للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ملفات

[الأسرة المسلمة في معركة القيم]

د. محمد خروبات [*]

* مقدمة:

يسعى النظام الدولي الجديد إلى أن يجعل شعوب العالم الإسلامي غريبة عن

منطقتها، سواء على مستوى اللغة، أو على مستوى الحضارة، أو على مستوى

التقاليد، أو على مستوى التاريخ. فقد جعل هذا النظام حضارته هي أحسن حضارة،

وسعي إلى إبرازها بمظاهر مغلفة ببريق التقدم، والتطور، والعقلنة،

والتكنولوجيا، والازدهار. وقد تأتى له في سبيل ذلك أن يدفع بلغته إلى أن تحتل

الصدارة العظمى، وتصبح هي لغة الحضارة والعلم والتقنية. وقد تكالبت الجهود

على تعليم لغته، وعلى إشاعة التحسر دون ضبطها وابتلاع مقولاتها! أما حاملوها

فقد تحركوا بها في خيلاء وغرور، يكونون بها (الإنتلجينسيا) الواعية والراقية،

بالفهم والعلم! وقد تبع هذا كله أن أصبحت التقاليد والأعراف يسودها تباين كبير.

فقد تمكن هذا النظام من فصل الإنسان العربي والمسلم عن تقاليده، وأنماط عيشه

المألوفة؛ بحيث شكّل زيَّه، وكوَّن ذوقَه، وفرض عليه نوعاً من التصرفات، في

إطار العلاقات الاجتماعية المحلية! بحيث أصبح كل موروث قابلاً للنقض، بل

للاستهزاء أحياناً! وفصم الإنسان عن ماضيه فصماً مدهشًا!

إن النظام الدولي الجديد هو استمرار، وتكريس لعدوانية قديمة، بين العالم

الإسلامي والعالم الغربي، تُرجمت اليوم في فوضى مطبقة! فوضى النماذج السيئة،

والمقولات الجوفاء، المغلفة بشعارات السلام والأمن، وتحقيق التنمية للعالم أجمع،

التنمية التي تبتلع كل مقومات الشعوب الحضارية! والضحية في النهاية هو

الإنسان المسلم. وبيان ذلك هو كما يلي:

* إنسان الأسرة:

الأسرة هي الخلية الأولى في المجتمع، هي نواته الصغرى التي تقوم عليها

كيانه، وأي خلل يصيب الأسرة ينعكس على المجتمع سلباً، وأي صلاح وصواب

يمس الأسرة إنما يعود على المجتمع بالإيجاب، لذلك فتقدم مجتمعٍ ما رهين بسلامة

الأسرة فيه، وتخلف مجتمع ما وانحطاطه رهينان بفساد الأسرة فيه.

لقد اهتم الإسلام بـ «المجتمع» في أسرته، واهتم بـ «الأسرة» فيه،

فقعّد قوانينها وأرسى دعائمها على أسس مستقرة ثابتة ورصينة، وشرع الزواج

كوسيلة لوجودها، واهتم به بأن جعل أصله ميثاقاً يربط جميع الأطراف، وحدَّد لهم

حقوقاً وجعل عليهم واجبات.

مرَّ المجتمع ومرَّت الأسرة معه بأدوار وأطوار تاريخية، يهمنا أن نقول عنها

إنها كانت «مشرقة» ، لكن اليوم وأمام التردي الذي وقع فيه المسلمون، والتخلف

الذي جنوه لأنفسهم، أمام هذا كله ينهار الإنسان يوماً بعد يوم، وتكثر التحديات

ساعة بعد أخرى، وتتعدد الأزمات وتتفاقم، لذلك أولينا العناية لهذه التحديات

بصفتها تحديات جارفة تمس الأسرة في جميع أطرافها: الأب والأم والطفل، بحثنا

أنواعها وألوانها، أقسامها وتياراتها، عارضين لأعلامها وبناة حقلها، معرجين

على أصولها ومصادرها، راصدين لمناهجها وطرق عملها، متوقفين عند الغايات

التي تنشدها والمرامي والأهداف التي تقصدها.

إنها تحديات خارجية وداخلية، حضارية وتربوية وقانونية، تتطلب يقظة

شاملة ووعياً كاملاً، ولا يتحقق ذلك إلا بالاعتصام بالمقومات وبالمبادئ والأصول

مع العمل المشترك الناجح والتربية الهادفة: [وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ

الكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ] (آل عمران: ٧٩) .

نعلم أن الأسرة مفهوم مشترك بين جميع الأطراف، الكل اليوم يتكلم عن

الأسرة: يسار ويمين، شرق وغرب، نساء ورجال.. وهذا يبين ما يلي:

أ - أن وضع الأسرة غير طبيعي. حينما يكثر الكلام على قضية ما ويشتد،

فليُعلم أن في القضية إشكالاً ما؛ إما لها أو عليها.

ب - أن الموضوع المتكلَّم فيه هو خاصية مشتركة بين الجميع، خاصية

موحدة على مستوى البحث والدرس والكلام، ومن ثَمَّ تتأكد أهمية الأسرة لدى

الجميع.

ج - أصبحنا اليوم أمام موضوعَيْن لا موضوع واحد، موضوع الأسرة

كمجال للبحث، وهذا (الكلام) المتعدد والمتلون والذي أصبح هو في حد ذاته عائقاً

أمام التوصل إلى نتيجة سليمة في موضوع (الأسرة) حين يتحول من موضوع إلى

موضوعات بحثٍ؛ تتضاعف الأزمة وتتركب.

ليس من المهم عندنا على الأقل في هذا البحث الكلام عن الأخطار التي تهدد

الأسرة في هوائها وأكلها وشربها وأثاثها ولباسها وأواني بيتها.. لكن المهم عندنا هو

أن ننبه إلى الأخطار التي تهددها في (إنسانها) ، حيث يستل الإنسان منها لتُضْفَى

عليه حلل جديدة من النعوت والأوصاف، يراد لهذه النعوت والأوصاف أن تكون

حقيقة، وأن تتجذر بقوة في الوعي وفي اللاوعي، ويتبع ذلك كله بتحليلات

ودراسات وأبحاث بأرقام وقياسات رياضية وهندسية معززة بصورة ومزكاة من

مناهج العلوم الإنسانية والطبيعية.. هذا كله ليصبح إنسان الوصف الجديد على

استئناس كامل بما يُقدَّم له وعليه.

تأتي الجغرافيا لتتكلم عن إنسان البيئة والطبيعة، ويتكلم الاقتصاديون عن

إنسان المال والأعمال، ويتكلم السياسيون عن إنسان السياسة والدبلوماسية، ويتكلم

السوسيولوجيون عن إنسان المجتمع، ويتكلم الفلاسفة عن إنسان النظر والتأمل،

ويتكلم الأدباء والشعراء عن إنسان الكلمة والخيال، ويتكلم الفنانون عن إنسان

الإبداع والابتكار، وتتكلم العلوم الطبيعية عن الإنسان الطبيعي الذي هو جزء من

الطبيعة كما يتكلم القانونيون عن إنسان الديمقراطية، والإداريون عن إنسان الإدارة

والتسيير.. هكذا يجزأ الإنسان إلى أشلاء وأطراف لا رابطة بينها، وتتيه

خصوصيته وسط ركام من الكلام، قد يحقق هذا شيئاً حضارياً ما للإنسان، لكن

أخطر ما يحققه له هو عدم إرجاع عنصر (الإنسانية) للإنسان أو توجيه الإنسان

إلى إنسانيته.

هذا كله لا يوجد فيه عيب من حيث المظهر، لكن العيب المركب حين تصاغ

هذه النعوت والأوصاف بفلسفة من مرجعية غريبة، ومن أيديولوجية خارجية لها

طموحاتها الخاصة، ومطامعها الخاصة، وأهدافها الخاصة التي تصوغ الإنسان

على وفق مصالحها ومطامحها.

فإنسان الديمقراطية مثلاً هو الإنسان المخلص للمواثيق العالمية والقرارات

الدولية لحقوق الإنسان، و (الديمقراطية) مفهوم يسري بين اليهود والنصارى

والمجوس، تتحقق بين إنسانهم ولإنسانهم في أسمى صورها، لكنها حين تأتي إلى

إنسان الإسلام تنعكس، ليصبح العمل بنقيض الديمقراطية هو الديمقراطية، ولا

نريد أن نمثل على هذا بشواهد حية عن القوانين الجائرة التي تسحق الإنسان في

بقاع العالم، كما لا نتكلم عن الإملاءات والضغوطات على العرب والمسلمين لسحق

البقية المتبقية من إنسان الإسلام، مع التضييق الشامل والكامل على البقية المتبقية

من المبادئ الإسلامية التي تصوغ الإنسان..

قواعد حقوق الإنسان أصبحت ملزمة على كل من وقَّعَ عليها، وكما يقولون:

من وقَّع وقع، وجرى تطور في الفقه الدولي بما يخدم مصالح الدول الغربية الكبرى

مثل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الكبار، وأصبح لدى هذه الدول مصالح

انتقائية وازدواجية تجاه الآخر، وأصبح التركيز على (المجتمع الديمقراطي)

وعلى (إنسان الديمقراطية) و (حقوق الإنسان) أكثر فأكثر، وتجزأ ذلك، وأخذ

أبعاداً أخرى؛ من ذلك أنه اتخذ سلاحاً ضد كل محافظ على هويته، وكل (عاق)

لهذا النموذج العالمي المتسلط، ولم يعد الكلام على النظر فيما يخالف المبادئ

والخصوصية في غالبية كل بلد مسلم، بل انعكست الحالة إلى النظر فيما يتخالف

مع القانون الدولي وما جرى التوقيع عليه، فما خالف هذه القوانين يجب تعديله أو

تغييره أو تحويله ... وما يوجد اليوم من هزات في ثوابت المجتمع، مثل التعليم

والتربية والتكوين وحقوق الإنسان دليل حي على ما نقول:

هكذا استُلَّ الإنسانُ من (الأسرة) ؛ ليصبح إنسان (المؤسسات) ! يستأنس

بالمؤسسة العسكرية كانت أو مدنية ... هكذا أريد له أن يُعزل عن خليته ليصاغ

صياغة جديدة، ويُربى تربية أخرى، ويُوجَّه توجيهاً آخر، وقد نجحت الدولة

الوطنية في العالم الإسلامي في إضعاف دور الأسرة في مجال بناء الإنسان لتتولى

المؤسسات بناءه؛ بما يتوافق مع رغبات الحاكم وتطلعات الحضارة المعاصرة،

وهذا كله يتماشى مع مصالح الدول العظمى ...

آن الأوان لأن نتكلم عن (إنسان الأسرة) ... وآن الأوان أن نتحدث إلى

إنسان الإسلام ليكون إنسان الأسرة أولاً، مخلصاً لتربيتها وتوجيهها ... وفياً

لمصالحها ومطامحها؛ لأنه من الأسرة يكون المجتمع، ومن المجتمع تكون الدولة،

ومن الدولة تنشأ المؤسسات.. ولا معنى لنقل الإنسان هذه النقلة العشوائية.

إذا تكلمنا عن (إنسان الأسرة) ؛ فلا يعني هذا الوقوع في متاهات الكلام

السطحي المجرد، بل يعني الكلام عن الأسرة كما أرادها الإسلام للإنسان، لا

الأسرة التي يريدها (النظام الدولي الجديد) للإنسان.

* الأسرة وتحديات العلوم والمعارف:

يحتضن المجتمع الإسلامي من الأمراض الشيء الكثير، ولكي يكون البناء

سليماً ينبغي بيان هذه الأمراض، وبيان الوسائل المؤدية إليها، ومن ثَمَّ العمل على

علاجها، وأقوى هذه الأمراض هي في الناحية المعرفية والإنتاجية، ووسائلها هي

العلوم والمعارف؛ بما فيها العلوم التي يطلق عليها (العلوم الإنسانية) ، والأخرى

التي تنعت بـ (العلوم الطبيعية) ، وقد جلب كل هذا تحت وابل من الشعارات

الكاسحة باسم العلم والتطور والتقدم والعصرنة، وباسم الاندماج في العولمة وفي

النظام الدولي الجديد.

ويبدأ التحدي الكبير بالنسبة للأسرة المسلمة في الكلام عن قانونها وأحوالها

الشخصية.

وبما أن هذا القانون مستمد من الفقه الإسلامي، كان التوقف عند الشريعة

الإسلامية طويلاً، فقد وُجِّهت إليها مناهج عصرية تستخدم أدوات جديدة في الفهم

تتماشى مع طبيعة التفكير الغربي وطموحاته الاستعمارية ورغباته الاستعلائية

المدمرة لكل كيان محترم، وهكذا بدأت أول حملة على شريعة الإسلام على يد

جماعة من الباحثين الأكاديميين أوجدتهم الدول الوطنية في الغرب لغرض فهم الآخر

وتقريبه، وفي مرحلة أخرى للتشويش عليه وتشويه صورته، هؤلاء هم الذين

أطلقوا عليهم صفة (مستشرقين) ، كان أول ما فعلوه هو التشويش على مصادر

الشريعة: القرآن والسنة، فالقرآن عندهم هو كلام بشري لا إلهي، والسنة النبوية

لا قدسية لها لا في التشريع ولا في العبادة [١] . وهكذا جنَّدوا أنفسهم لدراسات

مدخولة عن الأحكام الشرعية، واختلفت أبحاثهم كماً وكيفاً، فمنهم من باشر

موضوع الأسرة وأحوالها في دراسة مستقلة، ومنهم من تكلم عليها في سياق أبحاثه

عن الفقه الإسلامي بصفة عامة، كما اختلفوا من جهة الأحكام فمنهم من بالغ في

النسف وتشدد في الحكم، ومنهم من اعتدل وتوسط، نذكر من ألمانيا «جوزيف

شاخت» (schacht Joseph) ١٩٠٢ - ١٩٦٩م، الذي اهتم في إنتاجه

بالفقه الإسلامي؛ بتحقيق عدة نصوص والتعليق عليها، وبخصوص الأسرة في

الإسلام نشر مقالات كثيرة في الميراث والنكاح والطلاق وأم الوليد والوصية، وكلها

كانت في سنة ١٩١٤م [٢] .

وجاء بعده «إروين كريف» (Grof Erwin) ١٩١٤ - ١٩٧٦م، وهذا

المستشرق كان اهتمامه بالفقه الإسلامي بصفة عامة، فله بحوث عن الأسرة المسلمة،

نذكر منها البحث الذي أصدره بعنوان: «النظرة الجديدة إلى الأسرة المسلمة في

التشريع الإيراني الحديث الخاص بالزواج والطلاق والميراث» . وهذا البحث

نشره عام ١٩٦٦م، رام فيه التوسط تارة والانحراف تارة أخرى. وذلك حين

تساءل قائلاً: «كيف يمكن أن يقوم تصور للأسرة المسلمة الحديثة؟» فأجاب:

«إذا كان للمسلم أن يبقى على هويته؛ فلا ينبغي له أن يتحرر من المصادر الفقهية

الشرعية، إن الشريعة الإسلامية ليست قوة معادية للحياة، بل ينبغي اكتشافها من

جديد لمواجهة الحياة الجديدة، وأن تتكيف بواسطة التأويل وقياس النظير» [٣] .

وفي سنة ١٩٦٧م أصدر بحثاً آخر تحدث فيه عن تنظيم النسل وتحديده من

منظور الشريعة الإسلامية، سمّاه: «موقف الشريعة الإسلامية من تنظيم النسل

وتحديد النسل» .

ومن فرنسا نذكر «ليون برشي» (Bercher Lion) ، ١٨٨٩ -

١٩٥٥م، الذي ترجم كتاب (الرسالة) لابن أبي زيد القيرواني، وعلق عليها

باللغة الفرنسية، وكان تركيزه على أحكام الأسرة وأحوالها متميزاً جداً [٤] .

ومن إنجلترا نذكر «وليام جونز» (١٧٤٦ - ١٩٧٤م) ، وهو مستشرق

بريطاني وفقيه قانوني، مكَّنه فضوله العلمي وتوجيهه الاستشراقي إلى إنجاز

كتابين؛ أحدهما بحث فيه نظام المواريث في الإسلام، عنونه بـ «المواريث في

الشريعة الإسلامية» ، وهذا البحث أنجزه عام ١٧٨٢م ونشره عام ١٧٩٢م، ونشر

ترجمة لموجز في المواريث بحسب مذهب الشافعي، عنونه بـ «بغية الباحث عن

جُمل المواريث» [٥] .

ومن هولندا نذكر «تيودور يونبول» (١٨٦٦ - ١٩٤٨م) ، الذي أصدر

كتاباً بعنوان: «المدخل إلى معرفة الشريعة الإسلامية بحسب مذهب الشافعي» ،

صدرت الطبعة الأولى منذ سنة ١٩٠٣م، والطبعة الرابعة سنة ١٩٢٥م، وهذا

الكتاب ترجمه «أرترشاده» (ArturSchaade) ١٨٨٣ - ١٩٥٢ م، إلى

اللغة الألمانية عن أصله الهولندية وقد استند فيه إلى منهج «إسنواك هرخرونيه»

(Hurgyonje Snoock Christian) ١٨٥٧ - ١٩٣٦م، المستشرق

الحقوقي والقانوني المشهور، فقدّم عرضاً نقدياً لمصادر التشريع الإسلامي، ثم

عرض خصائص التشريع الإسلامي موزعة على أبواب كثيرة، نذكر منها ما له

صلة بأحكام الأسرة المسلمة؛ مثل قانون الأشخاص والأحوال والمواريث.

و «تيودور يونبول» هو تلميذ للمستشرق الهولندي المشهور «دي خويه»

(١٨٣٦ - ١٩٠٩م) .

لقد حصل «يونبول» على شهادة الدكتوراه في قسم الاستشراق برسالتين لا

بد من الإشارة إليهما في هذا السياق، الرسالة الأولى بعنوان: «القواعد العامة

لمذهب الشافعي في الرهن، مع بحث عن نشأته وتأثيره في الهند الهولندية» ،

صدرت هذه الرسالة عام ١٨٩٣م، والمقصد واضح من العنوان، إنه بحث

استعماري يحّول الهند من الإسلام إلى هولندا، ولكي تتحول لا بد من معرفة سر

دخول فقه الإمام الشافعي إلى هذا البلد، ومقاصد الرسالة الثانية لا تبتعد كثيراً عن

هذا المغزى، لقد جاءت بعنوان: «الارتباط التاريخي بين المهر في الإسلام وبين

الطابع القانوني للزواج في الجاهلية» ، طُبعت هذه الرسالة في ليدن عند الناشر

بريل سنة ١٩٨٤م في ٩٦ صفحة باللغة الهولندية.

فالبحث عن قرائن الزواج وأماراته بين ما كان عليه في الجاهلية وما عليه

الحال في الإسلام؛ يجعلهم يُصدرون أحكاماً على قانون الأسرة المسلمة وقانون

أحوالها الشخصية؛ بأن طابعها مأخوذ من العصر الجاهلي ومن التشريعات السابقة

[٦] .

* خصائص الدراسات الاستشراقية حول الأسرة:

إن أهم ما يطبع الدراسات الاستشراقية لقانون الأسرة في الإسلام هو ما يأتي:

أ - التفسير المنحرف للنص، وهذا التفسير تارة يتماشى مع الظاهرية

الحرفية، وتارة مع الباطنية المغرقة في الباطن، وتارة وفق هوى الذات والمصلحة،

وتارة أخرى يكون نتيجة لتطبيق منهج معين يفضي إلى رؤية غير سليمة،

فالتفسير الاستشراقي لنصوص الأحكام التشريعية بصفة عامة ولأحكام الأسرة بصفة

خاصة؛ هو تفسير متلون متقلب، ليست له معايير دقيقة وثابتة يمكنك محاكمته من

خلالها.

ب - عزل الأحكام عن مقاصدها أو تأويل ما لأجله وُجدت، وهذا كثير في

دراستهم وأبحاثهم، فالمقاصد التي راعاها الشارع الحكيم في تكوين الأسرة وفي

تنظيمها تصبح مقلوبة رأساً على عقب [٧] ، فقوامة الرجل على المرأة عندهم هو

تفوّق يضع الرجل في القمة والمرأة في الحضيض، وطاعة المرأة زوجها فيما

يرضي الله ورسوله هي إذلال وخنوع وركوع، وعدم قبول المسلم والمسلمة لولاية

الأجنبي يعكس عدم التعاون مع الشعوب الأخرى، ويعكس الجمود والانغلاق وعدم

التفتح على المحيط، ويفسر عدم زواج المسلمة غير المسلم من الغربيين عنصرية

تمت بدافع العصبية الكريهة أو بدافع الغرور والعنجهية.. وهكذا [٨] .

ج - الإسقاط في التفسير والتعسف في التحليل، حيث تعطى لبعض الأحكام

الشرعية تفسيرات مستمدة من أصول يونانية ورومانية وسريانية ويهودية ومسيحية،

فـ «بودلي» يقرر أن الحجاب كان معروفاً عند اليونان، ويعادل بين تحجب

المرأة اليهودية وسفور المرأة العربية في الجاهلية ليحكم بأن زي الحجاب في

الشريعة الإسلامية اقتُبس من التشريع اليهودي، وذلك لأسباب شخصية تتعلق

بقضايا زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا إن مقارنة بسيطة بين الشبهات

التي أثارها المستشرقون حول التعدد والحجاب وميراث المرأة وقوامة الرجل

والولاية في الزواج والمهر والصداق وغير ذلك، وما يثار اليوم باسم إدماج المرأة

في التنمية وحرية المرأة؛ يبين أن المستشرقين هم الأساتذة الفعليون في هذا

الموضوع، فما تداولوه بالبحث والدرس في الماضي أصبح هو العمدة في لائحة

المطالب، وهي مطالب ترفعها النخبة المثقفة بالثقافة الغربية الحديثة.

وقد نجح المستشرقون في التأثير في أجيالنا بثلاثة عوامل رئيسة، وهي:

العامل الأول: أنهم حلوا أساتذة مدرسين في جامعات العالم الإسلامي، وعلى

أيديهم تربت أجيال من النساء والرجال، وسار في فلكهم كثير من الكتاب والباحثين

العرب المحدثين في مطلع هذا القرن، وتجسدت تلك الشبهات في كتابات من جنس

عربي أُرِيدَ لها أن تشتهر وتنتشر، وأُرِيدَ لها أن تترجم إلى اللغات الأجنبية لتعكس

وفاءها للتقدم وإخلاصها لروح ثقافة العصر، وأصبحت تلك المؤلفات والكتابات

محط أنظار الجيل الذي تلا الجيل السابق، فدفع بها إلى الدرس الجامعي والأكاديمي،

وكثير منها حصل على الجوائز الفخرية وطنية ودولية.. هكذا وقت التسابق إلى

نوع معين من الثقافة التي بدأت في اكتساح الثقافة الأصلية، ثقافة الذات

والخصوصية، بل تطاولت هذه الثقافة تحت ضغوطات سياسية دولية وأخرى

أيديولوجية محلية؛ من أجل أن تتبوأ الصدارة في التعليم والتكوين والتربية، بل

أعيد إصلاح التعليم على وفق مقاصد وأهداف تلك الثقافة.

والعامل الثاني: أنهم لقنوا أجيالاً كثيرة من الطلبة الوافدين على الجامعات

الغربية، وهذا كان له أثر بليغ في ترويج الشبه ونشر أيديولوجيا الاستعمار الحديث،

وأعطت الدولة الوطنية الأسبقية في التوظيف لحملة الشهادات الغربية، فتمركزوا

في المناصب العليا، وعُهد إليهم تقرير مصير الثقافة في البلد، ولا أدل على ذلك

في مشروع الخطة التي وضعتها كتابة الدولة في المملكة المغربية المكلفة بالرعاية

الاجتماعية والأسرة والطفولة تحت اسم «مشروع خطة العمل الوطنية لإدماج

المرأة في التنمية» في مارس من سنة ١٩٩٩م، وهي خطة علمانية في جوهرها،

وفيها مخالفة صريحة لأحكام الشريعة الإسلامية، وهي لا تخفي مساهمة البنك

الدولي فيها، وقرارات مؤتمر بكين.

وهذا يبين أن ما تكلم عليه المستشرقون كثقافة أصبح اليوم مشاريع عمل تقف

وراءها هيئات ومنظمات دولية وأحزاب وجمعيات وشخصيات وطنية (لامعة) ،

عبّر عن هذا الأستاذ إدوارد سعيد فقال: «والنتيجة المتوقعة لهذا هي أن الطلاب

الشرقيين والأساتذة الشرقيين ما يزالون يريدون الحضور إلى الولايات المتحدة

والجلوس عند أقدام المستشرقين الأمريكيين، ثم العودة فيما بعد لتكرار القوالب

الفكرية (الكليشهات) التي ما فتئتُ أسمّيها مذهبيات جامدة استشراقية على مسامع

جمهورهم المحلي. ونظام إعادة إنتاج كهذا يجعل من الحتم أن يستخدم الباحث

الشرقي تدريبه الأمريكي ليشعر بالفوقية على أبناء وطنه؛ لأنه قادر على تدبر

(النظام) الاستشراقي وفهمه واستخدامه؛ إما في علاقته بمن هم أسمى من مكانه

المستشرقون الأوروبيون والأمريكيون؛ فإنه يبقى المخبر الذي ينتمي إلى السكان

الأصليين وهذا هو بحث دوره في الغرب إذا كان حسن الحظ؛ بحيث يتاح له البقاء

فيه بعد انتهاء تدريبه المتقدم» [٩] .

هذا ما لاحظه الأستاذ إدوارد سعيد، وهو أستاذ اللغة الإنجليزية في الجامعة

الأمريكية، خبير بالوضع الثقافي الأكاديمي، فضلاً عن الوضع السياسي

والأيديولوجي العالمي.

والعامل الثالث: زيادة على ما تقدم فقد عُهد إلى بعض المستشرقين مهمة

وضع قوانين محلية لبعض البلاد الإسلامية التي وقعت تحت السيطرة الاستعمارية،

وهكذا وجدوا الفرصة سانحة في قهر المسلمين بقوانين مفتعلة، نذكر على سبيل

المثال لا الحصر أنه لما احتلت فرنسا تونس عام ١٨٨١م؛ استدعى المقيم العام

الفرنسي المستشرق «سانتلانا دافيد» (SANTILLANA DAVID)

١٨٥٨ - ١٩٣١م، ليكون عضواً في لجنة تكلفت بتقنين القوانين التونسية،

ولمكانة «سانتلانا» وشهرته بالاهتمام بالشريعة الإسلامية؛ كُلّف بوضع مشروع

قانون بحسب الشريعة الإسلامية مرتباً حسب منهج وشكل القوانين الأوروبية،

ومكنته هذه الطريقة في المقابلة بين القانونَيْن المتباينَيْن من الخروج بخلاصات

واستنتاجات بعيدة عن حقيقتهما. وهكذا لبَّى الرغبة الاستعمارية مضحياً بالحقيقة

العلمية، وقد دام عمر هذا العمل زهاء ثلاث سنوات تضمن ما يقرب من ٢٤٧٩

مادة. وإلى «سانتلانا» التجأت الحكومة الإيطالية في وضع التشريعات الخاصة

بليبيا، فكلفته وزارة المستعمرات الإيطالية هو و «انجنتسيو جويدي» بترجمة

وشرح «مختصر الشيخ خليل» في الفقه المالكي عن اللغة الفرنسية إلى الإيطالية،

تكلف «جويدي» بترجمة قسم العبادات، وتكلف «سانتلانا» بالباقي،

وظهرت ضمن مطبوعات وزارة المستعمرات.

لم يكن القانون المتعلق بالأسرة المسلمة يغيب عن هذه الإنتاجات بل كان

جزءاً منها، وأهم مؤلف تميز به «سانتلانا» هو كتابه المشهور «نظم الشريعة

الإسلامية بحسب مذهب مالك مع مراعاة أيضاً مذهب الشافعي» ، صدر الجزء

الأول منه عام ١٩٢٦م وكان في فصوله «الأسرة» . وظهر الجزء الثاني بعد

موته بمدة طويلة، وذلك في سنة ١٩٤٣م، وكان من فصوله «قانون المواريث»

و «قانون التقاضي» ، والكتاب بجزأيه لخص فيه محاضراته في الشريعة

الإسلامية التي ألقاها على طلاب كلية الحقوق في جامعة روما في الفترة ما بين

١٩١٣م و ١٩٢٣م [١٠] .

إذا نحن ابتعدنا عن الدراسات الحقوقية والقانونية بعد أن بيَّنا دورها في

تحوير الوضع القانوني للأسرة المسلمة؛ سنجد أنفسنا مضطرين للكلام عن

الدراسات السوسيولوجية بوصفها من أخطر الدراسات التي استهدفت دراسة الأسرة

في الإسلام من وجوه محددة، فلما كانت السوسيولوجيا هي علم الاجتماع بتعريبنا،

وكانت الأسرة هي نواة المجتمع الإسلامي، كانت قضاياها العامة والخاصة من

أدسم الموضوعات التي اختيرت للبحث السوسيولوجي. ولن نفهم طبيعة النتائج

المحصل عليها في هذه الأبحاث ما لم نفهم طبيعة السوسيولوجيا نفسها،

فالسوسيولوجيا علم استعماري واكب الحملة الاستعمارية على البلاد العربية

والإسلامية، قاده ضباط عسكريون استعماريون وكتاب غربيون وطائفة من

الباحثين العرب المتأثرين بالمفهومات الاستشراقية وبالخطابات الغربية، وتأسس

هذا العلم على يد الدول الوطنية في الغرب، نذكر على سبيل المثال فرنسا لما

فكرت في احتلال المغرب أحدثت هيئة في مدينة طنجة سنة ١٩٠٣م، وهي هيئة

علمية سوسيولوجية اشتغلت إلى غاية سنة ١٩٣٤م، وكان من أهدافها الاهتمام

بالعنصر البربري وتفريقه عن العربي، والاهتمام بالبنيات العتيقة، وإنشاء مجلات

مثل (مجلة إفريقيا الاستعمارية) ، وإحداث مدارس للتسيير الإداري، وأخرى

للتدبيرات والدراسات العسكرية، وأحدث قسم السوسيولوجيا في الإقامة العامة، ولم

يكن تابعاً لإدارة التعليم وإنما كان تابعاً للأبحاث العسكرية العامة، وفرض على

طلبة المدرسة الإدارية تقديم تقرير ذي طبيعة سوسيولوجية حول موضوع اجتماعي

معين، وفي المدرسة العسكرية بمكناس بالمغرب؛ أحدثت قسماً للدراسات

السوسيولوجية، وكانت التعليمات التي تُقدم للمراقبين الاستعماريين تنص على

ضرورة تقديم مساعدات لكل الباحثين السوسيولوجيين.

ومن العسكريين الاستعماريين الذين تحوَّلوا إلى باحثين سوسيولوجيين نذكر

على سبيل المثال (Montagne Robert) في كتابه (البربر والمخزن في

الجنوب) ، ولما طُلب منه أن يلقي دروساً في المدرسة الفرنسية قام بتلخيصه في

كتاب صغير سماه (الحياة الاجتماعية والحياة السياسية للبربر) ، وكان من طبيعة

هذه الأبحاث التركيز على مكونات الأسرة البربرية من جهة الأصل والنسب

والسلطة والعادات والتقاليد والأعراف المميزة، وطبيعة اتفاق الأسر البربرية فيما

بينها في خلية صغيرة يطلق عليها (الإخس) ، ثم اجتماعها فيما يسمى بـ

(الدشر) ، واجتماع (الدشر) فيما يسمى بـ (تقبيلت) ، ثم (الاتحاد القبلي)

كأكبر وحدة بربرية، فـ «روبير مونطاني» يقدم نسقاً اجتماعياً للمجتمع

البربري على هذا الشكل، وهذا منهج تجزيئي يعتمد التفكيك كأسلوب معرفي يقول

عنه إنه بحث علمي ناتج عن البحث السوسيولوجي.

ثم استعان الاستعمار والاستشراق بعلم آخر هو علم الأنتروبولوجيا، يقول

عنه أحد الباحثين: «ولا أوضح على ذلك من التدليل بالجهود التي قام بها

الأنتروبولوجيون في سبيل تسهيل الطريق للسلطة السياسية الحاكمة؛ بتقديم خلاصة

أبحاثهم وحصيلة معرفتهم المتعلقة بكيفية التعامل مع هذا (الآخر) ، لقد آثرت

الأنتروبولوجيا البريطانية منذ بدايتها الأولى أن تقدم نفسها على أنها العلم الذي

بإمكانه تقديم الخدمات النافعة للإدارة الكولونيالية، وذلك لأسباب واضحة؛ أهمها

أن الحكومات الكولونيالية وجماعات المصالح هي أفضل من سيقدم الدعم المالي

لمثل هذا العلم» [١١] .

كانت الأسرة المسلمة بربرية كانت أو عربية أو تركية أو إيرانية موضوعاً

يتكلم عنه في سياق كلي؛ أي أن الأسرة كانت جزءاً من اهتمام السوسيولوجيين

والأنتروبولوجيين؛ لأن الاهتمام في البداية كان منصباً على تفريق الجموع الكبرى،

وقد بدأ هذا بشكل تسلسلي، فالخطوة الأولى هي القضاء على وحدة الأمة

الإسلامية بإسقاط الخلافة سنة ١٩٢٤م على يد مصطفى كمال أتاتورك، وتقسيم

العالم الإسلامي إلى دويلات وأقطار، ثم متابعة الدولة وتقسيمها إلى أن وصل

المسلسل التنازلي إلى الأسرة التي أريد لها أن تُقسَّم هي الأخرى، وأقوى وسيلة

لتقسيمها هو توجيه الأبحاث والدراسات السوسيولوجية والأنتروبولوجية عن الأسرة

في العالم الإسلامي، فالذي نعلمه هو أنها تُعد بالمئات.

واستخدمت في هذه الدراسات أيضاً مباحث في علم النفس، حيث شكلت

الدراسات السيكولوجية سلطة من نوع آخر جعلت المتخصصين في هذا العلم يدّعون

أنهم (خبراء) بخصائص وطبيعة الأسرة المسلمة، وعمداء في فهم نفسية جميع

أفرادها، وها هو (Brutton) يدعي بحكم خلفيته معرفة سمات شخصية الإنسان

البدوي وتركيبه النفسي والمزاجي [١٢] .

وجرى التركيز في هذه الأبحاث على نفسية الأم ونفسية الطفل، وشكلت

الدراسات الخاصة بالطفل حيزاً كبيراً لم يتوقف إلى حدِّ اللحظة، وضربت بعض

النظريات على شهوات النفس وهواها، وضخمت أموراً على حساب أخرى،

ونالت الإثارات الجنسية اهتماماً بالغاً ولا سيما في الميدان المتأثر بعلم النفس،

نلاحظ هذا في الرسوم وعلى صفحات الكتب والمجلات والإعلانات الإشهارية،

فاضطربت الشهوة الجنسية مع المغريات والمؤثرات، وجاء الأدب، ولا سيما

الأدب الفرنكفوني، ليكمل هذا المسير، وجرى التسابق إلى التأليف في نمط معين

من الأدب، مثل القصة القصيرة والأدب المسرحي والفنون بمختلف أشكالها بما فيها

الأفلام السينمائية، وتنال نسبة كبيرة من هذه المؤلفات شهرة واسعة وتطبيلاً كبيراً

بسبب اختيار موضوعات أسرية تستهدف المرأة في صيغتها المحافظة من حيث

علاقتها بالرجل، وعلاقتها بالمحيط وعلاقتها بالحضارة، وأمامنا أسماء أريد لها أن

تكون لامعة لهذا السبب، وتطول اللائحة إذا أخذنا في الحسبان الجيل الجديد المتأثر

بهذا النوع من الكتابات، وهو الآن يدعم دعماً مادياً ومعنوياً ليسير في الاتجاه نفسه

لغرض تقسيم الأسرة المحافظة والقضاء على كيانها نهائياً.

إن المطلع على هذا النوع من التأليف يجده قد تجاوز بكثير طبيعة البحوث

الغربية نفسها، حيث يسود في هذا النوع من المؤلفات استهزاء واضح بالقيم،

واستهتار كبير بالأخلاق والعادات والتقاليد الموروثة، ونعترف بأن نوع الإثارة لا

تحصل في هذا النمط من التأليف إلا بالحكايات المضحكة والتقاط الصور المشينة،

وتحويل بعضها من المعقول إلى اللامعقول، ولكننا نتساءل: لمن تقدم هذه الإثارات

والحكايات؟ ولمن يُوجَّه هذا النوع من التأليف؟

لقد تجاوز الأدب الحدود المعقولة في التأليف والنشر، وإن كثيراً من هؤلاء

باعوا أنفسهم رخيصة للغرب، وهم يسعون إلى أن يقدموا المجتمع كله إلى سوق

التبعية العمياء، والعبادة المطلقة للسادة، غير أن الاستعمار نفسه «لم يكن يستطيع

أن ينفذ برامجه إلا على مراحل طويلة، فكان من أبرز ما عمل إذاعته القصة

الغربية الإباحية، فأغرى كثيراً من الكتَّاب الشوام بترجمة القصة، فذاعت ذيوعاً

شديداً، ودخلت كل بيت، وألقت إلى العذارى تلك النشوة الخيالية في صورة

الإباحة والوهم، فأثارت في النفوس ثائرة الغريزة، وألهبت في المشاعر عواطف

الجنس وأغرقت البلاد بالأندية الليلية والراقصات والخمور وأساليب الدعارة،

وأباحت البغاء، وجعلت له أحياء خاصة ودافعت عن وجوده» [١٣] .

لقد أصبحت «الإباحية» عقيدة العصر، ودين الحضارة، وحصل التوهم

في فكرنا الحديث أن دخول باب الحداثة هو الإباحية، وأن ركوب قطار التنمية

والتطور هو التسلح بها، وإذا كانت الإباحية في أصلها تعني التحلل والخروج عن

العرف والعادة والأخلاق، فإن هذا المعنى من شأنه أن يفسر كثيراً من مسلكيات

ثقافة هذا العصر، ثقافة الحداثة وما بعد الحداثة، ثقافة النظام الدولي الجديد

والعالمية والعولمة، وقد قاد هذه الموجة الدعوات والفلسفات المستحدثة الوافدة من

الغرب، كانت بالأمس في ثقافتنا تقليداً، لكنها اليوم أصبحت تأييداً، حيث الخروج

عن المألوف هو سمة العمل العلمي المتميز، وأصبح ذلك موضة في النقد والتقويم

والمراجعة، وأخذ التوليد والابتكار على وفق هذا المعيار عنصر التقدم والعصرنة،

ودخلت الإباحية في التنظير الفلسفي، فدعمتها المذاهب الفنية والاجتماعية،

وأخذت تسويغات من نوع ما منها أن الإنسان هو مطلق الحرية في القول والعمل،

وكل شيء يصادم حرية الإنسان لا بد من زواله، وأصبح هذا عاماً في كل

الإنتاجات الفنية، وعم الثقافة بشكل رهيب، وكانت الأسرة ميداناً خصباً للإباحية،

حيث خرجت كثير من الأسر عن ضوابطها الأخلاقية، وقيمها الموروثة مما فتح

الباب لموجة أخرى هي أكثر طغياناً وصلابة، وهو مد اليد إلى قانون الأسرة

الشرعية لتغييره والعبث به، ومن مظاهر العبث به التنظير لتغييره بأساليب

الفكاهة القريبة إلى الشعر الماجن منه إلى الكلام الجدي.

هكذا اضطرب نظام الأسرة المعاصرة في واقعنا المعاصر، وسبب هذا

الاضطراب هو الانقلاب الكبير الذي ساد المعايير، والاختلال الفاحش الذي أصاب

المفهومات، فبينما كان يسود في الأسرة الإسلامية الحقة أن الدين والأخلاق والتقاليد

العريقة هي المعايير التي توجه سلوك الأسرة الملتزمة، تصبح أشكال الموضة

وقوانين النظام الدولي الجديد وألوان التقليعات وأنماط معينة من التفكير الزندقي

الوافد من الغرب ومن سوء التربية الأسرية؛ هي المتحكمة في الأسرة اليوم، يدلنا

على ذلك المطالب الجائرة التي ترفع اليوم باسم التنظيم والتأطير والتقنين لرفع

الظلم والحيف عن المرأة.

أن أخطر ما تواجهه الأسرة اليوم هو التنظير لها والكلام عليها بكلام مطلسم

يستخدم مصطلحات غير مفهومة، ومعلوم أن المصطلح إذا لم يكن محدداً تحديداً

واضحاً ينتج عنه كلام غير واضح وغير مفهوم.

لننظر مثلاً في عنوان «المشروع الذي تقدمت به كتابة الدولة في المغرب

المكلفة برعاية الأسرة والطفولة في التنمية» ، ولا هي واضحة في سياق فقرات

مشروع الخطة، ما هي التنمية التي يراد إدماج المرأة فيها؟ هل تنمية مدارك

المرأة وتنمية فطرتها حتى تنشأ نحو المقصد الذي من أجله وُجدت؟ هل تنمية القيم

والأخلاق والآداب التي تحتاج إليها المرأة اليوم أكثر من أي وقت مضى؟ هل هي

تنمية تنبع من حاجات الذات في الميادين الاقتصادية والثقافية والعلمية؟

التنمية هنا قد تكون للنهوض وقد تكون للسقوط، وليس كل نهوض هو

نهوض إيجابي فقد يكون النهوض لأجل البناء والتشييد، وقد يكون لأجل الهدم

والتدمير، قد يكون لأجل بناء الذات وتمكين القدرات للوقوف في وجه الآخر، وقد

يكون لأجل هدم الذات لتنهار أمام الآخر.

ويركب على ظهر الطب وعلم الصيدلة في توليداتهما الجديدة، وللحماية من

داء السيدا والأمراض المتنقلة جنسياً يوزعون العازل المطاطي، ويشهرونه على

أنه الوسيلة الوحيدة للوقاية من الأمراض، ويأتي خطابهم الإشهاري بسكوت مطلق

عن اعتبار الممارسات الجنسية غير المشروعة حراماً، وأنها زنى تقضي على

الصحة وعلى الأسرة، بل ذهبت بعض التكتلات الجمعوية إلى اعتبار الوسائل

الطبية والإنتاجات الصيدلية بديلاً مطلقاً عن المعايير الأخلاقية والقيم الشرعية.

وهذا كله يرجع إلى سبب واحد هو أن الحكم على الممارسات الجنسية

الخارجية عن حدود الشرع بأنها (إثم وحرام وزنى وفاحشة) ؛ من شأنه أن يوقف

ظاهرة الزنى واللواط والشذوذ الجنسي المنتشر في المجتمعات الإسلامية بشكل

مرعب، هكذا يفسح المجال للفاحشة، وللخوف من الداء لا بد من العازل المطاطي،

ومن أجل تشجيع الفاحشة بشكل منظم عمدوا إلى الاعتناء طبياً بالفتيات الحاملات،

وقُدّم الدعم الكامل لحماية الأبناء الذين يولدون نتيجة هذه اللقاءات الجنسية غير

الشرعية، فأطلقوا عليهم لقب (الأطفال الطبيعيين) ، فإذا كان هؤلاء هم (الأطفال

الطبيعيون) ؛ فماذا نسمي الأطفال المولودين من الزواج الشرعي؟

وباسم التوعية الأسرية يروّجون لتناول حبوب منع الحمل لتحديد النسل

وتنظيم عدد الأبناء المراد إنجابهم في الأسرة المسلمة، ويطاف على الأسرة في

المدينة والبادية على السواء، وهذه حملة قديمة لو حددنا لها مدة ثلاثين سنة فقط؛

لوجدنا أن المجتمعات الإسلامية في البلاد الإسلامية كلها حرمت من أزيد من

عشرين مليون نسمة، وهذا رقم تقريبي فقط يمكننا من الاطلاع على الحقيقة التي

تراد للأسرة المسلمة باسم (تنظيم النسل) و (تحديد النسل) ، هكذا يُقضى على

الملايين من أبناء المسلمين من دون حرب ولا قتال، وإنما هي إبادة من نوع خُطط

له باسم الطب والصيدلة.

وجاء دواء (الفياغرا) ليحل مشكلة ولكنه أثار مشكلات كثيرة، ومن

مشكلاته الأولى أن استعماله لم يعد خاصاً بأصحاب العجز الجنسي، بل تعدّاهم إلى

المدمنين على الجنس، ولا سيما المهووسين بهذه المتعة وهم من غير العاجزين،

وثاني مشكلاته تلك التي ظهرت لشركات التأمين، وهذه المشكلة أثارتها النساء،

حيث رفعن شعاراً يثرن فيه وجود تمييز عام ضدهم من قِبَل الشركات التي ساهمت

في إنتاج الفياغرا، وتطالب الاتحادات النسوية بأن تغطي الشركات تكاليف حبوب

ومعدات منع الحمل الأخرى، وذلك إسوة بتغطية تكاليف تمكين الرجل من قضاء

شهوته.

هكذا وازن بين (فياغرا) التي تُمكّن من الشهوة وبين (حبات منع الحمل)

التي توقف حمل المرأة لتصبح القضية ضد القضية، وهي قضية مفهومة من

الأساس؛ لأن المرأة نصبت نفسها في مطالبها العامة عنصراً ضدياً للرجل، هذا ما

أفصحت عنه إحداهن قائلة: «إن سيطرة الرجال على مجالس إدارات شركات

التأمين هو السبب في تحيزهم للرجال دون النساء» [١٤] ، ولن نغلق على هذا

الكلام، لكن دعونا نتساءل: هل الأسرة المسلمة تنهض على أكتاف هذا النوع من

البشر الذي يرى وجوده وجوداً إباحياً، ويرى كينونته كينونة الضد والنقيض؟

وهل يستقيم للأسرة المسلمة وجود وسط هذا التكالب المسعور بين كيانَيْن خلقهما الله

من نفس واحدة، وجعل بينهما مودة ورحمة لتنقلب المعادلة بين جسدَيْن ضدَيْن

ونفسيتَيْن نقيضتَيْن في إطار من التنافس الذي لا يخدم مصلحتهما، وفي إطار من

التنافي الذي يسيء إلى وحدتهما ووحدة أسرتهما؟

وليس هذا وحده، بل تأتي الصحافة بجديد ينضاف إلى ما سبق ذكره،

فالصحافة أحد كيانين متناقضَيْن؛ إمّا ذبابة قاتلة تحمل السموم والميكروبات الفتاكة،

وإمّا نحلة رشيقة تمتص رحيق الأزهار لتعطي عسلاً مصفى فيه شفاء للناس، لا

أحد يخالف في أن الصحافة العالمية اليوم هي من النوع الأول القاتل والمدمر،

تتخطى كل الحدود الوطنية وكل الحواجز المجتمعة لتعمل في قلب الأسر في

المجتمعات الإسلامية، تدخل بلا إذن في كل وقت، وتعمل بلا استشارة في كل

حين، وثبت ما تشاء في كل الأوقات، فمختلف القنوات الفضائية تبث من الفساد

الشيء الكثير، فالأفلام والمسلسلات المعتادة والكارتونية للكبار والصغار على

السواء؛ إما أنها تبنى على قصة غرامية خليعة بين رجل وامرأة، أو قصة غدر

وخيانة، أو صراع بين الرجل والمرأة وبين المرأة والمرأة، أو الطفل والأب، أو

الطفل والأم.. في حكاية درامية مثيرة مما يثير المشاعر ويهيج الوجدان، وفي

المقابل يأتي المسرح بحوادث مماثلة، وتقف السينما واللقاءات الإذاعية على الخط

نفسه!

لا نتكلم عن الإعلام في حد ذاته، الإعلام لا بد منه في عصر يفرض دوره،

والأمة التي لا إعلام لها لا وجود لها، وأفرادها يصبحون رهن التشكل في أية

لحظة، الإعلام هو التعبير الموضوعي عن فضيلة الجماهير وروحها وميولها

واتجاهاتها، به تعبر عن وجودها، وبواسطته تترجم آمالها وآلامها وأحاسيسها،

وعملياً فالأمة التي لا إعلام لها كالجسد بلا لسان، يمكن لأي كان أن يتحدث باسمه،

وأن يتكلم دون وكأنه ميت، هل صدّقنا يوماً أننا وجدنا لساننا أخرس لا يتكلَّم؟

ولما أراد الكلام والتعبير انبرى من يتكلم عنه بغير ما يريد، بل تكلّم بغير ما يقصد،

إعلامنا اليوم هو على هذا الحال تماماً ... يتكلم بغير ما نريد، ويعبر عن غير ما

نقصد، لم يعد الإعلام يخدم أهداف المجتمع الإسلامي: يعالج أمراضه ويدافع عن

خصوصيته، ويرفع من مُثُله وقيمه بقدر ما تخصص في الدعاية والتعمية والتعتيم

والتغطية والتشويه والتزييف والمبالغة في تقديم الحقائق والصور.. وهذا كله

يستهدف الأسرة المسلمة في قلب البيت، وهي قضية خطيرة في حياة المسلمين

اليوم!

* خاتمة:

وبعد؛ فإننا نسلم بأن العالم أصبح قرية صغيرة لا يمكن للأسرة فيه أن تعيش

منكمشة على نفسها، ومنعزلة عن المحيط من حولها، لكن ما لا يمكن التسليم به

هو أن نفتح أبواب بيوت المسلمين لسلبيات الحضارة الغربية ومدمراتها، ولا تعني

المحافظة على البناء العام للأسرة تزمتاً ولا يعني انغلاقاً، فلا بد من التمييز بين ما

هو ضروري لحياة الأسرة وفق خصوصياتها الثابتة، وما هو أساس وحيوي من

مستجدات الحياة الحديثة، والوعي بهذه الشروط يجعل الأسرة تعمل بإيجابية في

المحيط الخاص وفي المحيط الدولي العام، كما أن احتكاكها الواعي من شأنه أن

ينمي أساليب جهادها في هذا العالم، هذا إذا كانت تعلم أنها النواة الصلبة للمجتمع

الإنساني كله، وأن خيرها يتعداها لا إلى المسلمين فحسب؛ بل إلى الإنسانية كلها.


(*) جامعة القاضي عياض، مراكش.
(١) انظر: الفكر الإسلامي وصلته بالاستعمار الغربي: من ٢٢٥ - ٢٣٢.
(٢) انظر: موسوعة المستشرقين، لعبد الرحمن بدوي: ٢٥٢ - ٢٥٣.
(٣) انظر: المصدر السابق: ١١٣ - ١١٤.
(٤) انظر: المصدر السابق: ٥٦.
(٥) انظر: المصدر السابق: ١٣٠.
(٦) انظر: موسوعة المستشرقين: ٤٤٢.
(٧) انظر: على سبيل المثال العقيدة والشريعة في الإسلام، لجولد زيهر: ٥ و ١٤ و ١٥، وأيضاً حضارة العرب، لغوستاف لوبون: ١٥٣.
(٨) ينظر الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، ص ٥٨، بتصرف.
(٩) الاستشراق: المعرفة، السلطة - الإنشاء: ٣٢٠.
(١٠) ينظر موسوعة المستشرقين، لبدوي: ص ٢٣٢ - ٢٣٥.
(١١) ينظر مجلة العلوم الاجتماعية: م ١٧ / عدد ٣، مقال حلمي ساري: (المعرفة الاستشراقية: دراسة في علم اجتماع المعرفة) .
(١٢) ينظر مجلة العلوم الاجتماعية: م ١٧ / عدد ٣: ص ١٩٤.
(١٣) انظر: الشبهات والأخطاء الشائعة في الفكر الإسلامي، لأنور الجندي: ٢٧٢.
(١٤) جريدة الراية المغربية - قضايا علمية، عدد ٣٠٦ سنة ١٩٩٨م.