الافتتاحية
المواقع والرجال!
التحرير
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد.
لا شك أن الممارسة الكتابية لا سيما الفكرية الدعوية منها من أشق أنواع
التفكير المقروء وأصعبها وبخاصة مع الظروف التي تحيط بأمتنا الإسلامية اليوم.
إننا نجد هنا معادلة صعبة تقتضي معالجة الأخطاء على الساحة الدعوية
الإسلامية وسط أجواء موبوءة تضخم من أخطاء التيار الإسلامي وتحاول محاصرته
بكل الوسائل المتاحة بغض النظر عن شرعيتها وزيفها ... وهنا يجد الكاتب المفكر
نفسه أمام حقل من الألغام يصعب عليه اختراقه إلا بمهارة فائقة وحسابات دقيقة ...
مجلة البيان خلال أعدادها الستة والستين الماضية كانت تعيش هذه الأجواء وتتنفس
في هذا المحيط وتخوض حقل الألغام هذا لتحافظ على رسالتها واستقلاليتها ومنهجها
الذي اختطته لنفسها ... وفي هذه المناسبة لابد من القول إن المجلة في طريقها قد
واجهت مواقف صعبة ومحطات شاقة خرجت منها في النهاية والحمد لله وقد
حافظت على الأقل على استقلاليتها وطرحها الفكري الدعوي المطالب بسلوك منهج
خير القرون، في وقت يصعب فيه الاحتفاظ بالاستقلالية ومواجهة تحديات الإبقاء
على منهجية واضحة.
إن قطاعاً عريضاً من قراء البيان قد يرى أن الاستقلالية مرتبطة طردياً مع
طرح القضايا السياسية والواقعية التي تمس هذا الطوفان المزمجر من الأحداث
والنكسات التي عاشت المجلة وعاصرت الجزء الأخير منها، وفي هذا بعض الحق
لأن القضايا السياسية ومعالجتها تشكل أعراض المرض الصارخة لا سيما في هذه
الحقبة الأخيرة من القرن العشرين حيث أصبحت القوة السياسية المتمثلة بالدولة
القطرية تتدخل لترسم لأفرادها خطوط حياتهم التفصيلية، ومع هذا فإن الإفراز
السياسي القائم هو محصلة لشبكة معقدة من التطورات العقدية والفكرية والاجتماعية
والاقتصادية ...
لقد حاولت " البيان " طوال الفترة المنصرمة أن تعالج واقعنا المعاصر من
خلال تسليط الأضواء على الانحرافات العقدية والفكرية والاجتماعية والسياسية
والتعامل معها كوحدات الأواني المطرقة التي يتأثر بعضها ببعض سلباً وإيجاباً ...
وهذا هو جانب واحد من الإشكالية وطرف مهم من المعادلة التي نحاول أن نجد لها
الحل ... ، أما الجانب الآخر فهو وصف الدواء لهذا الداء الذي يتمثل في منهج
الإسلام الذي تلقاه الرسول الكريم محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- ونشره
صحابته واقتدى به التابعون والذي عُرف وقت افتراق الأمة بمنهج أهل السنة
والجماعة المنقول عن سلفنا الصالح..
لقد حاولت المجلة أن ترسم واقع المسلمين وتعالجه من خلال ذلك المنهج في
جميع مناحي الحياة ومشكلاتها، وأصرت حينما طرحت هذا المنهج على أمر هام:
الاستقلالية. هذا المكسب (في وقفة الجرد هذه) لم يكن إلا نتيجة جهد رجال عملوا
بصمت وإنكار للذات في سبيل الوصول إليه، وعلى رأس هؤلاء الأستاذ محمد
العبدة رئيس التحرير السابق لهذه المجلة في رحلتها التي أشرنا إليها آنفاً ... الذي
بذل جهداً متميزاً للمحافظة على مستوى هذه المجلة الرفيع وما ادخر وسعاً في
تطويرها والرقي بمستواها والتنويع بمادتها منذ أن تولى مسؤوليتها وإن كان الأستاذ
محمد قد آثر الانتقال إلى موقع آخر فإن هذا لا يعني أن قراء البيان ومحبيها سوف
يفتقدونه ... ، ذلك أن الأستاذ العبدة سيستمر في تقديم عطائه الدعوى والفكري
وسيكون أكثر تفرغاً لدراسة المشكلات التي تؤرق كل من يحمل هم الإسلام ويشتغل
به ...
إن المجلة وهى تجتاز هذه المرحلة الجديدة تتمنى أن تكون قد كرست العمل
الدعوي المؤسس الذي ينهي النمط «الفردي» الذي ساد في فترات معينة من حياة
الدعوة الإسلامية المعاصرة، والذي نبه الأستاذ العبدة في أكثر من مقال على
خطورته وذلك حينما تنحصر الدعوة الإسلامية في قالب أشخاص تموت إذا ماتوا..
وتحيا إذا دب فيهم النشاط والهمة.
والله نسأل للجميع التوفيق والسداد.