بملفها الأدبي «البيان الأدبي» تُثري ساحة الأدب الإسلامي، بنشر نماذج أدبية منه يحتاجها القارئ المسلم، المُحاصَر بغزو القنوات الفضائية وأدب الحداثة.


(*) شاعر وناقد إسلامي مصري، أستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية وعضو هيئة تحرير مجلة الأدب الإسلامي.