للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الافتتاحية

[التلاعب بالأحكام الشرعية إلى متى]

الحمد لله القائل: [فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا

يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما] [النساء: ٦٥] . وبعد:

فلقد مرت في الآونة الأخيرة معركة ساخنة في بعض الدول العربية بخصوص

ما دعي بتقنين جديد للأحوال الشخصية. تلك التشريعات المتعلقة بالشوون الأسرية

من زواج وطلاق وخلع. وهي ليست مشكلة خاصة ببلد بعينه بقدر ما هي مشكلة

عامة لها ما بعدها، لا سيما ونحن في عصر العولمة، والأحوال الشخصية هي ما

بقي من الأحكام الشرعية الإسلامية في قوانين أكثر الدول العربية والإسلامية،

والتي لم يجرؤ الاستعمار الأجنبي الذي مر بتلك الدول أن يمسها بسوء إدراكا منه

للمواقف الصارمة والرافضة التي تنشأ عن المساس بتلك الأحكام، وكان من

مصلحته تجنبها، لكن تلامذة الاستعمار وأذنابه وخريجي المدارس الأجنبية - ومن

خلال ما يعملونه لتغريب بلدانهم وفرنجة مجتمعاتهم - تسلطوا على تلك الأحكام

وحاولوا العبث بها حتى مسخت تماما في تركيا على يد أتاتورك، ومثله أو قريب

منه في تونس على يد (أبو رقيبة) ، حيث نقلت جل القوانين الأجنبية في سياساتهم

العلمانية المعروفة. والحقيقة أن هذه التصرفات الحمقاء ليست أخذا بالمساواة

والعدالة والحرية، ولا تطويرا لمجتمعاتهم وإخراجها من ضغوط الماضي - كما

يدعونه بمناسبة وبغير مناسبة -، وإنما وراء ذلك حقائق معروفة منها:

١- عدم إيمانهم بالإسلام منهجا للحياة، فأحكامه - كما يدعون - لا تتناسب

والعصر؛ وهذا ناقض من نواقض الإسلام.

٢- الهزيمة النفسية من الداخل، والتي وصفها العلامة ابن خلدون بقوله:

(إن المغلوب أبدا مولع بتقليد الغالب) فكيف يكون المنهزمون نفسيا هم قادة الأمة

وموجهوها؟ !

٣- أنهم ينقادون وبكل ذلة للأوامر الخارجية التي تطالبهم بإقرار ما تدعو إليه

القوانين الدولية التي تتضمن المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة، والتي أكدتها

المؤتمرات الدولية المعروفة مثل: (مؤتمر المرأة في بكين) و (مؤتمر السكان

بالقاهرة) .

٤- للجمعيات النسائية في كثير من الدول العربية علاقات وثيقة بتلك الجهات

الأجنبية، فهي تدعمها ماليا ومعنويا وإعلاميا، ولها ضغوطها عبر الأحزاب

ووسائل الإعلام منذ عهد الاستعمار البغيض وحتى الآن، لترسيخ الاتجاهات

العلمانية في مجتععنا الإسلامي الكبير. وحقيقة أكثر هذه الجمعيات النسائية معروفة

للجميع، وقد ألفت عنها دراسات وابحاث مطبوعة ومتداولة لا يتسع المجال لعرض

حقيقتها [١] ، فمنذ (نازلي فاضل، وهدى شعراوي) إلى (نوال السعداوي) وهذه

الجمعيات تؤدي رسالتها تلك بكل جرأة.

ومعلوم للجميع أن الأحوال الشخصية هي جزء من الفقه الإسلامي الذي قنن

العلاقات الأسرية، ومحاولات زعزعة هذه الأحكام وإضعافها وتفريغها من

مضامينها استجابة للضغوط الاجتماعية والدولية لم تكن جديدة؛ فقد دعا لذلك أعداء

الإسلام قديما وحديثا، وجرت في مصر محاولات من هذا القبيل، ولا يغيب عن

الذهن تعديلات ١٩٧٧م المعروفة بمشروع: (جيهان السادات) في هذا المجال،

والذي نقده العلماء والمفكرون، وتم إسقاطه بعد فشله في أداء ما وضع له، بل لقد

أحدث من السلبيات الكثير مما دل على انحرافه عن الصواب.

وجاء حديثا (مشروع تعديل قانون الأحوال الشخصية) الأخير في مصر والذى

تعرض لنقد كثير من علماء الإسلام في مصر، وقدم اعتراض حمل توقيع ٢٢

شخصية من أساتذة الأزهر وعلمائه الذين أكدوا في بيانهم أن الشريعة المطهرة هي

أمر الله، وأمره - سبحانه - تجب طاعته وتحرم مخالفته، وحقيقة الإيمان بالله أن

يذعن المؤمن لأوامر الله ونواهيه.. وشريعة الله في مكانها فوق إرادات البشر

ومشيئاتهم، فهى حاكمة على غيرها، وكل ما عداها تحت هيمنتها وسلطانها حتى

ابتليت الأمة بالاستعمار الذي عمل على هدم مقوماتها ونقض دعائم قوتها حتى لا

تستيقظ وتنهض في مواجهته؛ فهو يعلم سلفا نتائج بقاء الأمة معتصمة بدينها

ومهتدية بهدي شريعتها ...

ثم إن هذا القانون يحمل بين ثنياه مظاهر اضطرابه؛ حيث تضمن من

المخالفات ما يلي: ١- في حالة الخلع يباح للزوجة الحصول على الطلاق إذا أقرت

أمام المحكمة باستحالة الحياه مع زوجها وتنازلها عن حقوقها المالية الشرعية،

وردها ما حصلت عليه من مهر إلى زوجها، ويكون القاضي ملزماً الحكم بالتطليق.

فيلاحظ أن التعديل أعطى المرأة الحق في الخلع بينما منطوق الآية في

الموضوع يحتم الاتفاق بين الزوجين على ذلك. يقول الله - تعالى-: [فإن أرادا

فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما] [البقرة: ٢٣٣] ألا يجر ذلك

فئات من النساء على هدم بيوتهن بأيديهن؟ !

٢- السماح للزوجة بالسفر من دون الحصول على إذن الزوج؛ وذلك في

حال حصولها على ترخيص بذلك من المحكمة. فأين العصمة التي للزوج - ما لم

يشترط -؟ وأين تحريم سفر المرأة بلا محرم؟

٣- الاعتراف بالطلاق رسميا في حالات الزواج العرفي؛ فكيف تعطى

الشرعية لمثل هذا الزواج القائم على عدة مخالفات شرعية؛ وهذه - المسائل -

وإن زعم أنها لصالح المرأة - واجهت معارضة شديدة أدت إلى تعديلات محدده

وافق بموجبها عليه كل من: فضيلة شيخ الأزهر، وفضيلة المفتي.

ومع تقديرنا لوجهة نظر كل من الشيخين الفاضلين إلا أننا نحذر من الأخطار

المترتبة على مثل تلك القوانين المستوردة وما تؤدي إليه من سلبيات اجتماعية لا

تخفى؛ فعلى كل امرأة مسلمة تخشى الله ألا تنخدع بمثل هذه الدعايات المكشوفة،

وعليها الحذر من أن تنقاد لها لما فيها من مخالفات ومحاذير.

ونذكر كل المسلمين: علماء، ودعاة، ومفكرين، وإعلاميين بما يلي:

أولاً: أن الأحكام الشرعية ليست مجالا مفتوحا لكل من هب ودب من صحافة

وبرلمانيين وحزبيين ممن قد لا يفقه في الشرع المطهر شيئاً، ومن ثم فلا مجال

لأمثال هؤلاء بمناقشة ما ليس من اختصاصهم؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه.

ثانيا: أن المجتمعات الإسلامية لها خصوصيتها ولها تميزها، وهي بحكم

إسلامها وإيمانها بدينها تقبل أحكام الشرع المطهر بكل رحابة صدر، ومحاولة

تسميم أفكار الرأي العام من قبل الإعلام والجمعيات النسائية المشبوهة بطرح

زبالات الأفكار الأجنبية، وطلب نقلها لمجتمعاتنا هي ظاهرة يحرص أعداء الإسلام

على إقرارها وتمريرها منذ سنين طويلة؛ وكلما رفض أعيدت من جديد، وترفض

لما تحمله من أخطاء معروف للجميع، ولما فيها من تضليل للأمة، والانحراف بها

عن الصراط المستقيم لمصالح أجنبية وأهواء شخصية.

ثالثا: استغل أعداء الإسلام ضعف كثير من الدول الإسلامية واحتياجها

لمساعداتهم بالضغط عليها لقبول علمنة المجتمعات وتطبيق القوانين الأجنبية التي

تصادم شريعتنا السمحة بدعوى أنها من (حقوق الإنسان المقررة دوليا ومن مظاهر

الالتزام بتحرير إلاقتصاد) فلنحذر السقوط في هذه المكائد. فالواجب على الأمة

جمعاء أن تقف بكل شجاعة ضد أي ضغوط خارجية - وبخاصة فيما يتعلق

بالمساومة على دينها وقيمها وشريعتها - لما في ذلك من مصادمة للشرع المطهر،

وما يؤدي إليه من زعزعة لدعائم المجتمع وزلزلة لقواعده، وهذا بدوره يؤدي إلى

ضعف الأمة والقضاء على سر قوتها، وهو تمسكها بدينها، واعتزازها بشخصيتها

الإسلامية.

رابعا: إن محاولات التغيير في تشريعات الأحوال الشخصية ليس في مصر

وحدها؛ بل في المغرب - كذلك حوار دائر بين الحكومة والعلماء والمفكرين

والجمعيات النسائية حول تقنين دور المرأة في التنمية.

وسبق للبيان أن تطرقت لهذا الموضوع في العدد (١٤٤) ، حيث سلطت

الأضواء عليه، وفي هذا العدد مقال أخر حول الموضوع نفسه. ونرجو الله أن

يوفق أهل الشأن في المغرب لتحقيق ما يخدم المصلحة العامة ولا يصادم الشرع

المطهر.

وأخيرا:

فقد أجمع علماء الإسلام قديما وحديثا على أن الحكم بما أنزل الله فرض على

الحاكم وعلى المحكوم عليهم جميعا القبول به، وأن التحاكم إلى الطاغوت (غير

شرع الله) محرم ومخرج من الملة وصدق الله العظيم القائل: [أَلَمْ تَرَ إلَى الَذِينَ

يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إلَيْكَ ومَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إلَى

الطَّاغُوتِ وقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ ويُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً]

[النساء: ٦٠] .


(١) انظر إلى موسوعة (عودة الحجاب) للأستاذ محمد بن إسماعيل المقدم، ورسالة: (الحركات النسائية في الشرق وصلتها بالاستعمار والصهيونية العالمية) للأستاذ محمد فهمي عبد الوهاب، والمؤامرة على المرأة المسلمة، تاريخ ووثائق، د السيد أحمد فرج.