للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الافتتاحية

إلى أين يتجه التعليم ... ؟

إن مشكلة التعليم من القضايا التي تحتاج إلى مراجعة مستمرة، وتنبع أهميتها

من الحاجة الملحة للعلم بمفهومه الواسع الشامل لبناء المجتمعات الحديثة، وإن

الرواد في كل مجتمع هم رجال التربية والتعليم، فهم القادة الحقيقيون، بعيداً عن

مظاهر البروز والادعاء، وهم الذين يقع عليهم العبء الأكبر في توجيه الأجيال

وتسليحها بالأهداف الصحيحة، والوسائل الفعالة، وأي نجاح للمجتمع ينبغي أن

يرجع في النهاية إليهم، كما أن أي إخفاق في مسيرة هذا المجتمع فمرده إلى قيادتهم، وإلى الخطأ في الأسس التي اختيروا بمقتضاها.

نظرة عجلى:

لو ألقينا نظرة سريعة على الأربعين عاماً الماضية من أجل تقويم الحركة

العلمية والتعليمية في أوطاننا؛ فسوف نعثر على جانبين، لكل منهما أنصاره

وحججه، أما سبب التحديد بهذه المدة فلأن هذه المدة هي التي أعقبت خروج

الأجانب الناصبين من بلادنا على وجه التقريب، وأصبحنا مالكين زمام أنفسنا،

ونقرر مصائرنا بعيداً عن الوصايا - وإن كانت هذه النقطة مجال جدل طويل ليس

مكانه -.

وأربعون عاماً فترة كافية ولا بأس فيها في حساب الأرباح والخسائر لأمة من

الأمم، أو لمجتمع من المجتمعات.

الجانب التفاؤلي:

لقد خرج المستعمر الأجنبي وجميع أفراد الأمة يحدوهم الأمل، وتملؤهم

الحماسة لبناء المستقبل، وكان عليهم أن يتلافوا التقصير الذي رزحت تحته أمتهم

قروناً طويلة، وأن ينتشلوها مما صارت إليه من التخلف والتبعية المفروضة التي

تضافرت على فرضها عوامل داخلية وخارجية، ولم يكن من حلٍ غير العلم، كماً

ونوعاً.

إن العدل يقتضينا أن نفرح ونبتهج عند مقارنتنا لحالنا الآن بحالنا عشية

خروج الاستعمار فإن نسبة المتعلمين إلى مجموع السكان قد ارتفعت ارتفاعاً مطرداً، ولا تزال في ارتفاع، وقد تضاعفت إلى جانب ذلك عدد المدارس عشرات

المرات، وإن مما يحسب لهذه الفترة هو إلزامية التعليم الابتدائي في أغلب البلاد

العربية، وبعد أن كان التعليم الجامعي وقفاً على الفئات الميسورة والغنية صار كذلك

حقا للفئات الفقيرة، واقتحم المتعلمون من هذه الفئات ما كان مقصوراً على غيرهم،

وتبوؤوا أمكنة كانت بعيدة المنال، فأصبحت ممكنة بفضل التعليم.

ويمكن تلخيص الجوانب الحسنة في مسيرة التعليم، والتي ينظر إليها

المتفائلون بما يلي:

أصبح التعليم ضرورة اجتماعية بعد أن كان ترفاً وميزة لفئة معينة.

تحول المجتمع كله إلى مهتم بالتعليم، ومشارك في إنجازاته ودفع نهضته.

بفضل التعليم ارتفع المستوى الاجتماعي لفئات وطبقات في المجتمع كانت

تعيش معيشة هامشية.

أزال التعليم كثيراً من الفوارق والأمراض الاجتماعية التي كانت ترجع

بالسوء على بنية المجتمع.

جعل جميع أفراد الأمة يشعرون بذواتهم، ويقدرون إمكاناتهم وحقيقتهم في

الوجود، وعزز الثقة الجماعية بالنفس.

هذه أمثلة للجوانب الإيجابية للنهضة التعليمية يمكن أن يضاف إليها كثير من

النقاط الأخرى.

الجانب التشاؤمي:

على الرغم من الاعتراف بكل مزايا الفترة الماضية فيما يتعلق بالإنجازات

التعليمية على المستوى الفردي والعام؛ إلا أنه يبقى الكثير الذي لابد من أن يطرح، ومن ذلك.

لقد كان الاعتقاد أن تنمحي الأمية من المجتمعات العربية ولكن هذا لم يحدث.

والأمر الطبيعي أن تكون البدايات بسيطة ومتواضعة، ثم تقوى وتشتد،

ولكن المشاهد أن نوعية التعليم قبل أربعين سنة كانت أفضل مما هي عليه الآن -

وهذه قضية لا يختلف عليها أحد - صحيح أن تقدماً حصل من الناحية العددية،

ولكنه تقدم سطحي، وتمدد أفقي على حساب العمق والجودة.

ومن السلبيات التي انحطت بالتعليم النظرة الخاطئة إليه، واعتباره وسيلة

لرفع المستوى المادي، دون اعتباره غاية قائمة بنفسها.

إذا أحب أحد أن يناقش التعليم على مستوى العالم العربي فإنه يلحظ شيئاً من

التفاوت الذي أدى إلى خلل وعيب في البناء التعليمي، فبينما نجد بلاداً كانت فيها.

النهضة التعليمية أسبق منها في غيرها؛ نجد أن هذه البلاد السابقة قد هبط مستوى

التعليم فيها لأنها أصبحت معنية بسد النقص والحاجة عند غيرها من جهة، وكذلك

فإن الحالة المادية أصبحت تتحكم بالمستوى التعليمي، فنظراً للضائقة المالية التي

تعيشها هذه الدول فقد أصبح تخريج الخريجين عندها استثماراً (وهذا من حيث المبدأ

لا غبار عليه ولا مانع منه بشرط مراعاة جودة الإنتاج) وترتب على ذلك أن

انصرف المعنيون إلى تكثير عدد المتخرجين لتغطية الطلب في السوق، وكان ذلك

على حساب النوعية المؤهلة تأهيلاً كافياً.

اهتزاز قيمة المعلم الاجتماعية، وتقويمه تقويماً مادياً فقط، فبينما ارتفع

المستوى المادي بتسارع شديد لكثير من أصحاب المهن والحرف اليدوية التي لا

تتطلب إعداداً علمياً أو تثقيفياً، وأصبح هؤلاء ذوي امتيازات مادية لا تنكر ولا

تحجب؛ ظل المستوى المادي للمعلم متخلفاً، والتحسينات التي تزاد عليه تحبو

حبواً بالمقارنة مع ارتفاع مستويات المعيشة والغلاء التي تضرب المجتمعات عامة،

ومجتمعاتنا العربية بصورة خاصة.

وأصبحت مهنة التعليم من المهن المحتقرة في المجتمع، وهذه حقيقة لا يمكن

أن تنكر، على الرغم من كل ما يقال من كلام إنشائي في مناسبات تكريم المعلم،

بل إن هذا المدح غير العملي، والإشادة الباردة بالمعلم ودوره في المجتمع ليست إلا

من قبيل معالجة خلل موجود في النظرة العامة السائدة تجاه مهنة التعليم، ولو سألت

معلم أو مدرس سؤالا بسيطاً: هل يحب لولده أن يمتهن مهنة التعليم في مستقبل

حياته؟ لكان الجواب بالقطع: لا.

إن لهذا دلالة يجب أن يقف المرء عندها، وأن يحللها تحليلاً يقفه على أسبابها

ودوافعها ونتائجها. وعندما يشعر المعلم أنه أصبح مهاناً لا من قبل الأغنياء

والميسورين الذي جُلِبَ كي يعلم أولادهم فحسب! بل من قبل فئات أخرى متخلفة

علماً وفكراً عنه، ولها نفس منبته، ومنحدرة من مستوى اجتماعي قريب من

مستواه؛ عندما يعيش المعلم هذا الشعور، فهل يلام على قلة إخلاصه وموت

طموحه نحو تقديم الأفضل؟ !

هذه لمحات حول قضية هبوط المستوى التعليمي في مدارسنا، وتظل هذه

القضية طويلة ومتشعبة وبحاجة إلى بحث وتحليل، وحسبنا أننا أشرنا إشارة إلى

ذلك، وأننا فتحنا الباب للقراء الكرام لتناول هذه المسألة المهمة بالتفصيل والتعليق.

وإننا نرحب بالمساهمة في ذلك على صفحات مجلة (البيان) على أن تكون

المعالجة عامة لا تخص بلداً دون بلد، ولا تتناول من الظواهر إلا ماله تعلق

بالضعف العام الذي انحدر إليه المستوى التعليمي، وأسباب ذلك، ونسبة ارتباط كل

منها بالمناهج، أو الخطط التعليمية، أو خطط إعداد المعلمين.

وعلى الله قصد السبيل..