للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الورقة الأخيرة

تأملات في المسألة الكلنتونية

عبد العزيز عبد الله الحامد

إن إيقاف أكبر مسؤول في أعظم دولة للمساءلة في تهمة شخصية، يُعَدّ

(مفخرة) للشعب الأمريكي على شعوب العالم، أما أن تزداد شعبية هذا الرئيس

المتهم بعد تلك المساءلة، وبعد ثبوت التهمة عليه، فهذا يجعل من الأمريكيين

(مسخرة) أمام العالم!

إن ما دار ويدور في الولايات المتحدة الأمريكية بسبب فضيحة (مونيكا

لوينسكي) يجعل المرء يقف مشدوهاً مدهوشاً أمام حقائق كثيرة ماثلة، تبعث على

التأملات التالية:

* قيم بلا قيمة: عندما يطالبنا علماء الاجتماع في الغرب، بأن نعترف بأن

(القيم) الحضارية للغرب هي النموذج الأمثل لسعادة الإنسان، فإنه يحق لنا أن

نطالبهم بالمعايير التي يزنون بها تلك القيم، بعد أن بدأت حقيقتها تظهر بغير خفاء، بعدما فضحتها تقارير (ستار) !

* حرية الفرد ... حرية الشعب: رأينا الحرية الشخصية (المطلقة) في

الغرب، تُطلق إلى حد التحول إلى حرية ملايين البشر في (التمتع) بهتك الأستار

وفضح الأسرار، فلأجل (حرية) الشعب الأمريكي في أن يعرف الحقائق (كاملة) ،

انطلقت جيوش التجسس والتحسس والتلصص لفضح (الرئيس) على الهواء، في

أعمدة الصحف وأروقة القضاء ... وارتفع كلنتون عالياً في فضاء الفضائح،

محمولاً على ساعد تمثال (الحرية) ... ليكون شعلة تحرق الحضارة الأنجلوسكسونية

الإباحية المادية.

* السقوط من القمة: البشرية لم تتعود من قبل سماع لقب (الرجل الأول في

العالم) ، ولكنها ألِفَت أن تسمع عن كلنتون هذا اللقب، ومع هذا، فلا يبالغ من قال

إن البشرية لم تسمع عن فضيحة (متلفزة) بهذه الضخامة والانتشار، وصدق رسول

الله -صلى الله عليه وسلم-، إذ يقول: (حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا

إلا وضعه) [١] .

* الستار الفاضح: إذا ساء حظ ابن آدم، ورفع عنه الستر الإلهي، فلا مفر

من شقائه، ولو كان أقوى وأقنى وأغنى البشر؛ فقد يجعل الله ضعفه في قوته،

ونقصانه في سلطانه. ومهانته في وجاهته ... ومن أراد الله هتك ستره؛ لم تُجِنّه

أستار الدنيا، ومن عجائب الأقدار، أن نسمع عن (فضيحة كبرى) عنوانها (ستار) !

* عندما تعمى البصيرة: قد نفهم أن الإنسان يصيبه عمى القلب، حتى

يصبح كفيفاً في بصيرته ولكن عمى البصيرة في أمة بأكملها حتى تفضل قيادة

العميان لها، فهذا أشبه بالاستدراج والإملاء ... فأين العقلاء في أمم تؤله العقل؟

* لا مسؤولية للمسؤول: وُضع كلنتون في أخطر مواقع المسؤولية الدولية،

ففي صلاحياته شن الحرب وفرض السلام في العالم، وتحت تصرفه التحكم في

الترسانات النووية المدمرة، والكيماوية والبيولوجية الرهيبة، ولكن رجلاً قال أطباء

النفس إنه (مريض) حتى إنه لا يستطيع التحكم في نزواته، كيف يمكن أن يتحكم

في أزارير الأجهزة الجبارة التي يمكن أن تؤدي إلى دمار شامل؟

* ديمقراطية الذئاب: أشاحت الديمقراطية (الأمريكية) بأستارها عن وجه

قبيح خلال تلك الأزمة، وأسفرت عن تصارع شرس بأساليب منحطة بين الحزبين

الديمقراطي والجمهوري، حتى برز مصطلح (حرب الفضائح) وأصبح التكالب

على السلطة هو سيد الموقف في غابة التهاوش والتناهش بين الذئاب.

* غانيات اليهود في بلاط السلاطين: من تأمل في حكاية (مونيكا) اليهودية،

يتأكد أنها لم تكن مجرد مغامرات لفتاة لعوب مع كهل مراهق، ولكنها قصة تلك

الغانيات اليهوديات التي تكررت عبر العصور داخل القصور للإيقاع بأشباه الرجال؛ فالبيت الأبيض الذي تلطخ بسموم تلك الأفعى الملساء، لم يشهد مجرد نزوات

عابرة لرغبات طائشة، ولكنه شهد خطوات مبرمجة، ومخططات مدونة ومحددة

باليوم والساعة واللحظة.. وقد شهد على هذا التدبير، حروف وكلمات (مونيكا) في

المذكرات.. أو قل (التقارير) التي قدمت لـ (ستار) .

* عقولهم في جيوبهم: الشعب الأمريكي لا يزال حسب استطلاعات الرأي

متمسكاً بزعامة كلنتون رغم كل ما جرى، لماذا؟ لأن الرجل حر في حياته

الشخصية هذا من ناحية، ثم إن الاقتصاد الأمريكي قد تحسن في أيامه، إذن

فلتخرب القلوب ما دامت الجيوب عامرة!

* إرهاصات السقوط: ليس الرئيس الأمريكي (كلنتون) هو أول الزعماء

تورطاً في الفضائح الأخلاقية، ولن يكون آخرهم، فقد يسقط أو لا يسقط، ولكننا

على يقين بأنه قد دشن مرحلة السقوط لحضارة المجتمع الأمريكي والأوروبي

(المتمدن) . وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما أنبأ من قوله: (وما

شاعت الفاحشة في قوم قط، حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم

تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا) [٢] .

فما أعظم الإسلام، وما أجدره بقيادة البشرية البائسة في عصر التشرد

الأخلاقي والتفرد الأمريكي ...


(١) أخرجه البخاري ح (٢٨٧٢) ، فتح الباري (٦/٨٦) .
(٢) أخرجه ابن ماجة في الفتن (٤٠١٩) وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة ح (١٠٦) .