[حتى لا يكون السودان في مستنقع جديد!!]
التحرير
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فقد اعتبر الكونجرس الأمريكي (بتاريخ ٢٢/٧/٢٠٠٤م) بالإجماع أن ما يحدث في (إقليم دارفور) غرب السودان إبادة جماعية، ودعا البيت الأبيض لقيادة الجهود الدولية للتدخل في المنطقة، حتى إصدار قرار أممي تقدمت به أمريكا يمهل السودان شهراً واحداً لإنهاء الأزمة.
وفي زيارة وزير الخارجية الأمريكي (كولن باول) إلى السودان صرح بأن لديه الصلاحية لفرض عقوبات صارمة على الحكومة السودانية إذا لم تُظهر تجاوباً حقيقياً مع المطالب الدولية.
وفي زيارة (كوفي عنان) إلى السودان راح يردد ـ كعادته ـ تصريحات الإدارة الأمريكية، ويتوعد بتطبيق القوانين الدولية على السودان، بل قال في (٨/٤/٢٠٠٤م) : (إن الأمر قد يحتاج إلى تدخل عسكري خارجي لوقف القتال في غرب السودان) .
وصرح رئيس اللجنة العسكرية في الاتحاد الأوروبي الجنرال الفنلندي (هاجلان) بأن قوة عسكرية أوروبية قد تتدخل في دارفور، وأكد أن السودان مدرج في قائمة الأمم المتحدة التي تحدد الدول المرشحة لإرسال قوة لحفظ السلام فيها.
وأخيراً ـ وليس آخراً ـ صرح رئيس الوزراء البريطاني (توني بلير) بأن بريطانيا لا تستبعد إرسال مساعدة عسكرية للمساهمة في التصدي للأزمة في دارفور، وزعم أنه أمام مسؤولية أخلاقية لاتخاذ إجراءات صارمة للحيلولة دون وقوع كارثة إنسانية.
ثم تحدث الجنرال (مايك جاكسون) قائد الجيش البريطاني عن أن بريطانيا مستعدة لإرسال خمسة آلاف من القوات البريطانية إلى السودان..!!
ويحق لنا أن نتساءل هاهنا: هل هذه التحركات الأمريكية والبريطانية المستفِزة، والضغوط المتتابعة على السودان، تجري بدافع إنساني؟!
وهل الألم الذي يشعر به الرئيس الأمريكي، أو المسؤولية الأخلاقية التي عبر عنها رئيس الوزراء البريطاني مشاعر إنسانية حريصة على حقوق الإنسان..؟!
هكذا يزعمون؛ لكن الواقع يحكي شيئاً آخر بالتأكيد.
كيف نصدق هذه المشاعر ونحن نلمس بجلاء حجم الانتهاك الصارخ لحقوق الإنسان في فلسطين والعراق..؟!
كيف نصدق هذه المواعظ الباهتة ونحن نرى ذلك العبث بكل القيم الإنسانية أمام سمع العالم وبصره..؟!
لقد انكشفت سوءاتهم؛ ومع ذلك يتشدقون بالقيم وحقوق الإنسان.
صحيح أن الأزمة الإنسانية في غرب السودان مؤلمة، ولا يجوز السكوت عليها، لكن ثمة حقيقة جلية عند المتابعين لقضية النزاع في دارفور، وهي أن تفجُّر هذه الأزمة في هذا الوقت خصوصاً لا يمكن أن يُعزَل عن السياق العام لسياسات الولايات المتحدة الأمريكية وحليفتها بريطانيا في المنطقة، وها هي ذي معالم استراتيجيتهم تتضح لإعادة بناء السودان من جديد سياسياً وثقافياً.
وسواء أكانت الولايات المتحدة الأمريكية هي التي صنعت هذه الأحداث، أم أنها استثمرتها بخبث ودهاء؛ فإننا نستطيع أن نُجمل أهدافهم من هذه الحرب بما يأتي:
أولاً: ترويض السودان وتركيعه لتقديم مزيد من التنازلات؛ خاصة بعد أن وقَّعت الحكومة معاهدة السلام مع جون قرنق زعيم حركة التمرد الجنوبية، واتفق على منح الجنوب حق تقرير المصير بعد فترة انتقالية قدرها ست سنوات.
واشتعال الحرب في غرب السودان سوف يعزز من النفوذ الجنوبي، ويقوي جذوره في المنطقة، خاصة أن جون قرنق سوف يدخل إلى الخرطوم محملاً بمشروع تغييري شامل يهدف إلى تغييب الهوية الإسلامية والعربية.
ثانياً: الانتقال إلى المرحلة الثانية في تمزيق وحدة السودان، وتقسيمه إلى دويلات صغيرة متناحرة، خاصة الأقاليم التي توجد فيها أغلبية من المسلمين. فالغرب يدرك خطورة الموقع الاستراتيجي للسودان بالنسبة للقرن الإفريقي، ويدرك أنه العمق الاستراتيجي للمسلمين بالنسبة للقارة الإفريقية.
ثالثاً: إنهاك الاقتصاد السوداني ـ المنهك أصلاًَ ـ وتشديد الخناق عليه، واستنزافه في مزيد من الحروب والنزاعات الداخلية.
إننا لا نستبعد تدخلاً عسكرياً غربياً بحجة إحلال السلام في المنطقة، وربما يمرر ذلك عبر هيئة الأمم المتحدة، لكننا ندرك أيضاً أن منطق القوة المستبدة الذي تمارسه الولايات المتحدة الأمريكية في تعاملها مع القضايا الإسلامية يدفعها بكل حماقة إلى إعادة تفكيك العالم الإسلامي، وتقسيمه من جديد وفق المعايير النفعية التي تحكم سياستها الشرق أوسطية؛ فالسودان هو ميدان اللعبة الجديد بعد تمزيق العراق وزلزلة أركانه.
لكن يبدو أن الإدارة الأمريكية اليمينية استعجلت هذه المرة قبل أن تستكمل إنهاء فصول مسرحيتها المتعثرة في العراق، وهي حريصة على تحقيق مكاسب انتخابية سريعة في الانتخابات الرئاسية القادمة.
ومنطق القوة هذا هو المنطق ذاته الذي بدأ يتشكل عند شعوب المنطقة؛ فالقبول بالهيمنة الاستعمارية لم يعد وارداً، والمقاومة بكل صورها وأبعادها هي الخيار الأمثل الذي ترسَّخ في الوعي الإسلامي.
إنَّ هذا الظرف التاريخي الذي يمر به السودان يؤكد ثلاث حقائق مهمة:
الأولى: ضرورة التلاحم السوداني الداخلي، والتنسيق المشترك لمواجهة الضغوط ومشاريع الاستعلاء والإملاء الأمريكية.
ويؤسفنا أن بعض الشخصيات والأحزاب السودانية استثمروا هذه الأحداث لتصفية حساباتهم الشخصية والحزبية مع الحكومة، وراحوا يصفقون للضغوط الأمريكية، ويبدو أن الجلبي العراقي سوف يطل برأسه السوداني كثيراً في ظل هذه الأحداث!!
الثانية: ضرورة التلاحم الإسلامي مع السودان، وخاصة التلاحم المصري السوداني؛ فمشروعات التقسيم والهيمنة لا تستهدف السودان فحسب، بل ستنعكس آثارها السلبية بالضرورة على مصر وجميع دول المنطقة.
وإن كنا لا نعوِّل على الدول كثيراً؛ فالأحداث المتتالية أثبتت أنهم أقل من أن يقوموا بشيء يذكر.
الثالثة: ضرورة توجه الأنشطة الإغاثية الإسلامية إلى غرب السودان، وتقديم جميع الاحتياجات الإنسانية للمسلمين بمختلف قبائلهم وأعراقهم لقطع السبيل أمام المنظمات والإرساليات الكنسية التي استحثها بابا الفاتيكان للتوجه إلى المنطقة، ويوجد الآن أكثر من عشرين منظمة تنصيرية، على رأسها: منظمة أطباء بلا حدود (الفرنسية، والهولندية، والسويسرية) ومنظمة أطباء العالم، ومنظمة العون الكنسي النرويجي، ومنظمة أوكسفام البريطانية.
إنَّ الأمر جد خطير، ولا ينبغي للتيارات الإسلامية في السودان خاصة أن تقف متفرجة إزاء هذه الأزمة؛ بل يجب أن تبادر لدور عملي فاعل لدرء الفتنة، وتتجاوز خلافاتها الداخلية وبخاصة أنها تشتعل بين قبائل مسلمة، وعليها أن تنهض لحشد الأمة لمواجهة العدوان الغربي على المسلمين.
«أقولها صريحة: يا أيها السودان!
كأنهم لم يقرؤوا تاريخك الطويل
كأنهم لم يسمعوا نشيد نهر النيل
يقول: منبعي ورافدي وكل قطرة تصب في مواردي
شواطئي مضايقي مصايدي
وكل كائن ونبتة تعيش في الضفاف والسهول
بل كل ذرة تقول:
فليُحكموا الهجوم
لن يظفروا بقطرة بشعرة بصخرة أو قشة تعوم
مائي على أمثالهم سموم
أنشودة ألَّفها النيل العظيم
قصيدة خالدة تنشدها الخرطوم
أقولها صريحة: سوداننا أشجاره رماح
أمطاره أزهاره أحجاره سلاح
جراحه مبعث شعب واعد وإنما تحيا الشعوب بالجراح
هواؤنا أسوار
أطفالنا كبار
كبارنا بحار
وكل رملة بأرضنا على الغزاة نار
مهما تكن قوتهم تظل في حسابنا أصفار
فليُحكموا الحصار
لن يُسكتوا على غصون دوحنا الأطيار
لن يسرقوا من أرضنا النهار
لن يشتروا العزة من أطفالنا الرضَّع بالدولار
لن يشتروا قرارنا.. نحن الذين نصنع القرار
أقولها صريحة: الحر لا يذل نفسه لو أكل التراب
فليحشدوا جيوشهم.. وحوشهم من ضاريات الغاب
من كل ذات مخلب وناب
وليعقدوا الأحلاف خلسة وليجمعوا الأحزاب
لن نقتل الإباء في شبابنا فذخرنا الشباب
لن ننحر الحياء في نسائنا لن نلغي الحجاب
ليُصدِروا لنا براءة من الإرهاب
إن يكن الإرهاب أن نقول: لا لسافكي دمائنا:
فنحن أمة تصدِّر الإرهاب» (*) .