للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

متابعات

[تعقيب على فتوى التوسل بالأنبياء والصالحين]

بدر بن علي بن طامي العتيبي

اطَّلعت على فتوى لجماعة ممن ينتسب إلى العلم حول مسألة التوسل بالأنبياء

والصالحين [*] ، فلما قرأتها رأيت فيها المخالفة الصريحة لمذهب أهل السنة

والتوحيد المستند إلى القرآن والسنة وكلام الصحابة وأئمة الدين، وقد علقت عليها

على عجالة ببعض الوقفات التي توضح لطلاب الحق بطلان هذه الفتوى، فأقول

مستعيناً بالله:

الوقفة الأولى: اعلم أرشدك الله إلى الحق أن مسألة التوسل بذوات المخلوقين

من المسائل التي حصل فيها الخلاف مؤخراً بين أهل العلم، على أن مذهب السلف

المتقدمين في القرون المفضلة هو عدم فعل ذلك، ولم ينقل عن واحدٍ منهم أنه توسل

بذات نبي ولا رجل صالح من سائر الناس، بل المنقول عنهم هو خلاف ذلك كما

قال الإمام أبو حنيفة فيما نقل القدوري عنه أنه قال: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا

به، وأكره أن يقول: «بمعاقد العز من عرشك» أو يقول: «بحق خلقك» .

وما وجد عن بعض السلف من لفظ التوسل فالمراد به عند التحقيق هو التوسل

بدعائهم كما سيأتي بيانه قريباً إن شاء الله.

الوقفة الثانية: التنبيه على أن كثيراً من أهل الجهل والهوى يخلط بين معنى

التوسل والاستغاثة، ويسمي طلب جلب الخير ودفع الشر من الأولياء والصالحين

توسلاً، ويغالطون أنفسهم ويقولون: نحن لا ندعوهم وإنما نتوسل إلى الله بهم،

وصريح دعائهم أنهم ينادونهم ويستغيثون بهم ويقولون: يا فلان! أغثني، يا بدوي!

المدد، أنا في حسب الله وحسبك، يا فلان! ردّ غائبي.

وهذا كله نداء واستغاثة ولا ينطبق عليه مسمّى التوسل لا لغة ولا عرفاً

مستقيماً، وتمويههم بأن ما فعلوه توسل هو من جنس تمويه مشركي قريش الذين

يدعون اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى؛ فهم يقولون كما حكى الله عنهم:

[مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى] (الزمر: ٣) وهم في الحقيقة قد أشركوهم

مع الله في جلب الخير ودفع الشر بل في الخلق والرزق وشؤون الربوبية! ! ولهذا

نبّه المحققون من العلماء على التفريق بين معنى التوسل ومعنى الاستغاثة؛ فالوسيلة

هي أداة للوصول إلى المقصود، أمّا الاستغاثة فهي طلب الحاجة مباشرة من

المنشود، ولهذا فإن الاستغاثة بالمخلوق عند أهل التحقيق من الشرك الأكبر المخرج

من الملّة، وهو دين أبي جهل وأبي لهب، أمّا التوسل بذوات المخلوقين فهو من

البدع المنكرة.

الوقفة الثالثة: قولهم في الفتوى المشار إليها آنفاً: «نعم يجوز التوسل إلى

الله تعالى بالأنبياء والصالحين، وهو مشروع» .

وفي هذا الإطلاق من المفتين نظر، وكان من تمام الأمانة الإشارة إلى وقوع

الخلاف ولو بشيءٍ يسير؛ وخاصة أن في كلام السائل ما يستدعي ذكر هذا الخلاف،

وهو قوله: «ولا غبار عليه» ، فكان من المتحتم عليهم تصحيح هذا الرأي

عنده بأن المسألة مقام خلاف لا اتفاق، على أن الصواب عندنا أن الخلاف فيها

محدَثٌ منهم، والأصل عدم شرعية هذا النوع من الدعاء كما سيأتي إيضاحه أكثر.

الوقفة الرابعة: قولهم: «وهو مشروع لقوله تعالى في سورة الإسراء:

[أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ] (الإسراء: ٥٧)

الوسيلة: القربة. وقيل: الدرجة، وقوله: [أَيُّهُمْ أَقْرَبُ] (الإسراء: ٥٧)

معناه: ينظرون أيهم أقرب إلى الله فيتوسلون به» انتهى! ! !

فأقول: تفسير الوسيلة بالقربة والدرجة والزلفى هو ما عليه أهل التفسير كما

في قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ] (المائدة:

٣٥) الآية، ولكن ليس المراد به ما ذكروه هنا من أن المراد به التوسل بذات

المخلوقين أو حتى جاههم، وإنّما معنى الآية عند أهل التفسير قاطبة: أن الله

تعالى لمَّا عاب على المشركين في الآية التي قبلها آلهتهم عندما قال: [قُلِ ادْعُوا

الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً] (الإسراء:

٥٦) وبين فيهم القصور عن درجة الألوهية أبان لهم نقصاً آخر في آلهتهم لا

يستحقون به أن يُعبدوا من دون الله، وهو أنهم أي الذين تعبدونهم من دون الله

فقراء إلى الله يسعون إليه بالقرب والدرجات والأعمال الصالحة أيهم ينال القرب

منه بالعمل الصالح. وهم يرجون رحمة الله ويخافون عذابه؛ فمن كان مفتقراً إلى

غيره راجياً رحمته خائفاً من عذابه لا يستحق أن يُعبد من دون الله.

هذا الذي عليه أهل التفسير قاطبة في معنى هذه الآية كما ذكره الطبري في

تفسيره (٨/٩٥) والقرطبي كذلك (١٠/١٨١) ، وابن كثير (٥/٨٦) ،

والسيوطي (٥/٣٠٦) ، والشوكاني (٣/٢٣٧) ، وغيرهم، ولم ينقل عنهم خلاف

في هذه الآية إلا في سبب نزولها، وأصح ما روي في ذلك ما رواه البخاري

ومسلم عن ابن مسعود أنها نزلت في أناس كانوا يعبدون نفراً من الجن فأسلم

أولئك النفر، وبقي الإنس على عبادتهم من دون الله، وقيل في سبب نزولها أقوال

أخرى، والمقصود أن الآية ليس فيها دليل على طلب الوسيلة من المخلوق. أمّا

قولهم في معنى قوله سبحانه: [أَيُّهُمْ أَقْرَبُ] (الإسراء: ٥٧) أي: ينظرون

أيهم أقرب إلى الله منزلة فيتوسلون به؛ فهذا من أعجب العجب بل ومن أبطل

الباطل، ولو كان المراد بذلك ما قالوه لكان معنى الآية: [يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ

الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ] (الإسراء: ٥٧) بزيادة (من) ، وأهل التأويل على

خلاف ذلك، قال القرطبي (١٠/١٨١) : (يبتغون يطلبون من الله الزلفة والقربة،

يتضرعون إلى الله تعالى في طلب الجنة، وهي الوسيلة، أعلمهم الله تعالى أن

المعبودين يبتغون القربة إلى ربهم) . المقصود أن الآية صريحة لمن حمى الله قلبه

من علائق الجهل والهوى، وأن المراد ما سبق بيانه من أن آلهتهم التي يعبدونها من

دون الله تطلب الوسيلة بالأعمال الصالحة إلى الله للقرب منه.

الوقفة الخامسة: استدلالهم بحديث الأعمى عن عثمان بن حنيف رضي الله

عنه والحديث صححه الترمذي وقال: حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا

الوجه من حديث أبي جعفر وهو غير الخطمي وصححه الطبراني والحاكم ووافقه

الذهبي.

ولي في هذا الكلام نظرتان: في الدليل، وفي الاستدلال:

النظرة الأولى في الدليل: أن هذا الحديث عند النظر والتحقيق يتبيّن للخبير

بالعلل أنه معلول لا يثبت، وإن صححه من صححه؛ وذلك للاضطراب في إسناده

على وجوه عدّة ليس هذا مقام ذكرها الآن، وقد أشار إلى بعض ذلك الحافظ الإمام

النسائي في عمل اليوم والليلة (ص ٢٠٤، ٢٠٥) ، ويضاف إلى ذلك الاضطراب

في بعض ألفاظ متنه؛ فتارة يذكر قوله: (يا محمد) وتارة لا يذكرها، وتارة يقول

فيه: «اللهم فشفعه فيَّ وشفعني فيه» وتارة: «وشفعني في نفسي» وتارة يزاد

فيه قوله: «وإن كانت لك حاجة فافعل مثل ذلك» وتارة لا تذكر. وزيادة على

ذلك انفراد راويه به وهو أبو جعفر وليس هو الخطمي عمير بن يزيد بل هو رجل

آخر كما قال الترمذي، ويتبيّن ذلك لمن جمع طرق الحديث كما أوضحت ذلك في

غير هذا المقام.

أما النظرة الثانية وهي في الاستدلال: فعلى فرض صحة هذا الحديث فليس

فيه دليل على أنه توسل إلى الله بذات النبي صلى الله عليه وسلم ولا بقربه وجاهه

عند ربه، والكلام عن معناه بجوابين:

الجواب الأول: أن هذا توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم للأعمى،

لقول الأعمى في أول الحديث: (يا رسول الله! ادعُ الله أن يشافيني) ، فعلّمه

النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء، ودعا له بدليل قوله في آخر الحديث:

(فشفعه فيَّ) أي اقبل شفاعته فيَّ، والتوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم جائز

، بل وبدعاء كل رجل صالح كما هو حال الصحابة في الاستسقاء ومن أحس

بمرض يأتي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: (يا رسول الله! ادع الله أن

يسقينا أو أن يشافيني) ، وهذا خاص بحياته كما سيأتي قريباً في الكلام على

استسقاء عمر رضي الله عنه بالعباس عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والجواب الثاني: أن هذه قضية عين لا عموم لها، خاصة بالأعمى؛ ولو

كان شفاؤه بمجرد هذا الدعاء لتعلّمه عميان الصحابة والتابعين وما أغفلوه، ولما كان

من بينهم عميان، فعلم بذلك خصوصية هذا الأعمى بذلك الدعاء؛ إذ إنه جاء إلى

النبي صلى الله عليه وسلم فأظهر الله على يده تلك المعجزة، ولهذا ذكروا هذا

الحديث في أحاديث دلائل النبوة.

الوقفة السادسة: قولهم: (ولا فرق في ذلك بين حياتهم ومماتهم؛ ذلك لأن

التوسل في الحقيقة ليس بذواتهم المجردة وإنما هو بما لهم من منزلة ومكانة وجاه

عند الله وهو باقٍ في الحياة وبعد الممات) .

أقول: قولُهم بعدم الفرق بين الحياة والممات في ذلك؛ لأن التوسل إنما هو

بمنزلتهم لا بمجرد ذواتهم قولٌ لا يستند إلى دليل بيّن؛ بل الواقع خلافه؛ فمَنْ من

الصحابة أو من التابعين توسّل إلى الله بجاه النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد من

الصالحين؟ ثم ما السبيل لإثبات أن فلاناً من غير الأنبياء له جاه عند الله، حتى لو

كان ظاهره السلامة والاستقامة؟ ولو أطلقنا له ذلك لحكمنا له بالجنة؛ وهذا لا يقول

به سنيٌّ، بل حتى النبي صلى الله عليه وسلم على رفعة قدره عند ربه وعلو جاهه

لا يعتبر ذلك كافياً في تحقيق توسل الداعي به؛ فقد أخبر عليه الصلاة والسلام في

حديث الشفاعة الطويل أن الناس يستشفعون به عند الله وهو المقام المحمود، ومع

ذلك لم يتم لهم الأمر بمجرد ذلك حتى يذهب صلى الله عليه وسلم إلى العرش

ويسجد تحته ويدعو الله لهم.

إذن فمجرد التوسل بالذات أو بالجاه لا يعتبر كافياً في تحقيق المطلوب، والله

أعلم.

الوقفة السابعة: قولهم: (أيضاً لعموم الآية السابقة وغيرها كقوله: [وَلَوْ

أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً

رَّحِيماً] (النساء: ٦٤) وكلٌّ من المجيء والاستغفار واقع في سياق الشرط يدل

على العموم كما هي القاعدة الأصولية لا نعلم في ذلك خلافاً) .

أقول: هذه الآية عند أهل العلم خاصة بالمنافقين في عهد النبي صلى الله عليه

وسلم؛ إذ إن الله سبحانه وتعالى أخبر أن أولئك المنافقين لو أنهم جاؤوا إلى الرسول

صلى الله عليه وسلم وأعلنوا توبتهم لوجدوا الله تواباً رحيماً، وهذا خاص بحياته

صلى الله عليه وسلم.

أما ذكرهم للقاعدة الأصولية تلك وهي: (أن الفعل في سياق الشرط يفيد

العموم) ، فتفخيم وتضخيم وتلبيس على المستفتي؛ فليس في الكلام شرط ولا

للشرط له فيه رائحة، والآية صريحة في المعنى لمن أعطاها أقل تدبر، بل لم

يشترط الله عليهم المجي إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكي يستغفر لهم.

الوقفة الثامنة: قولهم: (ومما يؤيد ذلك الحديث المتقدم يعنون حديث عثمان

بن حنيف فإن النبي صلى الله عليه وسلم علّم الضرير الدعاء ولم يقيّده بزمن أو

يخصصه بأحد؛ وهذا ما صرحت به رواية ابن أبي خيثمة الصحيحة أن النبي

صلى الله عليه وسلم لما علّم الضرير المذكور قال له: «وإن كانت لك حاجة فافعل

مثل ذلك» فهذا تصريح من المعصوم صلى الله عليه وسلم بالتوسل في سائر

الأحوال «.

أقول: ولي في هذا الكلام نظرات:

النظرة الأولى: كون النبي صلى الله عليه وسلم فَهَّم أن حديث الأعمى عامٌّ له

ولغيره، وأنه لم يخصص بوقت ولا بشخص، وهذا باطل شرعاً وقدراً كما قال

شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فلا هم موافقون لشرع الله، ولا ما يقولونه

مطابق لخلق الله. قال شيخ الإسلام في رسالته المصرية في التوسل، وقد ذكرها

في كتابه (التوسل والوسيلة، ص ٢٥٩) : والفرق ثابت شرعاً وقدراً بين من دعا

له النبي صلى الله عليه وسلم وبين من لم يدع له، ولا يجوز أن يجعل أحدهما

كالآخر، وهذا الأعمى شفع له النبي صلى الله عليه وسلم، فلهذا قال في دعائه:

» اللهم فشفعه فيّ «ثم إنهم بعد موته إنما كانوا يتوسلون بغيره بدلاً عنه؛ فلو

كان التوسل به حياً وميتاً سواء، والمتوسل به الذي دعا له الرسول صلى الله عليه

وسلم، كمن لم يدع له الرسول لم يعدلوا عن التوسل به، وهو أفضل الخلق

وأكرمهم على ربه، وأقربهم إليه وسيلة، إلى أن يتوسلوا بغيره ممن ليس مثله،

وكذلك لو كل أعمى توسل به ولم يدع له الرسول صلى الله عليه وسلم بمنزلة ذلك

الأعمى لكان عميان الصحابة أو بعضهم يفعلون مثل ما فعل الأعمى فعدولهم عن

هذا إلى هذا مع أنهم السابقون الأولون المهاجرون والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان؛

فإنهم أعلم منا بالله ورسوله وبحقوق الله ورسوله، وبما يشرع من الدعاء وينفع،

وما لم يشرع ولا ينفع» .

والنظرة الثانية: قولهم: «وهذا ما صرحت به رواية ابن أبي خيثمة ... إلخ»

ويجاب عن كلامهم بجوابين:

الأول: أن هذه الزيادة مما تفرد بها مسلم بن إبراهيم عن حماد بن سلمة، وقد

رواها جماعة من الحفاظ بغير هذه الزيادة، ولعلها وَهْمٌ من حماد بن سلمة يرحمه

الله فإنه على جلالته وشرفه في العلم، إلا أن له بعض الوهم في بعض الحديث،

ولهذا لم يخرِّج له البخاري في صحيحه، ولم يحتجَّ به مسلم وإنما يذكره متابعةً،

وقد تقدم أن الحديث غير ثابت عند التحقيق، ولو قلنا بثبوته لصارت هذه الزيادة

شاذة، والله أعلم.

والجواب الثاني: أنه على فرض صحة هذه الزيادة؛ فالكلام خاص بهذا

الأعمى في حياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ قال له: «فإن كانت لك حاجة

فافعل مثل ذلك» ، ولم يقل: «ومن كانت له حاجة فليفعل مثل ذلك» ، والمراد

بقوله: «فافعل مثل ذلك» أي: صلِّ ركعتين وتوسل إلى الله بهذا الدعاء لقبول

شفاعتي فيك.

النظرة الثالثة: قولهم: «فهذا تصريح من المعصوم صلى الله عليه وسلم

بالتوسل في سائر الأحوال» أقول: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من كذب

عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار» ، ومن الكذب على رسول الله صلى الله عليه

وسلم حمل كلامه على غير محمله ومراده، وكان يسع الإنسان السكوت: [آللَّهُ

أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ] (يونس: ٥٩) ، فأين التصريح من الرسول عليه

الصلاة والسلام بالتوسل به أو بغيره من الصالحين؟ وانظر كيف أطلقوا التوسل

وقالوا: «فهذا تصريح.. بالتوسل في سائر الأحوال» ، ولم يقيدوه بالنبي صلى

الله عليه وسلم، لكي لا ينتقض عليهم مذهبهم في التوسل ببقية الأولياء والصالحين

الأحياء والميتين؛ فأين الصحابة عن هذا الدعاء لو صحّ ثبوته أو معناه الذي

يقولون: هل غفلوه في أمراضهم وحروبهم وخلافاتهم ونوائب الدنيا ومصائبها؟ !

الوقفة التاسعة: قولهم: «وهذا ما فهمه الحفاظ والمحدثون؛ فإنهم فيما اطلعنا

عليه من مصنفاتهم الحديثية والفقهية يوردون هذه القصة تحت باب الدعوات

والأذكار غالباً» .

أقول: وصنيعهم ذلك لا يكون حجة لوجهين:

الأول: أن من ذكره ممن صنّف لم يشترط ذكر الصحيح في كتابه، ولهذا لم

يخرجه أحد ممن ألف في الصحاح كالبخاري ومسلم وابن حبان وابن خزيمة حتى

النسائي على تشدده لم يخرجه في السنن، وإنما أخرجه في عمل اليوم والليلة ولم

يشترط فيه الصحة، وإخراج الحاكم له لا يعتبر حجة في صحته؛ إذ إن الحاكم

مفرط في التساهل ولا يعتبر أهل العلم بتصحيحه؛ ففي كتابه الضعيف والموضوع

مع اشتراطه الصحة؛ والمقصود أن نقل الحفاظ للحديث في مصنفاتهم لا يدلّ على

العمل به، وإنما هو من باب الرواية وجمع الحديث على الرواة والأبواب.

الثاني: أنهم عندما أخرجوه لم يقل واحد منهم إنه عامٌّ في كل وقت، ولو قيل

ذلك لم يقل أحد إنه دليل على التوسل بكل أحد؛ وبينهم وبين إثبات ذلك خرط

القتاد! !

الوقفة العاشرة: قولهم: (وأمّا الأدلة من الآثار فهي كثيرة أيضاً منها: توسل

عمر بن الخطاب بالعباس رضي الله عنهما كما في صحيح البخاري، وقد قال ابن

حجر في الفتح بعد هذه القصة ما نصّه: «يستفاد من قصة العباس استحباب

الاستنفاع بأهل الصلاح والخير وبيت النبوة» ) .

أقول: استدلالهم بأثر عمر بن الخطاب هذا حجة عليهم لا لهم؛ فعمر لم

يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد مماته كما يقولون، ولو كان متقرراً عند

الصحابة جوازه لما عدل عمر عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى التوسل

بالعباس رضي الله عنه، وعمر صنع هذا بمحضر من الصحابة من المهاجرين

والأنصار ولو جاز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم لنبهوا عمر إلى ذلك. ومراد

عمر بالتوسل بالعباس أي بدعائه فيقوم العباس ويدعو لهم لفضله، كما كان

الصحابة يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم في نزول المطر، حين يقدم عليه

أحدهم ويقول: يا رسول الله! ادع الله أن يسقينا، فيدعو لهم فيمطَرون، كما ثبت

ذلك في الصحيح.

وقد حصل لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه عندما استسقى بيزيد بن

الأسود الجرشي فقال: «اللهم إنا نستشفع أو نتوسل بخيارنا، يا يزيد! ارفع يديك،

فرفع يديه ودعا، ودعا الناس حتى سقوا» روى هذه القصة غير واحد، وانظر

تاريخ أبي زرعة وطبقات ابن سعد وتاريخ الفسوي.

وعلى هذا ينزل عبارة العلماء في كتبهم من قولهم: «يستحب أن يستسقى

بأهل الصلاح والفضل» ؛ لأن الناس مفتقرون إلى الإجابة في ذلك الموقف،

فيقدمون أصلحهم فيدعو لهم رجاء الإجابة.

الوقفة الحادية عشرة: نقلهم من تاريخ الخطيب (١/١٢٠) قصة أبي علي

الخلاَّل وما قاله: «ما همّني أمر فقصدت قبر موسى بن جعفر الكاظم فتوسلت به

إلا سهّل الله لي ما أحب» ، وهكذا ما ذكر من قول إبراهيم الحربي: قبر معروفٍ

الترياقُ المجرّب «.

أقول: كل ما نقلوه حيلة للضعيف، وكلها قصص خرافية باطلة صحت عن

أصحابها أم لم تصح، مخالفة للكتاب والسنة وسيرة الموحدين الأبرار؛ ففي قصة

الخلاَّل الأولى غلو في أصحاب القبور، وما هلكت الأمم من قبلنا إلا بالغلو في

الصالحين وقبورهم، كما ثبت في الحديث، وقوم نوح عندما عبدوا ودّاً وسواعاً

ويغوث ويعوق ونسراً، كانوا يغلون في قبورهم حتى صارت أوثاناً تُعبد من دون

الله كما ثبت عن ابن عباس في الصحيح، واللات التي عبدها مشركو قريش كان

رجلاً يلتّ السويق للحجاج، فمات فعكفوا على قبره فعبدوه كما روى ذلك ابن جرير

بسنده في تفسيره، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد؛

ومن اتخاذها مساجد تحرّي الدعاء عندها والصلاة، كما نهى عن شد الرحال إلى

القبور كما جاء من النهي عن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة، وإنكار أبي

هريرة على الرجل شدّه للرحل إلى الطور على شرف ذلك الموقع واستدلاله عليه

بهذا الحديث.

المقصود أن ما حصل من هؤلاء مخالف للكتاب والسنة من أكثر من وجه،

ومن قلدهم في ذلك وضرب بسنة النبي صلى الله عليه وسلم عرض الحائط،

فليرتقب ما في قوله تعالى: [فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ

يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] (النور: ٦٣) ، وقال: [وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا

تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ

مَصِيراً] (النساء: ١١٥) .

الوقفة الثانية عشرة: نقلهم بعض كلام أهل العلم في ذلك، كالنووي وابن

حجر ممن يذهبون إلى ما ذهبوا إليه، وإن كان نقلهم ذلك احتجاجاً منهم علينا؛

فعندنا من الرجال من قد منع ذلك كما تقدم نقله عن أبي حنيفة، وكما قال العز بن

عبد السلام وهو من أئمة الشافعية: (لا يجوز أن يتوسل إلى الله بأحد من خلقه،

إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم إن صحّ الحديث) ، وهكذا ابن تيمية وابن

القيم وجماعة من السلف صرّحوا بذلك، ولكن ليس هذا مسلكنا عند الخلاف أن

نحتج بأقوال الرجال؛ لأن كلامهم عندنا يستأنس به ولا يؤخذ حجة، والرد عند

حصول النزاع لا يكون إلا إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال

تعالى: [فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ] (النساء: ٥٩) ، قال

أهل العلم كمجاهد وغيره: الرد إلى الله: أي إلى كتابه، والرد إلى رسوله: أي

إليه حياً وإلى سنته ميتاً.

وعلى هذا كان من مسلك المسلم الناصح لنفسه عند وقوع الخلاف النظر إلى

أدلة الشرع، ثم الاستئناس بعدها بقول كل أحد، أمّا أن يخالف في مسألةٍ مَّا محتجاً

علينا بقول فلان وفلان فهذا من أبطل الباطل، بل هو من جنس دين اليهود

والنصارى الذين: [اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ] (التوبة:

٣١) يحلّون لهم ما حرم الله، ويحرمون لهم ما أحل الله، وهم يقلدونهم ويتبعونهم

وبعض العلماء حكيت عنهم مسائل خالفوا فيها السنة الصحيحة الصريحة، بل

ربما صريح القرآن؛ ومع ذلك لا يعتمد على قولهم مع بقاء قدرهم؛ لأنهم بين

الأجر والأجرين، ولو كانوا من الصحابة كما قال ابن عباس في مسألة خولف فيها

وقالوا أبو بكر وعمر، فقال: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول لكم:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟ وقال الإمام

مالك: كلٌّ يؤخذ من قوله ويُردّ إلا صاحب هذا القبر وأشار إلى قبر النبي صلى الله

عليه وسلم.

أصلح الله شأن الجميع، وهداهم إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة والتمسك بما

فيهما، والعناية بالتوحيد علماً وتطبيقاً، والحذر من الشرك قولاً وعملاً واعتقاداً،

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


(*) نشرتها مجلة (الإصلاح) في الإمارات، في العدد الصادر في ٢١ جمادى الأولى ١٤٢٠هـ.