للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حقيقة الشورى بين الاتباع والادعاء]

محمد بن شاكر الشريف

تحدث الكاتب في الحلقة الأولى عن الشورى في الأمم السابقة، كما تحدث عن الشورى في القرآن، وذكر أهل الشورى وبيّن صفاتهم، كما تحدث عن مجالات الشورى وفوائدها، خاصة في الأمر الذي يعني جماعة المسلمين، وابتدأ الحديث عن حكم الشورى، وذكر أنها أنواع ثلاثة: شورى واجبة ونتيجتها ملزمة، وشورى واجبة ونتيجتها غير ملزمة، وشورى مستحبة ونتيجتها غير ملزمة، ويواصل الكاتب في هذه الحلقة تفصيل ذلك:

الأولى: شورى واجبة ونتيجتها ملزمة، ومن ذلك:

١ ـ اختيار الحاكم:

إن الحاكم لا يجوز له تولي الأمر استبداداً، أو بالقوة والغلبة والقهر، بل يجب أن تكون هناك شورى بين المسلمين في ذلك، وإذا تشاور المسلمون فأجمعوا على اختيار شخص للولاية فإن نتيجة اختيارهم ملزمة، وكذلك إذا اختارته غالبيتهم أو أكثرهم، والشورى التي تحدث في ذلك هي في حقيقتها بين أهل العقد والحل، وبقية المسلمين تبع لهم في الاختيار، ويدخل ذلك تحت قوله ـ تعالى ـ: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: ٣٨] ، فإن هذا الأمر مما يصدق عليه أنه أمرهم، فهو لا يخص فرداً أو طائفةً، بل يخصهم جميعاً، ومن ثم ينبغي أن يكون هذا الأمر شورى بينهم كما بينت الآية ذلك، وقد دل عليه قول وتصرف الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وهو من الخلفاء الذين أُمرنا باتباع سنتهم في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها، وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» (١) ، فقد عدَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ تفرّد فرد أو طائفة من المسلمين بعقد البيعة من غير مشورة، غصباً لأمور المسلمين، وقال بعدما بلغه قول من يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً، قال: «إني ـ إن شاء الله ـ لقائم العشية في الناس، فمحذّرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم» (٢) ، وقال أيضاً ـ رضي الله عنه ـ في أول خطبة له بالمدينة، بعدما رجع من الحج في السنة التي قتل فيها: «من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي تابعه؛ تغرة أن يُقتلا» (٣) ، وقد قال عمر ـ رضي الله عنه ـ ذلك بمحضر من الصحابة من أهل الفقه وأشراف الناس، ولم يعارضه في ذلك أحد مما يدل على إجماع الحاضرين على وجوب الشورى في نصب الوالي. وقد أجمع أهل العلم على أن نصب الخليفة فرض كفاية على الأمة، فكيف يفرض عليها القيام بشيء في الوقت الذي لا يؤخذ رأيها فيه، أو لا يعتدّ به بعد أخذه، هذا كلام متدافع متناقض، فدل ذلك كله على أن الشورى في هذا الأمر واجبة، كما أن الالتزام بما انتهت إليه واجب أيضاً.

٢ - أمور ليست داخلة في صلاحية الحاكم، أو ليست داخلة في عقد البيعة:

يجب على المسلمين طاعة أولي الأمر الشرعيين؛ فإن مضمون البيعة أن يقوم الولاة بتنفيذ الشريعة بمعناها الشامل لا المحدود في مقابل السمع والطاعة من المسلمين، لكن ليست كل الأمور في ذلك على وِزان واحد؛ فهناك أمور ليس من صلاحية الحاكم الأمر بها أو النهي عنها، أو أنها ليست داخلة في عقد البيعة الذي يجب الوفاء به، فهذه يجب على الحاكم مشاورة أهلها، ولا يجوز له أن يتجاوز ما انتهت إليه شوراهم، وقد حدثت لذلك أمثلة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، فمن ذلك: في غزوة بدر الكبرى لما أراد الرسول -صلى الله عليه وسلم- ملاقاة المشركين ـ بعد نجاة قافلة مشركي مكة ـ استشار من معه في القتال، فوافقه على ذلك المهاجرون، لكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يكتف بذلك وقال: «أشيروا عليَّ أيها الناس!» وهو يريد بذلك الأنصار؛ وذلك أن البيعة التي أخذها عليهم في مكة لم تكن تلزمهم بالقتال خارج المدينة، وإنما كانت قاصرة على أن يمنعوه وهو في ديارهم مما يمنعون منه أنفسهم، ولم يُفرَض الجهاد في ذلك الوقت فرضاً عاماً، فكان خروج الأنصار إلى القتال في غزوة بدر خارجاً عن حد البيعة، كما لم يكن هناك إلزام من الشرع بذلك؛ لذلك أصرَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- على معرفة رأي الأنصار وموافقتهم على القتال، فقال له سعد بن معاذ ـ رضي الله عنه ـ لما فطن أن رسول -صلى الله عليه وسلم- يقصدهم بذلك: «لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقاً عليها أن لا تنصرك إلا في ديارهم! وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم؛ فاظعن حيث شئت، وصِلْ حبل من شئت، واقطع حبل من شئت..» إلى أن قال: «والله! لئن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك» فسُرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقول سعد ونشَّطه ذلك، ثم قال: «سيروا وأبشروا؛ فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم» (١) ، أخرجه مسلم بلفظ: «عن أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان، قال: فتكلم أبو بكر فأعرض عنه، ثم تكلم عمر فأعرض عنه، فقام سعد بن عبادة فقال: إيانا تريد يا رسول الله؟ والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا، قال: فندب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الناس فانطلقوا حتى نزلوا بدراً ... » الحديث (٢) ، فلم يُقْدِم الرسول -صلى الله عليه وسلم- على إشراكهم في القتال حتى استشارهم، وعلم موافقتهم بذلك، ولم يعتدَّ بقول المهاجرين؛ لأن المقصود بالشورى هنا الأنصار للعلة التي ذكرناها، وقد أجاب عنهم سعد ابن معاذ ـ رضي الله تعالى عنه ـ وكان سيدَ الأوس؛ فهو يمثل أهل العقد والحل بالنسبة لهم، ولذلك قال: «وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم» .، وفي رواية مسلم أن المتكلم سعد بن عبادة ـ رضي الله عنه ـ وكان سيد الخزرج، وهو أيضاً يمثل أهل العقد والحل بالنسبة لهم، ومن المحتمل أن يكون الاثنان قد تكلما بذلك فهما سيدا الأنصار، وأيّاً كان الأمر فإن أحداً من الأنصار لم يعترض على ذلك، ولذلك عمل الرسول -صلى الله عليه وسلم- على قولهما.

وفي غزوة حنين، عندما قسّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المسلمين غنائمهم التي أفاءها الله عليهم؛ جاء وفد هوازن مسلماً تائباً وسألوه أن يمنّ عليهم بما غنمه المسلمون منهم من السبايا والأموال، ولما كانت قسمة الغنيمة قد وقعت ووصلت أصحابها بمقتضى القسمة الشرعية، ووضع أصحابها يدهم عليها، وصارت ملكاً لهم بذلك؛ لم يكن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يأخذ منهم ما استحقوه بحكم الشرع، ويخرجه من ملكهم إلا بموافقتهم؛ لذلك عرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك عليهم وندبهم إليه، وبيَّن لهم أن من طابت نفسه بردِّ ذلك عليهم فليردّه، ومن لم تطب نفسه فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يعوِّضه عن ذلك من أول ما يفيء الله على المسلمين، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مخاطباً المسلمين بعدما أثنى على الله بما هو أهله: «أما بعد: فإن إخوانكم هؤلاء قد جاؤونا تائبين، وإني قد رأيت أن أردَّ إليهم سبيهم؛ فمن أحب منكم أن يطيب بذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظِّه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل، فقال الناس: قد طيَّبنا ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إنَّا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفعوا إلينا عرفاؤكم أمركم، فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم، ثم رجعوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا» (٣) ، فهنا أيضاً شاور رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحاب الشأن وعمل على رأيهم؛ لأنهم هم أملك بذلك، ولم يقبل الإجابة الجماعية، لأنها قد لا تمثل رأي الجميع، ولأن من وافق قد يكون وافق حياءً من غير إرادة حقيقية، لذلك طلب الرسول -صلى الله عليه وسلم- من العرفاء أن يرفعوا حقيقة الأمر.

وفي غزوة الأحزاب أراد الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يفرق صف المشركين، بأن يستميل بعضهم ويعطيهم عطاء حتى يرجعوا، ولما كان العطاء الذي يريد هو جزء من تمر المدينة، وكان هذا التمر مملوكاً لأصحابه، ولم يكن هو من ممتلكات بيت المال، فإنه لم يفعل ذلك قبل أن يستشير أصحاب المال، فاستشار في ذلك السَّعدين سيدي الأنصار: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، يقول الذهبي: «إن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث بن عوف فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما، فجرى بينه وبينهما الصلح حتى كتبوا الكتاب، ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح، إلا المراوضة في ذلك، فلما أن أراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يفعل بعث إلى السَّعدين فاستشارهما، فقالا: يا رسول الله: أمراً تحبه فنصنعه، أم شيئاً أمرك الله به لا بد لنا منه، أم شيئاً تصنعه لنا، قال: بل شيء أصنعه لكم، والله! ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم، فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله! قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك، ولا يطمعون أن يأكلوا منا تمرة إلا قرىً أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزنا بك، نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، قال: فأنت وذاك، فأخذ سعد الصحيفة فمحاها ثم قال: ليجهدوا علينا» (١) ، فالشورى هنا واجبة ونتيجتها ملزمة.

الثانية: شورى واجبة ونتيجتها غير ملزمة:

المسلم مطالب بأن يُقًْدم على ما يقدم عليه على علم وبصيرة، ولا يجوز له الإقدام على جهل، ويعظم ذلك بأمرين أحدهما: أن يكون صاحب الإقدام كبيراً معظماً يتبعه على ما أقدم عليه الكثيرون، والثاني: أن يكون الأمر المقدَم عليه أمراً ذا شأن، وهذان متحققان بأوضح صورة في حالة الأمير أو الوالي؛ إذ ما يقدم عليه ترتبط به مصالح الأمة، ويتبعه على ذلك الناس جميعهم، فإذا كان هو يجهل ولا يدري ما التصرف الصواب إزاء هذا الأمر، لم يحل له أن يقدم على جهل، بل يجب عليه والحالة هذه أن يستشير في هذا الأمر من يثق بعلمه، ودينه وأمانته التي تحجزه عن أن يشير بهواه أو بالباطل، ويدخل في ذلك مسائل الاجتهاد، وكذلك مسائل الدنيا، وقد يكون المستشار في ذلك فرداً واحداً، أو عدة أفراد كل على حدة، أو مجموعة من الناس سواء سموا مجلس الشورى أو لم يسموا، وإذا استشارهم وتبين له من الكلام معهم ومن المداولات والمراجعات وجه الصواب الذي ينبغي العمل عليه، فلا يجب عليه والحالة هذه أن يلتزم بما انتهت إليه الشورى، سواء اتفقوا على رأي واحد أو اختلفوا فيما بينهم، ما دام ولي الأمر عدلاً، وجاء باختيار حقيقي من المسلمين، بل يجب عليه أن يعمل بما ظهر له صوابه، وليس في يد أحد نص شرعي يبين أن الإنسان يترك ما تبين صوابه من القول أو العمل، من أجل أن كثيرين من نظرائه أو ممن هم أكثر منه علماً قد خالفوه في رأيه. قال ابن أبي العز الحنفي صاحب (شرح الطحاوية) : «وقد دلَّت نصوص الكتاب والسنَّة وإجماع سلف الأمة أن ولي الأمر، وإمام الصلاة، والحاكم، وأمير الحرب، وعامل الصدقة؛ يُطاع في مواضع الاجتهاد، وليس عليه أن يطيع أتباعه في موارد الاجتهاد، بل عليهم طاعته في ذلك وترك رأيهم لرأيه» (٢) . وقال ابن عاشور: «وقوله: {فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: ١٥٩] ، العزم: هو تصميم الرأي على الفعل، وحذف متعلق عزمت؛ لأنه دل عليه التفريع عن قوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: ١٥٩] ، فالتقدير: فإذا عزمت على الأمر، وقد ظهر من التفريع أن المراد: فإذا عزمت بعد الشورى، أي تبين لك وجه السداد فيما يجب أن تسلكه، فعزمت على تنفيذه، سواء كان على وفق بعض آراء أهل الشورى، أو كان رأياً آخر للرسول [ظهر] سداده، فقد يخرج من آراء أهل الشورى رأي، وفي المثل: ما بين الرأي والرأي رأيٌ» (٣) .

فإن «الشورى مبنية على اختلاف الآراء، والمستشير ينظر في ذلك الخلاف وينظر أقربها قولاً إلى الكتاب إن أمكنه؛ فإذا أرشده الله ـ تعالى ـ إلى ما شاء منه، عزم عليه، وأنفذه متوكلاً عليه؛ إذ هذه غاية الاجتهاد المطلوب، وبهذا أمر الله ـ تعالى ـ نبيه -صلى الله عليه وسلم- في هذه الآية يعني قوله ـ تعالى ـ: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: ١٥٩] (٤) ، وقال ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ: «لا غنى لولي الأمر عن المشاورة؛ فإن الله ـ تعالى ـ أمر بها نبيه -صلى الله عليه وسلم- فقال ـ تعالى ـ: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: ١٥٩] ، وقد رُوي عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: «لم يكن أحد أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-» ، وقد قيل: إن الله أمر بها نبيه لتأليف قلوب أصحابه، وليقتدي به مَنْ بعده ليستخرج منهم الرأي فيما لم ينزل فيه وحي: من أمر الحروب والأمور الجزئية، وغير ذلك، فغيره -صلى الله عليه وسلم- أوْلى بالمشورة.

وقد أثنى الله على المؤمنين بذلك في قوله: {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الشورى: ٣٦ - ٤٠] ، وإذا استشارهم فإن بيَّن له بعضهم ما يجب اتِّباعه من كتاب الله أو سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- أو إجماع المسلمين، فعليه اتِّباع ذلك، ولا طاعة لأحد في خلاف ذلك، وإن كان عظيماً في الدين والدنيا. قال الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء: ٥٩] (٥) .

وقد تبين من قصة ملكة سبأ أن رأيها وحدها كان هو الصواب، ولو أخذت بما عرَّض به الملأ من قومها وهو الحرب لكان فيه الهلاك لهم جميعاً، وهو ما يبين أن الإنسان الفرد ربما أدرك من الصواب ما لم يدركه الكثيرون من أهل النظر والاستشارة.

لكن ها هنا حالة، وهي ما إذا لم يتمكن الحاكم من معرفة الأصوب من الأقوال والآراء والخطط، فيما عرض عليه في الحادثة موضوع الشورى، بحيث لم يكن عنده ما يُرَجَّح به قول على آخر، فقد اختلف أهل العلم في ذلك، والأرجح والله ـ تعالى ـ أعلم أن يلتزم قول الغالبية أو الأكثرية في هذه الحالة، فتكون هذه المسألة من مسائل الحالة الأولى «شورى واجبة ونتيجتها ملزمة» ، أما إذا اختلفوا على عدة آراء، ولم يكن هناك ما يمكن أن يقال عنه أغلبية أو أكثرية، فله أن يتبع في ذلك من كان عنده أرضى علماً وديناً سواء كان فرداً أو مجموعة. قال ابن تيمية بصدد هذه الحالة: «وإن كان أمراً قد تنازع فيه المسلمون، فينبغي أن يستخرج من كل منهم رأيه ووجه رأيه، فأي الآراء كان أشبه بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- عمل به، كما قال ـ تعالى ـ: {فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: ٥٩] ، وأولو الأمر صنفان: الأمراء والعلماء، وهم الذين إذا صلحوا صلح الناس، فعلى ـكل منهما أن يتحرَّى ما يقوله ويفعله، طاعة لله ورسوله واتِّباع كتاب الله، ومتى أمكن في الحوادث المشكلة معرفة ـما دل عليه الكتاب والسنة كان هو الواجب، وإن لم يمكن ذلك لضيق الوقت، أو عجز الطالب، أو تكافؤ الأدلة عنده، أو غير ذلك فله أن يقلد من يرتضي علمه ودينه، هذا أقوى الأقوال، وقد قيل: ليس له التقليد بكل حال، والأقوال الثلاثة في مذهب أحمد وغيره) (١) .

الثالثة: شورى مستحبة ونتيجتها غير ملزمة:

وهو كل ما يراد اتخاذ قرارٍ فيه، مما يحتمل عدة أوجه، وهو داخل في صلاحيات ولي الأمر، ووجه الصواب واضح فيه، فإنه يجوز لولي الأمر المشاورة فيه، بل تستحب - إذا لم يكن من الأمور التي لا تحتمل التأخير - تشوّفاً لمزيد من العلم والاطلاع حول الموضوع؛ وحذراً من الوقوع في الخطأ غير المقصود، تمشّياً مع قول القائل: «رَأْيُنا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب» ، و «من جاءنا بأحسن مما قدرنا عليه أخذنا به» ، ويدخل في ذلك تسيير ولي الأمر لأمور الدولة، وإصداره للتعليمات التي تنظِّم العمل، وعمل اللوائح والنُّظُم التي يضبط بها أمره، واختياره لمعاونيه، وتوليته للولاة على الأقاليم أو غيرها، وتحديد صلاحياتهم ومحاسبتهم وعزلهم إذا اقتضى الأمر، ونحو ذلك من الأمور التي تدخل في صلاحياته؛ فإنه يعمل ذلك انطلاقاً من صلاحياته، ولا تجب عليه الاستشارة في ذلك، وإن كانت السنة النبوية تبين أن الاستشارة في هذه الأمور وما جرى مجراها فيها خير كبير، ولن يعدم المستشير أن يستفيد خيراً إذا أحسن اختيار من يستشيره. قال النووي ـ رحمه الله تعالى ـ: «واعلم أنه يُستحبّ لمن همّ بأمر أن يُشاور فيه مَن يَثقُ بدينه، وخبرته وحذقه، ونصيحته ووَرَعه وشفقته، ويُستحبّ أن يُشاور جماعة بالصفة المذكورة، ويستكثر منهم ويعرّفهم مقصودَه من ذلك الأمر، ويُبيِّن لهم ما فيه من مصلحة ومفسدة إن علم شيئاً من ذلك، ويتأكّدُ الأمرُ بالمشاورة في حقّ ولاة الأمور العامة: كالسلطان والقاضي ونحوهما» (٢) . وعندما يستشير الحاكم فهو الذي يحدد كيف يشاور: أيكون ذلك فردياً؛ بمعنى أن يستشير كل فرد على حدة، أم جماعياً، بمعنى أن يجمعهم معاً ويعرض عليهم ما يريد، أم يستخدم هذا حيناً، وذاك حيناً آخر، وهذا في مسائل، وذاك في مسائل أخرى، وهل لذلك عدد ثابت، أو يستشير فرداً في حالة وأفراداً في حالات أخرى؟ وهل يلزم لذلك تكوين مجلس يُعرف بمجلس الشورى أو لا؟ وهل لهذا المجلس اجتماعات دورية أو أنه ينعقد عند الاستدعاء؟ وإذا كانت له اجتماعات دورية؛ فكم مرة يجتمع في السنة مثلاً، وأين، ومتى؟ والطريقة التي يتم تبادل الرأي فيها بين المجتمعين، وإلى أي مدى يؤثر غياب بعض أهل الشورى في قرارهم؟ وهل لذلك نصاب محدد؟ ونحو ذلك من الأمور؛ وذلك أن التكييف الفقهي لوضع أهل شورى الحاكم، أنها جماعة مساندة أو معاونة للحاكم، وليست جماعة رقابة أو حسبة، فكما يختار الحاكم الوزراء والولاة ونحوهم، فإنه يختار أيضاً مستشاريه، انطلاقاً من مسؤوليته، ولا يمكن أن يكون الحاكم محاسباً أمام الأمة ومسؤولاً عنها، في الوقت الذي يمنع من تسيير الأمور بطريقته التي يراها، فيما هو داخل في صلاحياته، ويبقى بعد ذلك للأمة حق الاحتساب عليه في ذلك إذا أساء التصرف أو لم يحسن التدبير.

وتحرم المشاورة فيما تبيَّن فيه حكم الشرع: بإيجاب، أو تحريم، أو إباحة، فلا يمكن المشاورة فيه؛ لقضاء الله ورسوله في ذلك، قال الله ـ تعالى ـ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: ٣٦] ، ولا تكون الشورى فيه إلا في فهم المقصود منه، أو في كيفية التنفيذ، إذا كان هناك أكثر من طريقة لتنفيذه.

والشورى تعمل ضمن نظام متكامل، ومن ثم فإنه من غير المقبول أن يأخذ بعض الناس هذه الجزئية من النظام السياسي الإسلامي ثم يتركون باقيه؛ لأن النظام السياسي في الإسلام كالجسد يشد بعضه بعضاً؛ فإذا غاب بعضه اختل توازنه، فالنظام السياسي وهو يبين هذه الأحكام المتعلقة بالشورى، فإنه قبل ذلك اشترط شروطاً معينة فيمن يصلح أن يكون ولياً لأمر المسلمين، من العلم والعدالة والشجاعة، والخبرة بسياسة الدنيا، على ما هو مذكور في كتب الأحكام السلطانية، كما بَيَّن الطريقة التي يمكن أن يتولى بها هذا الأمر، والتي هي في لُبِّها أن يكون ذلك بشورى المسلمين الحقيقية، ثم بعد ذلك جعل للمسلمين الحق في محاسبة الولاة عند مخالفتهم لأحكام الشريعة، أو عند عدم قدرتهم على تحقيق المقاصد الدينية والدنيوية من نصبهم، أو عند تجاوزهم للصلاحيات المشروعة لهم، بل أوجب عليهم ذلك.

في تلك العصور المفضلة اتخذت الشورى عديداً من الصور، ولم يُلتزم فيها بصورة واحدة أو طريقة معينة، ولكنها مع ذلك اتفقت في تحقيق الغرض من الشورى، فكانت شورى حقيقية وليست شورى شكلية؛ فمن هذه الصور:

ـ في غزوة بدر عندما أرد -صلى الله عليه وسلم- النزول في مكان ما، أشار عليه أحد الصحابة وهو الحباب بن المنذر ـ على ما تروي كتب السيرة ـ بالنزول في مكان آخر لمناسبته لظروف المعركة، فقبل منه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك لمَّا تبين له جودة الرأي، ولم يحتج إلى مشاورة غيره في ذلك.

ـ وفي غزوة بدر أيضاً عندما استشار الأنصار في القتال، وقام سيدهم سعد ـ رضي الله عنه ـ موافقاً ومؤيداً، اكتفى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله، ولم يستشر بقية الأفراد؛ إذ لم يعترض أحد منهم على ما قاله سعد.

ـ وفي أسرى بدر استشار الرسول -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر وعمر، فقال لهما: ما ترون في هؤلاء الأسارى (١) ؟ وتضيف بعض الروايات إليهم علياً لكنها لم تذكر له رأياً، وبعضها تضيف عبد الله بن رواحة وتذكر رأيه، ولم يستشر غيرهم صراحة، وأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقول أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ، ولم يأخذ بقول عمر، وقد يكون ظهر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ميل الناس لما رآه أبو بكر، لكن ليس على ذلك دليل صريح.

ـ وفي غزوة أحد استشار الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابه، وكان يرى هو البقاء في المدينة والتحصن فيها، وكان يرى مثل رأيه الأكابر من المهاجرين والأنصار، وكذلك عبد الله بن أبيّ بن سلول، وكان على رأي عبد الله بن أبيّ ثلث الجيش، وكان - كما يقول ابن سعد -: «فتيان أحداث لم يشهدوا بدراً فطلبوا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الخروج إلى عدوهم ورغبوا في الشهادة» (٢) ، ولما ألحوا عليه في الخروج وافقهم على ذلك، ولم يكونوا هم الأكثرية كما يلهج بذلك كثير من المعاصرين؛ فإن جيش المسلمين في غزوة أحد حسب ما تذكر المصادر كان حوالي الألف، وقد انخزل عبد الله بن أبيّ بن سلول ـ رأس المنافقين ـ بثلثهم حينما توجهوا للقتال، على أساس أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يأخذ برأيه وأخذ برأي الفتيان، وهو ما يبين موافقة المنخذلين على رأيه في عدم الخروج، وقد كان الذين ألحّوا على الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الخروج هم الذين لم يشهدوا بدراً، وقد كانت عدة أهل بدر فوق الثلاثمائة بقليل؛ فإذا طرحنا عدة أهل بدر وكذلك المنخذلين مع عبد الله بن أبيّ بن سلول من عدةّ أهل أحد، فكيف يكون الباقون وهم الراغبون في الخروج هم الأكثرية؟ على أنَّا نقول: إنه لم يكن في رأي المشيرين بالخروج خطل أو خلل، كما يحاول أن يروِّج ذلك القائلون بوجوب الأخذ برأي أغلبية أهل الشورى ولو كان الرأي خطأ، أو أدّى إلى هزيمة كما حصل في أحد، ويقولون: تهزم الأشخاص ولا تهزم المبادئ، والثابت يقيناً أن الهزيمة في أُحُد لم تكن بسبب الخروج، ولم تكن الإشارة بالخروج خطأ، وإنما الخطأ كان في مخالفة الرماة لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حينما تركوا أماكنهم للاشتراك في الغنيمة، فقد هزم المسلمون المشركين في أول النهار، وظلوا يجمعون الغنائم، مما أغرى الكثير من الرماة بالنزول عن أماكنهم للمشاركة في الغنيمة، وقد بين الله ـ تعالى ـ ذلك بقوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهُم بِإذْنِهِ حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران: ١٥٢] ، قال ابن جرير ـ رحمه الله تعالى ـ: «يعني بقوله ـ تعالى ذكره ـ: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ} أيها المؤمنون من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- بأُحد وعده الذي وعدهم على لسان رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-، والوعد الذي كان وعدهم على لسانه بأُحد قوله للرماة: اثبتوا مكانكم ولا تبرحوا، وإن رأيتمونا قد هزمناهم، فإنَّا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم، وكان وعدهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- النصر يومئذ، إن انتهوا إلى أمره» (٣) ، ويقول ابن كثير: «وقد كان النصر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه أول النهار حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة» (٤) ، فأراهم الله ـ تعالى ـ ما يحبون وهو النصر، ومكَّنهم من الكفار فأخذوا يحسونهم بإذنه، والحسّ: القتل، أي يقتلونهم بحكمه وقضائه لهم بذلك، وتسليطه لهم عليهم، ففي هذه الغزوة استشار الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكان له رأي وافقه عليه أكثر أصحابه، وأخذ برأي مخالف لرأيه، وهو يعلم أن النصر متحقق في كلا الحالين إذا امتثلوا أمره، وقد كان النصر للمسلمين، إلى أن عصوه فبدل الله حالهم، كما قال ـ تعالى ـ: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} [آل عمران: ١٦٥] .

ـ وفي غزوة الخندق أشار سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحفر الخندق، وهي الخبرة التي اكتسبها سلمان من الفرس، فأخذ بقوله ولم يستشر غيره في ذلك، وأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بحفر الخندق وحفر معهم، قال ابن حجر: «وكان الذي أشار بذلك سلمان فيما ذكر أصحاب المغازي منهم أبو معشر، قال: قال سلمان للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إنَّا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا، فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بحفر الخندق حول المدينة، وعمل فيه بنفسه ترغيباً للمسلمين، فسارعوا إلى عمله حتى فرغوا منه» (٥) .

وقد روي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لأبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ: «لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما» (٦) ، وفي هذا دليل على أن استشارة بعض الناس من أهل العلم والفضل والإيمان تغني عن استشارة غيرهم، وأن قولهم مقدم على قول غيرهم عند الاختلاف، وفيه من الدليل أيضاً على أن الناس لا يستوون في أمر الشورى، وأن هناك من الأفراد من يوزن قولهم ورأيهم بقول العشرات أو بالمئات من الناس، والأمثلة من استشارة الرسول -صلى الله عليه وسلم- كثيرة، وغرضنا التمثيل وليس الاستيعاب.

ولو انتقلنا إلى عصر الخلافة الراشدة لوجدنا أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ يقول في وصيته لعمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ عندما أرسله أميراً على جيش من جيوش المسلمين: «وشاور أهل الرأي والتجربة ولا تستبد برأيك دونهم؛ فإن في ذلك احتقاراً للناس ومعصية لهم» (٧) ، فأمره بالشورى ونهاه عن الاستبداد بالرأي وذكر له الحكمة من ذلك، وبيّن له مَنْ مِن الناس يشاور، وهي شورى قاصرة على أهل الرأي والتجربة وليست شورى عامة.

وكتب عمر إلى شريح القاضي: «أن اقضِ بما استبان لك من قضاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإن لم تعلم كل أقضية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاقضِ بما استبان لك من أئمة المهتدين، فإن لم تعلم كل ما قضت به أئمة المهتدين فاجتهد رأيك واستشر أهل العلم والصلاح» (١) ، فأمره بالاستشارة عند الاجتهاد، وحدَّد له مَن الذين يشاورهم، وهم أهل العلم والصلاح؛ فهم الذين يرجع إليهم في القضاء، وقال عمر أيضاً: «واستشر في أمرك الذين يخشون الله» (٢) ، ففيه ـ أيضاً ـ بيان صفة من يستشار، «وكتب عمر بن الخطاب إلى النعمان بن مقرن ـ رضي الله عنهما ـ: أن استعن في حربك بطليحة وعمرو بن معد يكرب، واستشرهما في الحرب، ولا تولهما من الأمر شيئاً، فإن كل صانع أعلم بصناعته. أخرجه أبو عمرو وأبو موسى» (٣) ، فأمره باستشارة أهل الخبرة والتجربة، فـ «القاضي والإمام والحاكم لا ينفذ قضاء ولا يفصله إلا عن مشورة من بحضرته، ويصل إليه ويقدر عليه من علماء موضعه، وهذا مشهور من مذهب عمر رضي الله عنه. ذكر سيف بن عمر عن عبد الله بن المستورد عن محمد بن سيرين قال: عهد عمر إلى القضاة أن لا يصرموا القضاء إلا عن مشورة وعن ملأ وتشاور، فإنه لم يبلغ من علم عالم أن يجتزئ به، حتى يجمع بين علمه وعلم غيره، وتمثَّل:

خليليَّ ليس الرأي في صدر واحد

أَثِيرَا عليَّ اليوم ما تريان

ولم يكن في عدم تنظيم الشورى في ذلك الوقت أو عدم سلوك طريق محدد في إجرائها نقص أو قصور، فقد كان أهل الرأي والخبرة يحيطون برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان من السهل جداً استشارة من يريد استشارته، فلم تكن البيئة التي تجري فيها الشورى آنذاك تحوج إلى التنظيم، وكان في هذا دليل على أن المطلوب القيام بالشورى حقيقة بغضِّ النظر عن الرسوم والأشكال.

وعدم تنظيم الشورى في شكل موحد أو طريقة محددة هو في الواقع من طبيعة هذا الأمر؛ فإن هذا من باب الوسائل، والوسائل تتغير بتغير المكان والزمان والبيئة تبعاً لعوامل متعددة، فكان من الحكمة - التي تتميز بها التشريعات الإسلامية - تقرير الأحكام الشرعية مع عدم إلزام المسلمين على مدى الزمن بوسيلة تنفيذ ترتبط ملاءمتها ببيئتها التي تعمل فيها؛ فقد أمر الله ـ تعالى ـ مثلاً بالسعي إلى صلاة الجمعة فقال ـ تعالى ـ: {إذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: ٩] ، ولم يلزمنا بطريقة واحدة في السعي؛ فمنا اليوم من يسعى على رجليه، ومنا من يسعى على دابة، ومنا من يركب السيارة، وهكذا؛ فالوسيلة هنا غير مرادة، وإنما المراد السعي إلى صلاة الجمعة، فبأي طريق أو وسيلة سعى الإنسان جاز، وحيث تكون الوسيلة مرادة فإن النصوص الشرعية تدل عليها؛ كالأذان مثلاً فهو وسيلة للإعلام بدخول وقت الصلاة، لكنه لما كان مراداً لما اشتمل عليه من تقرير عقيدة التوحيد، والحث على الصلاة، وبيان أنها هي الفلاح نفسه؛ فقد أمرت به النصوص الشرعية. ومن هنا يتبين أن الشريعة إذا أمرت بشيء ولم تحدد طريقاً أو وسيلة معينة لأدائه، كان هذا حكماً بإباحة كل الطرق والوسائل التي تؤدي إلى تحقيقه، وليس عليها قيد سوى: أن لا تخالف هذه الطرق الأحكام أو المقاصد الشرعية الحقيقية، وأن تكون مؤدية حقاً إلى تحقيق الحكم الشرعي، وأن لا يترتب على الطريق المحدد مفسدة تزيد على المصلحة المتحققة، وأن لا تكون ثابتة ثبوت الأحكام الشرعية بل يمكن تغييرها إذا فقدت مسوغ اتخاذها، أو إذا تبين وجود طرق أفضل منها لتحقيق المقصود.

ليس هناك في الشرع ما يمنع من تنظيم الشورى، ولذلك سابقة في الصدر الأول؛ فعندما طُعِنَ عمر ـ رضي الله عنه ـ حصر الخلافة في ستة أشخاص، وهم الذين توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنهم وهو راض، وأمرهم بالتشاور فيما بينهم لاختيار واحد منهم، ثم أدخل معهم في الاختيار عبد الله بن عمر ليكون مرجحاً عند انقسام الآراء أقساما متساوية، وأمرهم أن لا يزيد وقت تشاورهم في ذلك عن ثلاثة أيام، وجعل صهيباً على الصلاة في تلك الأيام، وأمر بانعزالهم عن الناس أثناء التفاوض حتى لا يشوش عليهم أحد، وأقام عليهم حراسة من خمسين رجلاً حتى يمنعوا الناس من الدخول عليهم إلى آخر ما ورد في هذا التنظيم العبقري، فلِوَلي الأمر على ذلك أن يقوم بتنظيم الشورى الخاصة به في مجلس شورى أو نحو ذلك، فيختار له من يثق فيهم ممن تتوفر فيهم صفات أهل الشورى، ويحدد عددهم، ويضع لهم التعليمات والضوابط التي تضبط العمل، ويستعين المجلس بمجموعات متخصصة في الأمور الفنية نظراً لتشعب التخصصات، واستحالة أن تحيط مجموعة صغيرة بجميع التخصصات، وأن تكون هناك متابعة ومراقبة شرعية من المجلس نفسه للتأكد من عدم مخالفة الاقتراحات للقواعد أو الأحكام الشرعية، ثم تُعرض الاقتراحات المختارة على ولي الأمر فيتدارسها معهم أو مع وزرائه ومعاونيه، ويعمل بما يرى أنه الأفضل من الاقتراحات المتقدمة، ويبقى بعد هذا كله حق الاحتساب من المتابعة والمراقبة لأهل الحل والعقد، سواء في اختيار أهل الشورى، أو في اختيار الاقتراحات للعمل


(١) أخرجه أبو داود، كتاب: السنة، رقم ٣٩٩١؛ واللفظ له، والترمذي، كتاب: العلم، رقم ٢٦٦٠، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(٢) البخاري، كتاب: الحدود، رقم ٦٣٢٨.
(٣) البخاري، كتاب: الحدود، رقم ٦٣٢٨، وتغرة أن يقتلا: أي حذراً من القتل، قال ابن حجر: والمعنى أن من فعل ذلك فقد غرر بنفسه وبصاحبه وعرضهما للقتل.
(١) الرحيق المختوم، الشيخ صفي الرحمن المباركفوري، (ص ١٨٦) ، وانظر: السيرة النبوية، لابن هشام: ١/٦١٦.
(٢) أخرجه مسلم، كتاب: الجهاد، رقم ٣٣٣٠.
(٣) أخرجه البخاري، كتاب: الوكالة، رقم ٢١٤٢.
(١) تاريخ الإسلام، ١/٢٤٠.
(٢) شرح الطحاوية، (٢/٥٣٤) ، ط/ دار هجر.
(٣) التحرير والتنوير، ١/٨٥١، وما بين القوسين زيادة من الكاتب لاستقامة المعنى به.
(٤) تفسير القرطبي، ٤/٢٤٠.
(٥) السياسة الشرعية، ص ٢١٣.
(١) السياسة الشرعية، ص ٢١٣.
(٢) الأذكار للنووي، ١/٧٥٥.
(١) أخرجه مسلم، كتاب: الجهاد، رقم ٣٣٠٩.
(٢) طبقات ابن سعد: ٢/٣٨.
(٣) تفسير ابن جرير الطبري: ٣/٤٦٨.
(٤) تفسير ابن كثير: ١/٥٤٥.
(٥) فتح الباري: ٧/٢٩٣-٢٩٤، وأورده البغوي أيضاً في تفسيره: ١/٣٢١.
(٦) أخرجه أحمد: رقم ١٧٣٠٩، لكن الحديث ضعفه الألباني والأرناؤوط.
(٧) الاستذكار لابن عبد البر: ٥/٢١.
(١) إعلام الموقعين، لابن القيم: ١/٤٧.
(٢) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف: ٥/٢٢٩.
(٣) أسد الغابة: ١/٥٤٨.