في دائرة الضوء
الفكر الإسلامي والمستقبل
د. محمد عز الدين توفيق
ليس الهدف من هذا العرض هو مناقشة موقف الفكر الإسلامي من الدراسات
المستقبلية، فهذا جزء من الموضوع، ولكن هدف العرض هو مناقشة موقف الفكر
الإسلامي إزاء المستقبل وعلم المستقبل؟ .
وبعبارة أخرى فالموضوع هو إشراك الفكر الإسلامي في الصراع الحضاري
عن طريق لفت النظر إلى ضرورة الاهتمام بالتحديات المتوقعة إلى جانب التحديات
الحاصلة والواقعة.
والاهتمام بالمستقبل قبل مجيئه ليس أمراً جديداً يميز القرن العشرين، فقد كان
الاهتمام بالمستقبل واستشرافه منذ أن خلق الله آدم عليه السلام، فإن الله تعالى خلقه
يوم خلقه عاقلاً ناطقاً، ومن صفات العقل قدرته على التحرر من سلطة الحاضر
الذي يسجن الجسم في إطاره، فالإنسان يستطيع أن يتحرر بعقله من حاضره،
فيغوص في الماضي متذكراً أحداثه أو يحلق في المستقبل متخيلاً وقائعه، ولقد
استجاب آدم لوسوسة الشيطان وأكل من الشجرة والله أعلم بناء على تفكير مستقبلي، فقد وعده إن أكل منها أن يخلد في الجنة، وكان هذا أول تفكير مستقبلي مارسه
الإنسان لكنه لم يكن في موضعه، لأنه أغفل الشرط الأساس ليكون التفكير سليماً
وهو كفاية المعطيات وسلامتها وصحة مصادرها، وإذا كانت دراسة المستقبل قبل
مجيئه قديمة قدم الإنسان فما الذي يميز عصرنا عن غيره؟ والجواب أن الجديد في
عصرنا هو أن دراسة المستقبل أصبحت علماً قائماً بذاته، له موضوعه ومناهجه
وإطاره العام.
استشراف المستقبل تعامل مع سنن الله في الخلق:
استشراف المستقبل لإعداد ما يكافئ تحدياته من صميم الإسلام، وقد قص
علينا القرآن الكريم قصة الرؤيا التي رآها عزيز مصر وفسرها يوسف عليه السلام
تفسيراً تضمن التخطيط لخمس عشرة سنة مقبلة، ورغم أن الدراسات المستقبلية لا
تنبثق عن تعبير لرؤى وأحلام ولا تنطلق من حدس وحديث نفس ولكن هذا المثال
يصلح الاستناد إليه في بيان موقف الإسلام من الاهتمام بالمستقبل، ويسجل للإسلام
سبقه إلى إبطال الطرق غير العلمية التي كان الأفراد والدول يلجؤون إليها لمعرفة
المستقبل، وتدور كلها حول الشعوذة وقراءة الطالع والاستعانة بالعرافين والكهنة.
لقد ضحى الإسلام بذلك الجزء الضئيل الذي يكون فيه هؤلاء الكهنة والعرافين
على حق وهدف؛ لأنه ضئيل ولا يتميز من بين كذب كثير، ولم يبق من سبيل بعد
أن حرم الإسلام إتيان العرافين وتصديقهم بما يقولون، إلا الدراسة العلمية التجريبية
أو الميدانية فهذه الدنيا قائمة على سنن، منها ما يسير به الكون ومنها ما يسير به
التاريخ، سنن في الطبيعة وسنن في المجتمع، والذي يتعرف إلى هذه السنن
يستطيع أن يتنبأ بالنتائج إذا وجدت أسبابها دون أن يكون ذلك علماً بالغيب أو
مزاحمة لله في علمه، فالله الذي أذن للإنسان أن يتعرف على الكون وعلى نفسه هو
الذي أذن له أن يتعرف على حركته ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، وتبقى الفروق ثابتة
بين علم الله المحيط وعلم الإنسان المحدود، بين علم الله المطلق وعلم الإنسان
النسبي.
ولا يعكر على هذا أن يقال: إن المستقبل يعلمه الله، وإن كثيراً من التنبؤات
تضل وتفشل فيما تنبأت به، فالكلام الآن ليس عن دقة هذه التنبؤات أو عدم دقتها
ولكن الكلام عن مشروعية الدراسة المستقبلية أو عدم مشروعيتها.
وإذا علمنا أن التاريخ في هذه السنوات الأخيرة يسير بسرعة كبيرة والكل
يستعد للدخول إلى القرن الواحد والعشرين دخولاً راسخاً يحفظ له حقوقه ومصالحه، وأن الشغل الشاغل للدول المتقدمة هو المستقبل، لأن الحاضر حصيلة دراسات
تمت في الماضي وتجني تفاصيلها الآن.
إذا علمنا ذلك وعلمنا أن الإسلام يأبى على أمته أن تكون بدون موقع في هذا
التدافع الحضاري علمنا أن الاهتمام بالمستقبل بهذه الطريقة الجديدة من باب الأخذ
بالأسباب، ومدافعة القدر بالقدر.
إن قيام الحضارات وسقوطها وتقدم الأمم وتخلفها والنصر والهزيمة، والقوة
والضعف كل ذلك خاضع لسنة الله ومشيئته مبثوثة في الوحي وفي الواقع، والبحث
عنها في عصرٍ كلّ شيء فيه يسير بعلم من صميم الإسلام.
طبيعة الواقع الراهن للأمة الإسلامية وخصوصياته:
حين وقعت الحروب الصليبية الأولى التي استغرقت حوالي مئتي عام
(١٠٩٦-١٢٩١م) ، كان المسلمون قد انحرفوا عن الإسلام الصحيح ببدع ومعاص،
ولكن الإسلام ذاته لم يكن في نفوسهم موضع نقاش، لا بوصفه عقيدة، ولا بوصه
نظام حياة، وحتى عندما انهزموا أمام الصليبيين والتتار لم يكن أثر الهزيمة هو
الشك في الإسلام والتطلع إلى دين الغزاة وفكرهم وتقاليدهم وقوانينهم، ولم يقع
تفضيل ذلك على الإسلام وبعبارة أخرى لم تتزعزع الثقة في كمال الإسلام وأفضليته
على غيره، وكان الرضى بالإسلام أمراً مستقلاً عن هزيمة عسكرية مؤقتة سرعان
ما اجتمعت للمسلمين الشروط المادية لإزالة آثارها.
أما الواقع الراهن للعالم الإسلامي فيتميز بأن هذه المسلمات تعرضت للاهتزاز، ... وهذه أهم ميزة لموجة الانحراف الراهنة فلم تتم تنحية الإسلام من الواقع فقط بل
ومن الفكر أيضاً، وأصبحت اللادينية أو العلمانية فكراً وممارسة.
حاضر الأمة الإسلامية متشابه:
إذا وعينا هذه الميزة البارزة لموجة البعد الحالية وأدركنا الفرق بين الصورة
الحالية للانحراف عن الإسلام والصور المتقدمة سنرى أن حاضر العالم الإسلامي
من هذه الناحية متشابه، فمشكلته واحدة، تتمثل في كونه يعيش مرحلة ما بعد
الاستعمار.
لقد اشتغل الغرب لفترة قصيرة بمناوشة جانبية عندما كان الغرب الرأسمالي
في مواجهة الشرق الشيوعي، ولكن العالم الإسلامي ظل طيلة هذه الفترة مصنفاً
ضمن العالم الثالث الذي تتقاسم المعسكرات النفوذ فيه، واليوم وبعد انهيار المعسكر
الشيوعي وتوحد الحضارة الغربية بوجهيها عاد الصراع إلى أهله وعادت المواجهة
كما كانت بين نموذجين في الحياة: نموذج قائم على الإيمان بالله والاستعداد للقائه،
ونموذج قائم على الكفر بالله وجحود لقائه.
وقد كثر الكلام عن طبيعة النظام الدولي الجديد، ولكنه ببساطة استفراد
للولايات المتحدة بزعامة العالم والهيمنة عليه.
ومهما اختلفنا فلن نختلف حول ثلاث نقاط أساسية هي:
الأولى: أن أمريكا في ظل هذا النظام الجديد تريد أن تكون الدولة الأولى في
العالم.
الثانية: أن أمريكا تعتبر نفسها ممثلة لحضارة قائمة بذاتها وليس لنظام سياسي
فحسب.
الثالثة: أن العالم العربي والإسلامي يمثلان بالنسبة لأمريكا أول منطقة يجب
تطويعها لهذا النظام الجديد، وذلك لسببين:
أ- خيرات العالم الإسلامي، فهذا العالم الذي يمتد في وحدة جغرافية من
المحيط إلى المحيط يملك ثروة زراعية وحيوانية وبحرية ومعدنية هائلة، كما يمتلك
مقومات التصنيع والتقدم كاملة من أرض وبحار وموانئ ومواقع استراتيجية وعقول
وأيدٍ عاملة وأموال وطاقة ومعادن.
ب- ما يملكه هذا العالم من بديل حضاري مستقل، يستند إلى مرجعية مختلفة
هي الإسلام.
هناك إذن إرادة سياسية لا هوادة فيها لمواجهة أي نظرية دولية مستقلة عن
النظرية الأمريكية، وهذه الإرادة أكدتها كل الأحداث والتحركات السياسية التي
عرفها العالم في الفترة الأخيرة، وإذا أردنا أن نتكلم بوضوح أكثر نستطيع أن نقول
بأن ما يراد بالعالم العربي والإسلامي في المستقبل أسوأ من الذي فُعل به في
الماضي ويُفعل به في الحاضر.
فالغرب قام في حضارته على القهر والغزو وتسخير الشعوب لخدمة الأقلية
البيضاء، وعندما يتعلق الأمر بالعالم الإسلامي فإن الروح الصليبية لا تفارقه حتى
وهو غير متدين.
يلخص الاستاذ (منير شفيق) [*] السياسة الأمريكية الحاضرة والمقبلة في
المنطقة العربية والإسلامية في أربع نقاط ذكرها في كتابه (النظام الدولي الجديد
وخيار المواجهة) وهي:
١- تشجيع الهجرة المليونية من روسيا وأوروبا الشرقية إلى إسرائيل.
٢- تجريد المنطقة من السلاح غير التقليدي والقدرات العلمية والصناعية
والتقنية.
٣- التحكم في السياسة النفطية وسياسات التنمية بصفة عامة.
٤- الحفاظ على التفوق العسكري والتقني لإسرائيل على مجموع الدول
الإسلامية.
علاقة النظام الدولي بالمشروع الصهيوني في المرحلة القادمة:
لا يمكن الحديث عن النظام الدولي الجديد دون الحديث عن علاقته بالمشروع
الصهيوني في المنطقة العربية والإسلامية، وقد تميزت أولى ملامح هذا النظام
بالتغييرات السياسية التي وقعت في الشرق العربي.
فإذا أخذنا القضية الفلسطينية مثالاً نرى أن مسلسل الأحداث سار في كل مرة
في صالح العدو، فمن فلسطين ولاية من ولايات الدولة العثمانية إلى فلسطين تحت
الانتداب البريطاني، إلى فلسطين مقسمة في عام ١٩٤٨م، إلى هزيمة في عام
١٩٦٧م وضياع القدس، إلى اتفاقات كامب ديفيد واعتراف أكبر دولة عربية
بإسرائيل والقيام بالخطوات الأولى نحو تطبيع العلاقات، إلى إخراج المنظمة من
لبنان، إلى اتفاق أوسلو واتفاق القاهرة وخيار غزة/أريحا الذي اعترف فيه رئيس
المنظمة بإسرائيل، وقبل بحكم ذاتي محدود على مساحة صغيرة من أرض فلسطين
لا تتجاوز اثنين في المائة من الأراضي المحتلة.
والمرحلة المقبلة هي استكمال المفاوضات لتطبيع العلاقات السياسية بين
إسرائيل وبقية الدول المجاورة والمرور بعد ذلك إلى مرحلة العلاقات الدبلوماسية مع
سائر دول العرب والمسلمين ومن وراء تلك العلاقات التطبيع الثقافي والسياسي
والتجاري..، حتى تجهز الثقافة اليهودية والنصرانية على البقية الباقية من الثقافة
الإسلامية.
مهمة الفكر الإسلامي إزاء هذا الحاضر ومسؤوليته تجاه المستقبل:
المهمة الثابتة للفكر الإسلامي في هذا العصر وفي غيره هي الدفاع المستمر
عن كمال الإسلام وأنه الحق الوحيد بين المذاهب والعقائد حتى يتجدد الرضى به في
الأجيال ولا يتعرض هذا الرضى للقطيعة في عصر من العصور، فينشأ جيل من
الأجيال على رفض الإسلام والتنكر له والبحث عن السعادة والكرامة في غيره.
مهمة الفكر الإسلامي الثابتة في كل عصر هي ملاحقة الشبهات والطعون التي
تسعى للتشكيك في صلاحية الإسلام للتطبيق وقدرته على القيادة وتحقيقه للسعادة
الدنيوية والأخروية.
وبعبارة أخرى فإن مهمة الفكر الإسلامي تتلخص في الآية الكريمة التي قال
الله تعالى فيها: [اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام
دينا] [المائدة: من الآية ٣] .
فالفكر الإسلامي في كل عصر سيستأنف مهمة البلاغ المبين ويقوم على
حراسة الجبهة الفكرية من الصراع الحضاري كما يقوم بإظهار دين الله على غيره
بالحجة والبرهان.
وفي إظهار هذه المهمة الثابتة للفكر الإسلامي ستبدو مهمته في المرحلة القادمة
صعبة وعسيرة، ذلك أنه سيتصدى لنموذج حضاري على النقيض من النموذج
الإسلامي الذي يدافع عنه، لكنه نموذج يملك كل الوسائل التي تعينه على الانتشار
بل وتعينه على الهيمنة رغم إرادة الشعوب.
هكذا ينهض الفكر الإسلامي بالمهمة:
إن مهمة الفكر الإسلامي في المرحلة المقبلة هي مواجهة هذا النموذج القديم
الجديد، وهو نموذج ثقافي أساساً وله وجه اقتصادي وسياسي فكيف ينهض الفكر
الإسلامي المعاصر بهذه المهمة؟ .
أولاً: على مستوى الموضوع:
لابد أن يتخلص الفكر الإسلامي من جميع صور التضييق التي مورست عليه
في الموضوع , وجعلته في حس الكثير من المثقفين والطلاب يرادف النقاشات الكلامية والفلسفية لبعض الفرق الإسلامية.
فالفكر الإسلامي في موضوعه رحب واسع يستمد سعته وشموله من شمول
الإسلام الذي يتحدث باسمه ومن تعقد الواقع الذي يعالج هذا الفكرُ قضاياه.
مجالات الفكر الإسلامي عديدة منها المجال الفلسفي والمجال العلمي والمجال
التاريخي والمجال الحضاري والمجال اللغوي والمجال الأدبي والفني، والمجال
السياسي والاقتصادي والمجال التربوي والدعوي.
ليس بمعنى أن الفكر الإسلامي فلسفة وعلم وتاريخ وأدب ... ولكن الفلسفة
والعلم والتاريخ والأدب والاقتصاد وغيرها من اهتماماته، ونعتقد أن القضايا التالية
يجب أن تنال مزيداً من العناية في المرحلة المقبلة حتى يكون الفكر الإسلامي
حاضراً في المعركة.
*مسألة الديموقراطية وبأي معنى يمكن قبول هذا المصطلح في المجتمع
الإسلامي وهل يمكن أن تأخذ معنى مشتقاً من الشورى في الإسلام إذا علمنا أن
الشورى في الإسلام مبدأ عام تتغير الأساليب التي تحققه في المجتمع الإسلامي.
*مسألة حقوق الإنسان، وما هو التأهيل الإسلامي لهذا المصطلح الذي
يتصدر المصطلحات السياسية للنظام الدولي الجديد.
*مشكلة البيئة وقضايا التلوث الجوي والصوتي والمائي والاستخدام السيء
للعلم والتقنية.
*نموذج الدولة المدنية أو الدولة الحديثة، وكيف تنسجم في الدولة صفة
الإسلامية وصفة الحداثة.
*التعددية الفكرية والسياسية وبأي معنى يمكن أن تمارس هذه التعددية في
المجتمع الإسلامي.
*مفهوم الأصولية والتطرف والمعاني الجاهلة والمغرضة التي تستعمل لها
هاتان الكلمتان، وما هو التطرف الذي نهى عنه الإسلام، وما هي آثاره السلبية
على مستقبل الإسلام في العالم.
*الإعلام والمشكلة التربوية: كيف تقوم التربية الإسلامية بدورها في عالم
مفتوح وفي ظل تواصل ثقافي واقتصادي وإعلامي متشابك.
*قضية المرأة: حقوقها وحريتها في المجتمع والفروق بين أحكام الإسلام
الثابتة وبين التقاليد والعادات التي نشأت حول المرأة في المجتمع الإسلامي.
*الفكر الإسلامي في خدمة الدعوة الإسلامية ونشر الإسلام في العالم غير
المسلم والقيام بالحوار الحضاري المطلوب مع الأمم الأخرى.
*التأصيل الإسلامي للعلوم الإنسانية، ودعم التجارب الحاصلة في الميدان.
* تعميق الدراسات في فقه الموازنات وفقه الأولويات على ضوء الواقع
الحاضر مع الاستعانة بمباحث الفقه والأصول وبخاصة القواعد الفقهية والأصولية،
وتطبيق هذه القواعد في مجالات الفكر والتربية.
وعندما نقول إن المرحلة المقبلة تستلزم اهتمام الفكر الإسلامي بهذه القضايا لا
نعني أن هذه الموضوعات لم تطرق بعد، ولكنها تحتاج إلى تعميق واستكمال حتى
ترى الأجيال الصاعدة الإسلام بديلاً حضارياً شاملاً، ثم تتمكن البشرية كلها بعد ذلك
من التقاط صورة حقيقية عن الإسلام لا بوصفه أحكاماً فقهية فردية فقط، بل
بوصفه ديناً عالمياً قادراً على تأطير الحياة الإنسانية على الأرض واستلام القيادة من
أي نقطة انتهى إليها شعب من الشعوب في رقيه وتقدمه وحضارته.
ثانياً: على مستوى المنهج:
وبالنسبة للمنهج فإن المستقبل يستدعي أن يتخلص الفكر الإسلامي من منهجين
تسلطا عليه في المرحلة السابقة فحرفاه عن مهمته الحضارية:
الأول: المنهج الاستشراقي الذي بدأه المستشرقون من غير المسلمين:
ونشأ عليه جمع من تلاميذهم، وحصيلته التشكيك في الإسلام وفي التاريخ الإسلامي وتعميق نقط الخلاف وتلميع مناطق الضعف في التجربة التاريخية للإسلام وطمس مواطن القوة فيها.
الثاني: المنهج العلماني أو اللاديني بوجهه الليبرالي والاشتراكي:
الذي يستعمل النصوص والوقائع لتمجيد التجربة الليبرالية أو الاشتراكية ولا ينطلق من الإسلام لتنفيذ التجربتين.
بهذا التحرر في الموضوع والمنهج يمكن للفكر الإسلامي أن يدخل في مواجهة
المستقبل ويتولى إظهار الدين الحق في جبهة الفكر أو في جبهة الكلمة، [يريدون
ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون، هو الذي أرسل رسوله
بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون] [الصف: ٧، ٨] .
لقد كتب فرانسيس فوكوياما وهو مستشار وزارة الخارجية الأمريكية كتابه
نهاية التاريخ مدعياً في هذا الكتاب أنه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والمعسكر
الشرقي لم يبق أمام العالم في المستقبل إلا النموذج الأمريكي، وتنبأ بأن العالم
سيتبع هذا النموذج وتلك نهاية التاريخ! ! .
والحقيقة أن نهاية التاريخ مقرونة بنهاية الحياة الإنسانية على الأرض، أما
الصراع بين الحق والباطل فهو باق ما بقيت الحياة، وإذا كان هذا المستشار قد
اعتقد أننا قربنا من نهاية التاريخ بعد انهيار المعسكر الشرقي فلأنه لم يدرس البديل
الحضاري الذي يملكه العالم الإسلامي، والذي سيكون النموذج المقابل للنموذج
الأمريكي في المرحلة القادمة.
كما كان من قبل نموذجا ثالثاً ... يقف في وجه النموذج الأمريكي والسوفيتي
معاً، وإذا علمنا أن النموذج الأمريكي ليس عنده ما يقدمه للبشرية علمنا أن نهاية
التاريخ حقاً هي عودة البشرية إلى النموذج الإسلامي.
إن النموذج الأمريكي لا يملك ما يقدمه أكثر من لبس الجينز، وتدخين
المارلبورو، وشرب الكوكاكولا، وأكل الماكدونالد، ثم الحرية الجنسية، والإلحاد
والعبث والقلق.
وقد كتب السفير الألماني بالرباط الأستاذ مراد هوفمان كتابه الإسلام كبديل
يرد فيه على كتاب فرانسيس فوكوياما ويتحدث عن البديل الإسلامي القادر على
تجاوز سلبيات النموذج الأمريكي الذي تسعى أمريكا الآن لتعميمه على العالم، حتى
تكون الحضارة الأمريكية هي حضارة القرن الواحد والعشرين يقول إن هناك بشائر
تدل على أن هذا النموذج المبعد والمحارب ستكون له الغلبة في المستقبل، لكن
منطق الأسباب يفرض على الفكر الإسلامي أن ينهض بمهمته في بناء الرضى
بالإسلام في نفوس المسلمين وبخاصة في نفوس النخبة المثقفة التي تأثرت بالعلمانية
الغربية، ونمط الحياة الأوربي.
وأمريكا ليست قدراً غالباً، والله غالب على أمره، وتستطيع الأمة الإسلامية
أن تسير وفق نموذجها الحضاري دون أن تراهن على سقوط أمريكا باعتبارها دولة
عظمى.
ولا شك أن الذي يمثل هذا المشروع المستقبلي الذي يُنَظّر له الفكر الإسلامي
ويؤصل هو الصحوة الإسلامية المعاصرة، فهي الممثل الشرعي لهذا المشروع،
ولذلك فإن من أولويات النظام الدولي الجديد: القضاء على هذه الصحوة تحت
مسميات مختلفة كمحاربة التطرف ومقاومة الإرهاب وإجهاض جميع المبادرات التي
تحاول الاستفادة من التراث النظري للعقل الإسلامي لإخراج التجارب الواقعية،
سواء أكانت في صورة دولة إسلامية حديثة تجربة السودان مثلاً أو في صورة
حركات إسلامية شمولية تسعى في أقطارها لإقامة الدين في مختلف مجالات الحياة.
إن الجهود الكبيرة التي يبذلها الغرب لتشويه الصحوة الإسلامية والحركة
الإسلامية التي
تمثلها، والتحريض والضغط الذي تمارسه على الأنظمة للإيقاع بينها وبين
هذه الحركات، هو امتداد للغزو الفكري الذي كانت تمارسه فلول المستشرقين
والمبشرين قبل الاستعمار والهدف واحد هو تنحية الإسلام عن قيادة المجتمع،
وعزله عن النخبة والجمهور، وتكريس التبعية للنموذج الغربي وكأنه قدر لازم،
وقوة غالبة.
ورغم السلبيات التي تظهر أحياناً في ممارسات هذه الحركات فإنها في النهاية
تحمل مشروع المستقبل بالنسبة للعالم بعامة والعالم الإسلامي بخاصة وإذا كان الفكر
الإسلامي فيه اجتهادات تصحح نفسها باستمرار، فإن تنزيل هذه الاجتهادات على
الواقع يجب أن يعرف نفس التصحيح، حتى تكون الصحوة الإسلامية في مستوى
المسؤولية العالمية التي تتحملها، وتكون في مستوى الدين الإسلامي الذي تتحدث
باسمه وتستند إليه وتعده المرجعية العليا في الفهم والتطبيق.
(*) منير شفيق مفكر فلسطيني هدته رحلته الفكرية لتبني الاتجاه الإسلامي، وله العديد من الدراسات الفكرية الجيدة منها الرد على أطروحات علمانية.