للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الافتتاحية

[عواقب التبذير]

هل المسلمون فقراء؟ وهل صحيح أن الله حرمهم حيث وسَّع على غيرهم؟

سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.

إن فضل الله على المسلمين لا حدود له، ولا يحيط به وصف، وإن ما حباهم

به من الخير تتحلب له نفوس غيرهم، وتتكالب على الظفر ببعضه القُوى من شرق

وغرب.

إذن، فما سر هذا الضنك الذي يعيش به المسلمون، وماذا وراء هذا الهوان

الذي يلفُّهم حينما تُطرح قضاياهم على موائد المساومات؟ !

إن هذا السؤال يقضّ مضجع كل مَن يحمل قلباً من المسلمين، ويؤرقه ليل

نهار بحثاً عن الجواب.

وعلى كثرة الأجوبة وتشعبها، ومن خلال تجميع الأسباب للخروج بنتيجة

يمكن إبرازها؛ فإن هناك ظاهرة تصب في أسباب الضعف والتراجع، ألا وهي

ظاهرة التبذير والإسراف.

وحينما نقول: ظاهرة؛ فإننا نعني أن الأمر خرج عن أن يكون مسلكاً فردياً

لقلة من الأفراد لا تأثير لهم في المجتمع الكبير. ولو كان الأمر كذلك لما استحق أن

يُنَوَّه به كسبب رئيسي من أسباب التخلف والانحطاط.

ونريد أن نتقدم خطوة أخرى فنقول: إن من شأن البعيدين عن هدْي الإسلام

والقرآن إذا اغتنوا أو ملكوا شيئاً من أسباب القوة أن يدفعهم ذلك إلى الإسراف

والبطر والتعالي على خلق الله، وعيش اللحظة الراهنة دون تفكير بالعواقب، ولا

وضْع النهايات في الاعتبار.

ولكن حديثنا لن يتجه إلى هؤلاء، وإنما يعنينا أن نتوجه إلى من يفترض فيهم

بُعد النظر، وعدم الاغترار باللحظة العابرة، وهم الذين يهمهم أمر المسلمين،

ويعيشون من أجل الفكرة الإسلامية، لها يعملون، وفي سبيلها يضحون.

يحسن بالمسلم أن يفرق بين الكرم - الذي هو خلق أصيل من الأخلاق

الإسلامية - وبين التهور في التبذير.

فكثير من فضلاء المسلمين يدفعهم الخوف من وصفهم بالبخل، وحرصهم

على أن يوصفوا بالكرم إلى أن يتكلفوا في المأكل والمشرب والملبس والمركب،

ويقلدوا من يطفون على صفحة المجتمع من محدثي النعمة، وعندما تتحول القيادة

الفكرية في مجتمع ما إلى مثل هؤلاء الذين يضربون أسوأ الأمثلة للآخرين، في

غيبة المبادىء التي تعمل على تماسك المجتمع في وجه الرياح التي تهب عليه من

كل جانب؛ فأي خير يبقى في الحياة، وأي أمل في تحسن الأحوال؟ !

إن المجتمع المسلم بحاجة إلى مثل أعلى في هذا المجال غير من تملأ أخبارهم

أعمدة الصحف والمجلات، مثل أعلى في الحكمة والتعقل في مجال الإنفاق، والبعد

عن تضييع الأموال في ما لا يُجدي.

وعلى عقلاء المسلمين الانتباه إلى حسن التدبير والنظر إلى مستقبل الدعوة

الإسلامية، فهذه الدعوة إذا تحسن حالها بما يبذله المحسنون في سبيلها عن طريق

التبرع والإحسان؛ فإن حالها سيكون أحسن إذا قامت مشاريع ومؤسسات صلبة

قادرة على الوقوف بذاتها دون الاعتماد المتواصل على الصدقات والهبات - وهذا

ليس تعريضاً أو تشهيراً بالصدقات - وأول خطوة في سبيل ذلك أن ينهض بهذا

الأمر أناس ينفرون من المظاهر، ويتحرون البعد عن التنطع الذي يمحق البركة.

فالبركة في المفهوم الإسلامي ليست أمراً خيالياً يصعب تعليله، وإنما هي

ثمرة الجهد الذي يصدر من أناس أخلصوا نيتهم لله، وتبرؤوا من كل حول وطوْل

إلا من الاعتماد عليه في كل شأن من شؤونهم، وبذلوا وسعهم، وحين يعلم الله -

سبحانه - صدق تجردهم، وبذلهم جهد طاقتهم يجعل الله لقليلهم ثمرة، ويبارك

جهدهم، كما قال تعالى: [لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ ومَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا

آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً] [الطلاق: ٧] .

فما بالك بالكثير المثمَّر؟ ، في حين يمحق - سبحانه - جهود من يحادّونه

ويصدون عن سبيله ولو كان القناطير المقنطرة التي تُنفق من أجل ذلك؛ مصداقاً

لقوله - عز وجل -: [إنَّ الَذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ

فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ والَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ]

[الأنفال: ٣٦] .

إننا لا نأتي بجديد إذا دعونا المسلمين إلى الاقتصاد في النفقة والبعد عن تبديد

نعمة الله فيما لا يعود بالفائدة؛ فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن

الله يرضى لكم ثلاثاً، ويكره لكم ثلاثاً، فيرضى لكم أن تعبدوه، ولا تشركوا به

شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، ويكره لكم قيل وقال، وكثرة

السؤال، وإضاعة المال) [رواه مسلم ٥: ١٣٠] .

وما لم يعلنها المسلمون - وأخص العرب منهم الذين أكرمهم الله بهذا الدين،

وامتنَّ عليهم بأن جعلهم في سرة العالم، وأتمنهم على تبليغ هذه الرسالة للعالمين -

أقول: ما لم يعلنها المسلمون حرباً على التبذير في كل مجال فإن اليوم الذي

ستغزوهم فيه منظمات الإغاثة قريب، والساعة التي ستجعلهم في عداد الدول التي

تتناوشها هذه المنظمات من كل جانب، والبنك الدولي من جانب آخر تلوح في

الأفق، ومن يدري عندها؟ فقد يحقق هؤلاء فتنة المسلمين عن دينهم، وهو ما

عجزوا عن تحقيقه قبلاً بقوة السلاح، وأمامنا أمثلة حية من بنغلاديش وموزمبيق

والحبشة وغيرها.