للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الافتتاحية

[الطور الثاني لدولة يهود]

كان مقتل (رابين) - رئيس وزراء (إسرائيل) السابق وزعيم حزب العمل -

عام ١٩٩٥م أثناء إحدى جولاته الانتخابية على يد أحد المتطرفين اليهود علامة

واضحة على مدى التنافر القائم بين مختلف الأطراف في مجتمع الكراهية اليهودي

في فلسطين المغتصبة؛ ولهذا فليس من المستغرب تركيز (أيهود باراك) في

برنامجه الانتخابي على شعار إعادة اللّحمة إلى (المجتمع الإسرائيلي) بعد أن فرقتهم

سياسات الليكود؛ ولهذا سُمي التحالف بين حزب العمل وحركتي (غيشر وميماد)

التي قادها في الانتخابات بقائمة: (إسرائيل واحدة) .

إن من يتابع الانتخابات اليهودية تتكشف أمامه جوانب من شخصية اليهودي

النمطية، ويتبين مقدار النجاح والإخفاق في محاولة جمع شتات اليهود في مجتمع

متجانس. والذي يهمنا هو توضيح بعض الصور التي انطبعت في الذهن بعد

أسابيع من المتابعة للنشاط الانتخابي في (إسرائيل) وإليك بعضها:

أولاً: التغطية الإعلامية:

استغل اليهود نفوذهم الإعلامي في إبراز ديمقراطية النظام في (إسرائيل)

وتفرده في المنطقة، وبالغوا في متابعة العملية الانتخابية حتى تخال نفسك تتابع

الانتخابات الأمريكية. ومن الغريب أن هناك شبه إجماع على الوقوف ضد نتنياهو

حتى إنه اشتكى من الحملة الإعلامية ضده، ومما لا شك فيه أن للإعلام دوراً مهماً

في إسقاط شخص نتنياهو ثم الليكود.

وهنا لا يفوتنا الإشارة إلى أنه على الرغم من غياب الديمقراطية في العالم

العربي فإن الملاحظ هو تعاظم الاهتمام الإعلامي الرسمي فيه بهذه الانتخابات وما

يمكن أن تؤدي إليه!

ثانياً: ظهور الأحزاب الفئوية:

تُعتبر الأحزاب اليهودية الأولى في فلسطين المحتلة امتداداً لأحزاب قائمة في

أوروبا الشرقية وروسيا؛ فمثلاً تشكل حزب العمل الموحد في روسيا عام ١٨٩٧م،

وحزب مرزاحي في المجر عام ١٩٠٢م، وحزب اغودات (إسرائيل) عام ١٩١٢م

وكانت الحركة الصهيونية تشجع قيام هذه الأحزاب لتنظيم اليهود في العالم. وقد

نص عليه برنامج قيام هذه الأحزاب لتنظيم اليهود في العالم، وقد ذكره برنامج

مؤتمر بال ١٨٩٧م، وهكذا بلغ عدد الأحزاب عام ١٩٤٨م (١٢) حزباً ارتفع بعد

عام واحد فقط إلى (٢٤) حزباً، ووصلت القوائم الحزبية وغير الحزبية إلي (٣١)

قائمة في عام ١٩٨١م؛ ومن الملاحظ سيطرة اليهود الغربيين (الأشكناز) على

النشاط السياسي؛ فهم زعماء جميع الأحزاب وينظرون إلى أنفسهم أنهم بناة الدولة،

ولا يخفي بعضهم الضيق من اليهود الشرقيين (السفارديم) الذين يُتهمون بالتخلف؛

وبالمقابل فإن اليهود الشرقيين الذين هاجروا بعد قيام الدولة يحسون بالغبن وبالتحيز

ضدهم، وأن نسبتهم في المناصب القيادية لا تكاد تذكر مقارنة مع عددهم الذي

يتجاوز نصف عدد اليهود مع تزايد النسبة نظراً لتناسلهم السريع مقارنة مع

الأشكناز الذين يرون في هجرة الروس الحل الوحيد لمعالجة هذا الخلل مما أوجد

حالة من التنافر الشديد بين اليهود الشرقيين - ويمثلهم حزب شاس - والمهاجرين

الروس - ويمثلهم حزب المهاجرين الجدد (يرائيل بعاليه) .

لقد تمكن حزب شاس من استقطاب اليهود الشرقيين؛ ولا أدل على ذلك من

ارتفاع عدد نوابه من ١٠ نواب عام ١٩٩٦م إلى ١٧ نائباً في هذه الانتخابات وحل

في المرتبة الثالثة بفارق بسيط بعد الليكود، وكان هذا الحزب متحالفاً مع الليكود

ومسيطراً على وزارة الداخلية التي استغلها في تقديم الخدمات لأتباعه مع محاربة

المهاجرين الروس وذلك بالتشكيك في يهوديتهم وحرمانهم من الامتيازات، واتهامهم

بأنهم وراء تجارة المخدرات والجنس ونشرها في المجتمع؛ ولهذا فإن المهاجرين

الروس يهاجمون شاس ويطالب حزبُهم بوزارة الداخلية لخدمة قاعدتهم الانتخابية.

فهل يأتي اليوم الذي يجد فيه المهاجرون الأوائل من الأشكناز أنفسهم مضطرين إلى

تشكيل حزب خاص بهم من أجل الحفاظ على مصالحهم؟

ثالثاً: من الذي سقط: الليكود أم نتنياهو؟

لا شك أن لنتنياهو دوراً كبيراً في سقوط تجمع الليكود وحلفائه؛ فقد أجمعت

الدوائر الداخلية والخارجية على وجوب إزاحة نتنياهو؛ إذ لم يعد وجوده يُحتمل؛

فقد ساءت العلاقة بينه وبين اللوبي اليهودي المتنفذ في أمريكا، وكان مصدر حرج

كبير للزعماء العرب المتعاملين مع (إسرائيل) . ولا ننسى كيف أغضب أقرب

الأصدقاء العرب عندما نفذ الموساد بأمر منه عملية اغتيال خالد مشعل التي لم

يفلحوا بها في عمان؛ أما داخل حزبه فقد خرج ثلاثة من أقطابه وأكثرهم شعبية

وهم (دان مريدور، وإسحاق مردخاي، وبني بيجن) بسبب خلافاتهم الشخصية مع

نتنياهو، وانضموا للمعارضة وساهموا في إسقاطه. وقيادات حزب العمل أيضاً

يعترفون بهذه الحقيقة؛ فمثلاً يقول غوري برعام: (يجب ألا نضلل أنفسنا؛ لقد

كانت نتيجة الانتخابات بمثابة حجب ثقة عن نتنياهو وليس تأييداً ليهود باراك) .

وكان انسحاب المرشحين لصالح باراك آخر ضربة توجه لنتنياهو.

وقد استقال نتنياهو من الليكود وسيترك البرلمان (الكنيست) ويسافر إلى

أمريكا مما يعني نهاية مستقبله السياسي.

رابعاً: باراك في الانتخابات:

قامت حملة العمل الانتخابية على ثلاث ركائز أساسية تتلخص فيما يلي:

١- أن الانتعاش الاقتصادي في عهد رابين وبيريز انقلب إلى ضائقة بسبب

سياسات نتنياهو وتعطيله عملية التطبيع مع العرب مما أفقد (إسرائيل) كلاً من

الاستثمارات الأجنبية والأسواق العربية المنتظرة في حال نجاح ما يسمى بعملية

السلام.

٢- أنه لا توجد فروق في المواقف السياسية وبخاصة في المسار التفاوضي

مع الفلسطينيين، وأن باراك قادر على ضمان تحقيق المصالح الاستراتيجية

والأمنية بصورة أفضل من نتنياهو. وكما يقول أحد منظّري اليمين في (إسرائيل)

البروفيسور (يهوشع بورات) في معرض تسويغه تأييد باراك: (إنني على يقين أن

ما يحققه نتنياهو بثمن كبير تدفعه دولة (إسرائيل) يحققه باراك وأكثر منه دون أن

نخسر شيئاً يُذكر) . وكان يهود باراك يكرر كثيراً أن المرء يحتاج إلى ميكروسكوب

لكي يدرك الفروق الأيديولوجية بين حزبي العمل والليكود.

٣- التركيز من ناحية على عيوب نتنياهو الشخصية: وكانت وسائل الإعلام

تبرز أن نتنياهو كان كاذباً ومستعداً لعمل أي شيء من أجل تحقيق مصالحه

الشخصية، وأنه يدبر الدسائس حتى لأقرب الناس إليه، وأخيراً فإنه لا يستطيع

ادعاء الطهر بعد اعترافه بالخيانة الزوجية، ومن ناحية أخرى فقد قدم باراك نفسه

بوصفه الضابط الذي حصل على أكبر قدر من الأوسمة تقديراً لعملياته ضد

الفلسطينيين، وأبرز شهادات قادة سابقين في الجيش والمخابرات يشيدون فيها

بتجربته قائداً، ويثنون على صفاته الشخصية، وكما يصف نفسه في كرّاسٍ

انتخابيّ مكتوب بالروسية وموجه للمهاجرين الروس الجدد ويحمل عنوان: (أيهود

باراك الجندي رقم واحد في إسرائيل) . تحدث فيه عن عمليات قادها باراك؛ منها:

عملية اغتيال قادة منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت عام ١٩٧٣م، وهم كمال

ناصر وكمال عدوان ويوسف النجار؛ حيث يقول: (لقد اطلقت النار على رؤوسهم، وقد تطاير بياض عيونهم على قبعتي) ومنها أيضاً: عملية اغتيال (أبو جهاد) ،

وقصف مقر المنظمة في تونس، والتخطيط لتدمير المفاعل النووي العراقي، وكما

يقول أحد الصحفيين الإسرائيليين المعارضين لهذا النهج فإن باراك يعرض نفسه

على أنه (مقاول قاتل) .

خامساً: باراك رئيساً للوزراء:

لقد صَدَمَ باراك في أول تصريحاته بعد الفوز المتفائلين من العرب عندما

أطلق لاءات تؤكد ثوابت دولة اليهود، والتي تتلخص فيما يلي:

- أن القدس هي العاصمة الأبدية والوحيدة لدولة (إسرائيل) والشعب اليهودي. ولتجاوز اتفاقية أوسلو حول الوضع النهائي للقدس اتفق حزب العمل مع السلطة

على إطلاق تسمية القدس على ضاحية أبو ديس؛ أما القدس الشرقية والغربية فتبقى

تحت السيادة (الإسرائيلية) لأن اسمها أورشليم!

- لا وجود لجيش عربي على الضفة الغربية لنهر الأردن.

- عدم إزالة مستوطنات يهودية قائمة في الضفة الغربية؛ بل توسيع

المستوطنات القائمة.

- رفض إعادة اللاجئين الفلسطينيين المشردين مطلقاً.

إن حكومته ستعمل - كما يقول - من أجل سن ميثاق بين اليهود المتدينين

والعلمانيين؛ ولهذا فإن فكرة تشكيل حكومة موسعة لا يُستثنى فيها أحد تسيطر عليه، وقد تباحث مع كثير من الأحزاب الممثلة في الكنيست من أقصى اليمين حتى

أقصى اليسار؛ فهو بالإضافة إلى محادثاته مع حلفاء العمل التقليديين من اليسار

والوسط فقد تباحث مع رئيس الليكود الجديد (شارون) الذي لم يخفِ باراك إعجابه

الشديد بنهجه العسكري، وتحاور مع حزب شاس ومع نقيضه حزب شيتوي الذي

يسعى لإخراج الأحزاب الدينية من الحياة السياسية وقد واجه مشكلات كبيرة في

محاولته؛ فلكل شروطه التي تصل إلى اشتراط استبعاد أحزاب أخرى منافسة مما

اضطر باراك للتهديد بالعدول عن هذا النهج والعودة إلى خيار الاقتصار على

الأحزاب اليسارية والعربية؛ ولكن رئيس الدولة ضغط عليه للاستمرار.

والذي يبدو من الاستقراء أنه سواء تكونت حكومة موسعة أم لا؛ فإن النظام

السياسي وصل إلى درجة من التفتت بحيث يصعب ثبات أي حكومة؛ فبعض

الأحزاب إذا خرج من الحكومة فإنه يعارض مشاريع الحكومة، وإذا دخلها فإن سيفه

المصلت هو تهديده بالخروج منها إذا لم تحقق مطالبه؛ ولهذا فهناك خوف دائم شبيه

بحال الحكومات الإيطالية غير المستقرة.

وأخيراً فإن فترة باراك لن تختلف كثيراً عن فترة نتنياهو؛ فهما يمثلان جيلاً

واحداً هو ثمرة الاحتلال من المولودين داخل فلسطين ممن خلف الجيل السابق الذي

عاصر بناء الدولة مما يمكننا أن نطلق على هذه المرحلة: الطور الثاني الذي تستقر

فيه الدولة وتحس بالأمن مما يعجل بظهور التناقضات الداخلية؛ وصدق الله تعالى

حيث يقول في كتابه العزيز: [بَاًسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ

بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ] [الحشر: ١٤] .