محاضرات إسلامية
الصحوة الإسلامية وأزمة المثقفين في ديار الإسلام
(٢)
جمال سلطان
قدمنا في القسم الأول من هذه المحاضرة، الحديث عن أهم معالم
الإيجابية في الصحوة الإسلامية الجديدة، وهي أيضاً المعالم التي تكشف لنا أبعاداً من أزمة الثقافة في ديار الإسلام، تلك الثقافة التي تأسست في تاريخنا الحديث على فكر الاغتراب وأدب الاغتراب وقيم الاغتراب، وكانت في قسمها الأعظم - على عداء ظاهر أو مُستخف للإسلام، وتاريخه وشريعته وتراثه ورموزه. وهذه الحقائق التي أبرزناها في (حركة الثقافة) المعاصرة في ديار الإسلام، والتي تشرح لنا أسرار هذه اللوحة الساخرة من الأقوال والمواقف التي تصدر عن ثقافة العلمانية والاغتراب بكل تياراتها ومذاهبها، والتي نذكر منها بعض الشوارد على سبيل التمثيل للأزمة والتأسيس للقياس:
- طوال العقود الماضية، كانت الديمقراطية هي شعار الثقافة العلمانية، على
اختلاف مذاهبها، من أقصى اليسار (الماركسية) حتى أقصى اليمين (الليبرالية)
حتى إن أعتى منظري الديكتاتورية الناصرية وما شابهها، كانوا يرفعون شعار
الديمقراطية، وقد طغى هذا الشعار على الخطاب السياسي والفكري في السنوات
الأخيرة بشكل صارخ حتى وقعت واقعة الجزائر، وأجريت تجربة ديمقراطية حرة
نظمتها الحكومة، ورتبت دوائرها، واحتاطت لنفسها باعتقال قادة الإسلاميين
ومهدت لها بحملة إعلامية لتشويه صورتهم، ثم كانت النتيجة- كما نعلم - الفوز
الساحق للجبهة الإسلامية للإنقاذ، وأعلن الشعب الجزائري المسلم بوضوح مذهل
وبحسم رائع، أنه لا يريد سوى هؤلاء يحكمونه ويقودون البلاد.
وهنا انقلبت تيارات الفكر العربي بزاوية مائة وثمانين درجة، لنرى دعاة
الديمقراطية بالأمس، ومن جعلوها ديناً، وقدساً مقدساً، أكثر الناس خوفاً منها،
وأول الدعاة للكفر بالديمقراطية، وأول المنادين بتأجيل (الخيار الديمقراطي) وما
ذلك إلا لأن (الإسلام) ومنهجه يوشك أن يحكم، وتحالف العلمانيون واليساريون
ودعاة التقدم، وتحرر المرأة، والليبراليون والقوميون والعرقيون تحالفوا مع
اللصوص والمفسدين والطغاة والجنرالات ومع الغرب الصليبي ليقفوا صفاً في وجه
الشعب وفي وجه الإسلام ودعاته ورجالاته، وأصبح الشعب الجزائري، بل
الشعوب العربية كلها: منذ ذلك الحين - متهمة في عقلها، وفي وعيها، وفي
قدرتها على الاختيار لا لشيء إلا لأنها اختارت الإسلام، ولم تختر الشيوعيين أو
اللصوص أو الملاحدة أو دعاة الفتنة العنصرية.
هذه الفضيحة التاريخية ما زالت أصداؤها تتردد، شاهدة على (خيانة) الثقافة
العلمانية والمغتربة للشعوب، ومجاملتها الصريحة للطغاة والمستبدين، بل كشفت
صراحة عن كون ثقافة العلمانية هي الحليف الطبيعي للاستبداد في بلاد المسلمين.
- الخلاف واضح - كما نعلم - بين الجبهة الإسلامية في السودان التي تدعم
الحكومة السودانية، وبين المعارضة السودانية علمانية وصليبية وشيوعية
وعنصرية وقد يكون محور الخلاف الأكبر الذي عبرت عنه المعارضة ذاتها، ربما
مغازلة للقوى الغربية المتوثبة على كل ما هو إسلامي، هو (تبني الحكومة
للمشروع الإسلامي) بغض النظر عن تفصيلات الأمر، ولا بأس من حيث
مقتضيات الخلاف السياسي بمفهومه العلماني في ذلك الخلاف والمعارضات، أما
الأمر الذي يخرج عن حدود الخلاف المشروع في أي ملة وأي مستوى ثقافي أو
حضاري، أن يتنادى مثقفون سودانيون وينادون بالتدخل الاستعماري في السودان
لإزالة الحكومة القائمة وإحلال المعارضة الوطنية (الشريفة) مكانها! ! لقد تحالف
المثقفون السودانيون العلمانيون والشيوعيون مع العنصري المرتزق - إسرائيلياً
وأمريكياً - جون قرنق بدعوى التحالف مع فصائل سودانية، فبأي منطق إذن
يتحالفون مع الصليبية العالمية والغرب الطافح حقداً على الإسلام والمسلمين، وهو
ما ينجلي الآن في البوسنة غيرها، ما معنى المشروعية في التحالف معه لضرب
أبناء وطني وديني بمن اختلف معهم، وبأي مسوغ أطالب بالقفز على كرسي الحكم
من فوق دبابات الاستعمار؟ ! .
- سمعنا- بلا شك - بالمأساة التي وقعت في تركيا مؤخراً، من ثورة غضب
شعبي عارم أدت إلى مقتل ما يقارب الأربعين شخصاً بخلاف الإصابات، وكان
سبب الموقعة أو (الفتنة) أن العلماني المخضرم (عزيز نسين) رأى أن ما يحيق
بالشعوب المسلمة أو المستضعفة ومنها الشعب التركي المسلم، ليس هو ما يحدث
في البلقان - منطقة الخطر الأولى تاريخياً على تركيا، وما يحدث في البوسنة
والصومال وأذربيجان وغيرها من ديار المسلمين، ولا هو الغارة العنصرية واسعة
النطاق التي تجتاح أوربا اليوم، ويروح ضحيتها- في ألمانيا خصوصاً- الأتراك
المسلمون.
المثقف المستنير (عزيز نسين) رأى أن ذلك كله (لعب صبيان) أما
الضرورة التاريخية الملحة، والمخرج من هذا الحصار الخطير، يكمن في ترجمة
رواية (آيات شيطانية) لسلمان رشدي، وعقد ندوات حولها فننعم بسب دين الله،
وتحقير مقدسات المسلمين، وسب الشعب التركي ذاته، وأخيراً إشعال فتنة
أزهقت فيها الأرواح ودمرت فيها البلاد. لقد رأى المثقف العلماني - بغباء أو
تغابي أن الطريق إلى النهضة وتحريك الأمة وصد غارات المستكبرين، ليس إلا
طريقاً واحداً أو بوابة واحدة، هي بوابة الشيطان وآياته.
- الشيء نفسه أو قريب منه قام ويقوم به العلمانيون والشيوعيون في مصر
الآن، حيث أصدر العلماني النصراني (غالي شكري) ملفاً كاملاً في مجلة (القاهرة) أه م مجلة ثقافية مصرية الآن، أرش مجهولون) رئاسة تحريرها إلى نصراني علماني مشبوه، تاريخه حافل بروائح العفن الصحفي والسياسي والفكري، من أول اشتغاله بمجلة (حوار) التي كشف النقاب عن تمويلها مباشرةً من
(المخابرات الأمريكية) ، الصحفي وليد أبو ظهر في (الوطن العربي) [*] هذا
المشبوه، دون غيره من مثقفي مصر، يوكل إليه رئاسة أخطر مجلة حكومية ثقافية والرجل كان عند الظن به، فأصدر ملفاً في المجلة، عن (التنوير) جعله كله للدفاع عن سلمان رشدي، وعن نظير له محلي، يُدعى (نصر أبو زيد) وحاول المشبوه أن يقنع أسياده بأنه - هو والنصراني العلماني - ينور الشباب المسلم ويجذبهم إلى (الاستنارة والعقلانية) بعيداً عن التطرف الإسلامي والأصوليين.
- التحالف الشيوعي العلماني في مصر، يتوسد الآن معظم المنافذ الإعلامية
والثقافية الرسمية، وفي زفة مواجهة التطرف الديني، وضعوا خطة (للتنوير) كان
قوامها إعادة طبع ونشر كتابات (السلف العلمانيين) التي كتبت منذ مائة عام أو
يزيد لقاسم أمين وعبد الرحمن الكواكبي وأحمد لطفي السيد ورفاعة الطهطاوي
وعلي عبد الرازق وأيضاً (سلامة موسى) وكان الأمر ليس مثيراً للدهشة أن يوكل
أمر هداية الشباب المسلم إلى نصراني مصري فما بالك إذا كان من نمط سلامة
موسى، الذي يحمل كل احتقار ورفض لكل ما يمت إلى العرب والمسلمين بصلة؟
- في مصر الآن حركة غريبة ومفاجئة، بقدر ما هي مثيرة للفرح والبشر،
وتلك هي توبة نفر من الرموز الفنية الكبيرة والشهيرة - ولا سيما الفنانات -
ورفضهم التمثيل جملة وتفصيلاً، وإعلانهم البراءة من هذا الوسط المتعفن، والتزام
الفنانات منهن بالحجاب والطهر، واشتغال العديد منهم ومنهن بالدعوة إلى الله،
خاصة في أوساط الشرائح الاجتماعية المترفة وفي أوساط النساء، هذه الظاهرة
التي يفرح لها وبها كل مؤمن أثارت حقداً مريراً، وغيظاً طافحاً، في نفوس رموز
الثقافة العلمانية، ليس في مصر فقط، بل في أنحاء كثيرة من البلدان العربية، وقد
قاد التحالف (العلماني/الشيوعي) وأذناب الغرب، قادوا حملة تشويه بشعة ضد
هؤلاء التائبين وبخاصة التائبات، وقد روجوا إشاعات عديدة عنهن، منها
حصولهن على مبالغ مالية طائلة من بعض الأثرياء لكي يعتزلن الفن، ومنها الغمز
بأنهن مريضات وقد ضعفت نفوسهن أمام المرض، ومنها القول بأنهن تبن عن
(انحرافات شخصية) وليس عن التمثيل والوسط الفني، وكان الوسط الفني هو
المجال الطاهر والمطهر والنزيه الشريف الذي زاد طهراً ونقاء بخروج هؤلاء
المنحرفات عنه.
هذا بالرغم من أن رائحة العفن في هذا الوسط هي من الانتشار والذيوع إلى
الحد الذي يستحيل على عاقل إنكاره أو تجاهله، ولكن الثقافة العلمانية وأذناب
الغرب في ديارنا أَبوا إلا أن يقولوا ما قال المجرمون في الزمن القديم:
[أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ] .
وعبثاً في هذا الخضم المظلم أن تسألهم عن الحرية الشخصية، وحقوق
الإنسان! .
- هذه الحادثة تذكرنا بما وقع في الأردن منذ أشهر قليلة، عندما هاج
العلمانيون وماجوا، وندبوا التحضر والاستنارة، لأن قراراً صدر بالفصل بين
الجنسين في حمامات السباحة حتى لا يرى الرجال والنساء بعضهم بعضاً عرايا،
واعتبروا ذلك ردة حضارية، وعودة إلى (القرون الوسطى) أي والله هكذا قالوا.
- هناك - أيضاً - قضية المجاهدين العرب في أفغانستان، وهي قصة من
أروع قصص الجهاد والبطولة في تاريخ العرب والمسلمين الحديث كله، فلما فتحت
ساحات الجهاد في أفغانستان، بعد أن سدّها (المغاوير) على حدود فلسطين،
واعتقلوا كل من تسول له نفسه المساس بأمن إسرائيل، لما فتحت ساحة الجهاد في
أفغانستان هرع الشباب المسلم من العرب وغير العرب يقاتلون في سبيل الله
ويدافعون عن أرض الإسلام، حتى منّ الله عليهم بالنصر المبين، والذي لا يقلل
من شأنه أبداً ما كان أو يكون بعد ذلك من خلاف وشقاق بين الأفغان أنفسهم. المهم
في القضية أن هؤلاء المجاهدين، في مجموعهم ساخطون على حكومات بلدانهم،
ومعارضون لسياساتها ونهجها، ومن جهة مقابلة، خافت بعض هذه الحكومات من
عودة هؤلاء المجاهدين، وقيامهم بأعمال عنف، وهم على كفاءة قتالية عالية،
فوقعت هذه الموجة العارمة من التحذير من هؤلاء (الأفغان) ، وركب العلمانيون
الموجة، وتوطنت ثقافة التخريب في جروح المجتمعات، لتعمق الجروح، وتعزز
الأوجاع، وتوسع نطاق الفتنة، إضافة إلى هذا الانحطاط العجيب في (الحديث عن
هؤلاء المجاهدين، بجعلهم عملاء لأمريكا، أو عملاء لباكستان أو مجرد مرتزقة،
وبعد أن كانت مثل هذه الشتائم وقفاً على الشيوعيين العرب العميل المعتمد للاتحاد
السوفيتي سابقاً، أصبح الأمر مشاعاً واجتذب سوق الشتائم السياسية ليبراليين
وقوميين ومحافظين وغيرهم.
إن الحقيقة التي سجلها التاريخ واعترافات الشرق والغرب بروعة هذه الملحمة
التي شهدتها أرض أفغانستان إنما تنطق بمعنى واحد لسياقنا الحالي وهو: أن شسع
نعل أحد هؤلاء المجاهدين العرب لو مسح بوجه علماني من هؤلاء الموتورين
لطهره، وما كنا لنتوقف عند هذه الترهات لثقافة العلمانية، لولا ضرورات السياق
لتسجيل مشاهد على أزمة المثقفين في ديار الإسلام.
- وأخيراً - نذكر- من مُلح مواقف وتصريحات المثقفين العلمانيين - ما
صرح به من سمي (الأمين العام لحزب التجمع الوحدوي التقدمي) المصري، وهو
أكاديمي ورمز شيوعي سابق تداولت الصحف اسمه في أعقاب فضيحة نشر وثائق
المخابرات السوفيتية فيما يتعلق بالرواتب التي كانت تدفعها الـ (كي جي بي)
للتقدميين المعروفين في العالم الثالث.
الرجل زار تونس منذ وقت ليس بالقصير، وقد أعلن عبر أجهزة الإعلام
التونسية أنه يطالب بجعل يوم تولي الرئيس (زين العابدين بن علي) للسلطة في
تونس (يوم عيد) ليس عيداً تونسياً وحسب، بل عيداً للعرب جميعاً.
وسبب ذلك أنه - في نظره - نجح في قمع الأصولية في بلاده! ..
(*) لقد سبق الصحفي والكاتب المعروف (محمد جلال كشك) أن كشف هذا الأمر في مجلته السابقة الشعب والأرض) - البيان -.