المسلمون والعالم
عولمة أم أمركة
(١)
بقلم: حسن قطامش
كتب شاعر عربي شيوعي قصيدة من أربع كلمات يعبر فيها عن شعوره تجاه
الحالة الأمريكية الحالية فقال: الخلق نوعان: إنس وأمريكان.
وسياسي عربي، جمع شعبه وخطب فيهم بصراحته المعهودة قائلاً: في اليوم
الذي كنا نختلف فيه مع الاتحاد السوفييتي كنا نذهب إلى أمريكا، ويوم أن كنا
نختلف مع أمريكا.. نذهب للاتحاد السوفييتي، واليوم لم يعد إلا أمريكا، فأين
نذهب؟ ! (سبحان الله) . هكذا يفكر التائهون.
وسياسي آخر من أرض الجزائر ضاقت به السبل لحل الأزمة الراهنة
واستعصت عليه المسائل فطالب أمريكا بالتدخل لحل الأزمة.
وكاتب عربي مسلم رأس تحرير إحدى المجلات الإسلامية لفترة من الزمن،
طالب بعدم السعي لإسقاط أمريكا، وطالب بالحفاظ عليها دولة وحيدة مهيمنة! !
لأن في سقوطها ضرراً كبيراً؛ إذ إن مصالح العالم كله مرتبطة بها وفي سقوطها
خسارة للعالم! !
لكن الكاتب لم ينس أن يطالب أمريكا أن تكون محترمة لا مستعلية!
هذه نماذج من شرائح عدة في مجتمعاتنا تكشف عن استقرار كبير في شعور
هذه الفئات بسيطرة النموذج الأمريكي على العالم، وهذا الاستقرار فرض على
المشاعر والسلوك الصبغة الأمريكية حتى في أخص الخصوصيات التي استوردت
من ثقافة (اللاثقافة) ، وحضارة (اللاحضارة) ؛ فأصبح من الطبيعي أن تجد وأنت
ساجد لله، في أحد المساجد العلم الأمريكي على جورب يلبسه أحدهم، وإن اعتدلت
قائماً طالعك الـ (تي شيرت) وقد حفر على واجهته وخلفيته حروف.. بل يكفي
الاقتناع التام بجودة المنتج إذا كان أمريكيّاً، مهما كانت جودة منتج آخر من دولة
أخرى.
استقر في نفوس أولئك أن أمريكا نموذج للحرية والعدل والمساواة، ولهذا
صارت أمنية الأماني وحلم الأحلام لدى بعضهم: الحصول على (الجرين كارت)
فضلاً عن السعي الحثيث ودفع الأموال الطائلة للحصول على الجنسية الأمريكية
والمفاخرة بحمل جواز سفر.. أمريكي.
سؤال مهم وهو سبب لما نسطره الآن: ما الذي قدمته أمريكا للعالم؟
والإجابة ستكون من غير تشنج ولا تحيز ومن خلال ما سنراه: لقد قدمت
أمريكا للعالم نموذجاً واحداً، هوالنموذج المصلحي، فلا ثقافة أصيلة، ولا حضارة
إنسانية حقيقية يمكن أن يسجلها لها التاريخ، فنموذج (الأمركة) ليس له وسيلة
لفرضه على العالم إلا ما يرادفه في اللفظ! ! فالأمركة ترادفها (العلمنة) ويرادفها
(المكدلة) نسبة إلى (ماكدونالدز) ، وقد يراد منها (الكوكلة) نسبة إلى (كوكاكولا) !
لم تقدم أمريكا إلا أفلام الجنس، أفلام العنف، الجينز، وهو ما يمكن تسميته
بـ (الثقافة السائلة) الثقافة الاستهلاكية، ثقافة (تعالَ إلى حيث النكهة) .
ولذلك تَعْجَبُ من بعض قومنا أن تكون مشاعرهم تجاه هذه الصرعات غير
الحضارية بتلك الحرارة، ونعجب أكثر من بعض المثقفين الذين يحملون على
عاتقهم هَمّ تسويق النموذج الأمريكي نموذجاً مثالياً جديراً بالتطبيق في جميع مجالاته!
وعندها لا نعجب أبداً من أبناء هذه القبيلة الأمريكية حين يتيهون على الدنيا،
ويطلقون التصاريح الإمبراطورية يفاخرون فيها بأنهم أسياد الدنيا وحكامها؛ ونخشى
أن تزيد هذه التصريحات بعض قومنا عمًى على عمى (ونسأل الله السلامة) .
شهادات مغرورة:
١- (ألبرت بيفريدج) ممثل ولاية (إنديانا) في مجلس الشيوخ الأمريكي يلقي
خطاباً في مجلس ولايته، يقول فيه وكأنه مجلس حكام الدنيا:
(إن الله لم يهيّئ الشعوب الناطقة بالإنجليزية لكي تتأمل نفسها بكسل ودون
طائل، لقد جعل الله منا أساتذة العالم! ! كي نتمكن من نشر النظام حيث تكون
الفوضى، وجعلنا جديرين بالحكم لكي نتمكن من إدارة الشعوب البربرية الهرمة،
وبدون هذه القوة، ستعم العالم مرة أخرى البربرية والظلام، وقد اختار الله الشعبَ
الأمريكي دون سائر الأجناس كشعب مختار! ! يقود العالم أخيراً إلى تجديد ذاته) .
أما الرئيس الأسبق (دوايت أيزنهاور) فقد خاطب أمته عام ١٩٥٣م قائلاً:
(لمواجهة تحديات عصرنا حَمّل القدر بلدنا مسؤولية قيادة العالم الحر) ومن تجليات
تلك العنجهية وغرورها ما تفوّه به (وارن كريستوفر) وزير الخارجية السابق في
دراسته التي نشرتها مجلة (فورين بوليسي) (السياسة الخارجية) في نهاية عام
١٩٩٥م بعنوان: قيادة أمريكا فرصة أمريكا على أعتاب القرن الحادي والعشرين،
يقول: (الحقيقة البسيطة هكذا هي أن أحداً، أي أحد آخر لن يقود إذا لم نقم نحن
بتولي مسؤولية القيادة، تصوروا شكل العالم خلال العامين الأخيرين فقط لو كانت
القيادة الأمريكية غائبة! !
إنه ومنذ الثورة الأمريكية يتطلع الناس في كل مكان نحو الولايات المتحدة
التماساً للإلهام في نضالهم من أجل الحرية وحياة أفضل، وثمة أمم أخرى طالما
قبلت بقيادة أمريكا، لا لشيء إلا لأن أمتنا تمتلك إرادة مجربة، واستعداداً سبق
اختباره للدفاع عن شيء ما أكبر منها) .
أما الملياردير الأمريكي ومرشح الرئاسة المستقل، الخاسر ثلاث جولات
(روس بير) فيقول في كتابه: (ليست للبيع بأي ثمن) (إن الأمريكيين محظوظون
من بين شعوب العالم؛ لأنهم يعيشون في أعظم دولة عرفها تاريخ الإنسان! ! وإن
مئات الملايين من الناس يتمنون الوصول إلى ما وصل إليه المواطن الأمريكي
اليوم) .
شهادة من تاجر لا يعرف من الحضارة إلا المادة، فالدولار إله معبود.
وأخيراً إلى من يزعم أنه كُتب على أمريكا تحمل مسؤولية العالم! ! فهذا
(روزفلت) في أعقاب الحرب العالمية الثانية يصرح: (إنّ قدرنا.. هو أمركة العالم، تكلموا بهدوء، واحملوا عصاً غليظة.. وعندئذ يمكن أن تتوغلوا بعيداً) .
ولعل الأغنية التي يرددها الأمريكان خير تعبير عن بلوغ النشوة والعنجهية
ذروتها بامتلاك العالم: (القمر أصبح أرضاً أمريكية، بلاد السوفييت أصبحت
أرضاً أمريكية، المريخ سيصبح أرضاً أمريكية.. وعلى الأرض السلام والخراب) .
بعد هذه المقدمة، نقوم بجولة نستعرض فيها التاريخ الأمريكي منذ بدايته حتى
نتمكن من التوصل إلى رؤية شاملة للولايات المتحدة (سيدة العالم) وحتى تكون
أحكامنا عن تصور واضح ومنطقي لا عن تشنج غير مسوّغ.
كذلك أود أن ألفت الانتباه إلى أن من الأهمية بمكان الوقوف على تصريحات
الساسة وصناع القرار الأمريكيين؛ إذ إن هذه التصريحات هي من أقوى الأدلة
وأوضح البراهين على إثبات المراد بيانه من سياستهم، فهي ليست حشواً للأسطر
أو تسويداً للصفحات بلا داعٍ؛ بل هي مخطط مدروس، فهل نعي ذلك؟
رحلة سريعة في التاريخ الأمريكي:
وقت أن كانت فرنسا قوة مسيطرة، رفعت شعار: (دور فرنسا في تحضير
العالم) ، وحين جاء دور (بريطانيا) رفعت شعار: (عبء الرجل الأبيض) ، ويوم
حكمت أمريكا رفعت شعار: (حق الشعوب في تقرير المصير) وجميعها شعارات
استهلاكية.
لكن التاريخ الأمريكي يبدأ منذ أن رسم البحارة الإيطالي (كولمبوس) خطته
بالإبحار غرباً، ونفذ هذه الخطة بمساعدة ملك أسبانيا وملكتها في نهاية القرن
الخامس عشر الميلادي، ثم أعقبه الإيطالي (أميريكو نسبوتشي) الذي سميت أمريكا
باسمه واستقر الأسبان والبرتغال في أواسط أمريكا (المكسيك والبرازيل) وتوالت
الرحلات، فاكتشف الإنجليز والفرنسيون شرق أمريكا الشمالية فاستقروا فيما صار
بعد ذلك الولايات المتحدة الأمريكية، وقام صراع بين انجلترا وفرنسا حول الأرض
الجديدة، وقامت حرب السنوات السبع في النصف الثاني من القرن الثامن عشر،
وكان الإنجليز قد تمكنوا من بناء أول (مستوطنة) في أمريكا الشمالية، وهي التي
جذبت العديد من (المستعمرين) إلى أمريكا، حيث بدؤوا تكوين مجتمعهم الجديد، ثم
زادت المستوطنات، وعاش (المستوطنون) تحت الحكم البريطاني، ولكن تجاهلهم
لتطبيق القانون البريطاني أدى إلى الخلاف مع بريطانيا.
وبعد الاستفراد البريطاني في الأرض الجديدة، صدرت بعض الإجراءات
أدت إلى بدء حركة الاستقلال، كزيادة الضرائب على المطبوعات والوثائق، وقد
أثارت هذه التغييرات ردود فعل غاضبة لدى المسَتْعمِرين الذين عارضوها بشدة،
ونجحت الاحتجاجات في إلغاء هذه الإجراءات.
لم يدم الود بين الحكومة البريطانية والمستوطنين الجدد طويلاً، فقد صدرت
قوانين جديدة مثيرة للسخط، وأرسلت بريطانيا قواتها إلى كل من (بوسطن)
و (نيويورك) حيث قتلوا بعض المستوطنين الجدد وهو ما عرف وقتها بـ (مذبحة
بوسطن) ، ورد المستوطنون على ذلك بأن ألقوا الشاي البريطاني في الميناء،
فعاقبتهم (بريطانيا) بما سمي بالقوانين غير المحتملة التي تمثلت في إغلاق الميناء
وإجبار المستعمِرين على إيواء البريطانيين وإطعامهم، فكوّنت اثنتا عشرة مستوطنة
ما سمي بالمجلس القاري الأول بـ (فلاديفيا) الذي أجبر بريطانيا على سحب
القوانين غير المحتملة، وغضب الملك (جورج) على المستعمرات، فاعتدت
جيوشه على مؤن تخص المستعمرات، فكان ذلك سبباً من الأسباب في ابتداء الثورة
الأمريكية على الحكم البريطاني، واستمرت المعارك، وفي يوليو ١٧٧٦م أعلن
المجلس القاري الرابع الاستقلال عن بريطانيا، مكوناً الولايات المتحدة الأمريكية،
واستمرت الحرب الطاحنة بين (أمريكا) وبريطانيا حتى انتصر الأمريكان عام
١٧٨١م، ثم وقعت معاهدة باريس بين الطرفين عام ١٧٨٣م إعلاناً لنهاية الثورة
الأمريكية، وكانت قد تكونت الحكومة الدستورية، وكتب دستور البلاد عام ١٧٨٧م.
ومما يجدر بالذكر أن معظم الذين هاجروا إلى الأرض الجديدة (أمريكا) من
الأوروبيين كانوا من مجرمي الحروب والسجناء الذين ضاقت بهم السجون، ومن
تجار الرقيق، والباحثين عن الذهب؛ فالنزعة الإجرامية والقتالية، وحب السيطرة، وعبادة المال، وتقديم المصلحة الشخصية: سمات غالبة على المستعمِرين
والمستوطنين الجدد، والجميع هنا بلا جذور، وأولئك هم الذين قامت عليهم
الولايات المتحدة، وهم الذين وضعوا دستورها وسياستها ... وللحديث بقية.