[دماء على ثرى الفلوجة]
عبد الهادي الزيدي
كان يدرك تماماً أنه لن يصل إلى قرار ذاكرته الأخير مع هذه الانفجارات التي تخلفها بين لحظة وأخرى طائرات أمريكية لوثت بضجيجها سماء الفلوجة الوادع. نظر يميناً إلى (فراس) صديق طفولته الذي بادله النظر هو أيضاً، ورأى شفتيه تتحركان حركات منتظمة بإيقاع أدرك من خلاله أنه كان يقرأ آيات من القرآن مُدركاً أن هذا الحضور المزعج الكثيف لقصف الطائرات الغازية منعه من تحديد السورة التي كان يقرأ منها رفيقه. وبضجر من بقاء الحال على ما هو عليه.. نظر يساراً إلى (أحمد) المقاتل الآخر الذي كان قد انشغل بإعادة لثام (شماغه) الأحمر على رأسه ووجهه، مُظْهِراً عينين تومضان تحت أشعة شمس ستبدأ بعد قليل تلويحة الوداع تاركة هؤلاء الثلاثة مقيدين بوطأة القصف الشديد وشظاياه التي تزرع المكان كله بالموت والدمار، مختبئين بانتظار اللحظة المناسبة للهجوم خلف ساتر ترابي ربما لن يصمد أكثر من دقائق إذا استمر الموت الأمريكي يتناسل في المكان. على حين غفلة من الوقت أو ربما الموت أشار (فراس) إلى قائد مجموعتهم هناك رابضاً على بُعد عشرات الأمتار بين أنقاض بيت أسرة فلوجية حطمتها وحشية الطائرات فاستشهد بعضهم ونجا آخرون، واستمرت الإشارات باليد لثوان أضاعت لديه المعنى كله، وأعادت إليه خطورة الموقف الذي يلفهم الآن، وصرخ بصديقه مستغلاً لحظة الصمت بين انفجار وآخر.
- ماذا يقول؟
تجاهله (فراس) وهو يربِّت على سلاحه مطلقاً العنان لبصره باتجاه الأفق الممتد إلى الأمام. ومن خلال الغبار المتطاير ودخان الحرائق الذي يخلفه القصف العشوائي رأوا مجاميع (المارينز) يواصلون التقدم باتجاههم، وأدركوا جميعاً حجم الكارثة إذا ما بقي الحال على ما هو عليه.
كانت هذه بالطبع إحدى خطط الهجومات الأمريكية على أحياء الفلوجة، التي خلت من ساكنيها مع اشتداد المعركة وهذا بالضبط ما تمناه المجاهدون؛ فحين يأمنون على سلامة الأسر تتزاحم لديهم ثنائية النصر والشهادة، بشكل ليس له خيار ثالث.
ارتعد جسده فجأة كمن يُلقى في بركة ماء مثلج، وكاد قلبه يفر من بين أضلاعه هلعاً لانفجار قريب جداً في مخبئهم، ونظر إلى رفيقيه.. كانا مثله تماماً قد جمعهما الخوف في عباءته المخادعة؛ ومن بين ثقوب العباءة تلك كان أحمد يتنحنح؛ بينما يواصل (فراس) بصق ما دخل من جوفه من تراب تناثر مع شظايا الانفجار القريب.
كانت الخطة المعادية التي ألفوها أكثر من مرة قتل كُلّ متحرك أو مشكوك في أنه يتحرك على أرض المعركة، وكانت طائرات الهليكوبتر تحلق غير بعيدة عن مخابئ المجاهدين، بعضها يقصف ويدمر، وبعضها الآخر يراقب ويرصد أي أمل في الحياة، ناقلة المعلومات إلى طبقة أخرى تعلوها ارتفاعاً من طائرات مقاتلة ملأت سماء الفلوجة وزرعت الأجواء كلها بأصوات مخيفة وبانفجارات مروعة.
- إنه يقول: علينا بالصبر والدعاء حتى يقترب الغزاة، وحين ذاك نقاتلهم عن قرب. كسر (فراس) حاجز الرتابة الملغوم بالترقب أخيراً، ثم رفع كفيه للسماء يدعو. أدرك أن خطتهم هذه ليس لها خيار آخر رغم خطورتها، حين يقترب جنود العدو الذين ما زالوا يواصلون تقدمهم الحذر باتجاههم عبر الأنقاض والحفر التي خلفها قصف طائراتهم التي تحميهم. وصوّب بصره إلى الأمام حيث الموت يتقدم، وبمزيج مما خلَّفته الذاكرة ومن حقائق معايشة مثل هذه الظروف الحالكة أدرك ارتجاف جنود الغزاة وخوفهم الشديد حتى من حجارة الفلوجة الصامتة؛ فهم يطلقون النار على الهواء والنبات وأشلاء الشهداء الممزقة والحجارة الصماء. لقد أعماهم الخوف من المجاهدين عن التمييز بين الحق والباطل، فأصبح كل شيء يستحق الموت ما دام يصر على انتمائه إلى هذا المكان.
«اللهم إنا في سبيلك نجاهد فانصرنا» قال هذه العبارة ثم انعقد لسانه وثقل، وبقي القلب وحيداً يردد هذه الكلمات معجونة بالتوجس من موقف لا يدري كيف سينتهي وبإصرار على الشهادة على ما يحب، بين الشظايا التي لا ترحم.
بحذر أكثر من السابق رفع رأسه قليلاً عن الساتر الذي أختبؤوا خلفه؛ إذ أحس بشيء مّا يتغير في سماء المعركة، كان معظم من وقع نظره عليه في مجاميع المجاهدين القريبة يواصلون الدعاء، ونشج هو بصمت مختلط بالقلق والارتباك، لقد كان بعضهم يبكي، كان التضرع إلى الله ـ تعالى ـ قد بلغ مداه، وبلغت القلوب الحناجر، بل كادت أن تفر منها إلى المجهول، ولا يدري كيف أستعاد الآن كلمات شيخه الشهيد في معركة سابقة على ثرى الفلوجة: «إن نصر الله يأتي في اللحظة التي تتساقط فيها ممكنات النصر البشرية، ويسلمك الله لنصره المجيد حين توشك أن تسلم نفسك لقدرك المحتوم» .
فجأة أحس بيد قوية تربِّت على كتفه، ونظر مرتبكاً في وجه (فراس) الذي أتاه زحفاً مشيراً إلى جهةٍ مّا في السماء البعيدة، وحين تابع إشارته هناك اصطدمت عيناه بمرأى غيوم ترابية تتكاثف عن بُعد ثم تقترب من سماء المعركة، وأعاد النظر ثانية إلى وجه صديقه.. تمعن فيه جيداً كأنه يقرأ ما تحت سطور قسماته، كانت لحية فراس السوداء قد امتزجت بالغبار وعيناه تذرفان الدمع؛ بينما كان بقية الوجه ضاحكاً مستبشراً كمن ينتظر خبراً سعيداً سيزف إليه الآن فأحتضنه. كان جسد (فراس) يرتجف وفرحٌ مَّا يشع من قسماته كلها، ولأول مرة يستنشق منه رائحة عطر غريب ملأت قلبه وسدت عليه منافذ المكان كلها، مستغرباً أيما استغراب، من أين (لفراس) رائحة المسك كلها تلك؟!
بخطى سريعة عاد (فراس) إلى مكانه السابق وتابع بقية رفاقه وهم يصوبون بنادقهم بهمة إلى أهداف بدت الآن في دائرة رميهم المميت، أما الطائرات فقد منعتها عنهم عاصفة التراب غير المتوقعة تماماً.
إنهم الآن وجهاً لوجه: شراذم من النمل الأسود تتقدم مخلفة الدمار، محملة بتأريخ من القتل والزيف وإذلال الشعوب، ومجاميع نذرت نفسها للشهادة دفاعاً عن أرض حبيبة لا بديل لها، وتأريخ يحفل بالحب والفداء ونصر الله الذي لا يدانيه نصر.
قفز (فراس) إلى مكان أقرب إلى الأعداء وهو يطلق الرصاص بغزارة، وامتطى (أحمد) ظهر ما بقي من جدار قريب وهو يفعل الشيء نفسه، ووجد هو نفسه ـ أيضاً ـ بطلق الرصاص على أجساد بلا روح تخبطت في ركضها العشوائي يميناً ويساراً باتجاه مفر أو مأوى، وعلى مسافة قريبة منه كان أحد المجاهدين يرمي أكثر من مرة قنابل يدوية سقط على أثرها عدد من جند الأعداء، وزحف هو باتجاه مكان أكثر حصانة، أبدل مخزن بندقيته بسرعة متناهية وأنفاسه تكاد تنقطع، ثم واصل إطلاق رصاصه باتجاه من بقي من الغزاة ناظراً إلى الأفق البعيد. كان المجاهدون في الأطراف قد أكملوا التفافهم بنجاح، فوقع الاعداء في دائرة كبيرة من النيران وخلفهم تماماً على مشارف الأزقة الضيقة أرتفعت نيران الآليات الأمريكية المحترقة، ونزل منها من كان يحتمي بها من الأعداء رافعين الأكف المرتجفة والرايات البيضاء.
أطلق رصاصة على أقصى اليسار كمن شك في حركة معادية، وحين التفت إلى الجهة الأخرى تسمَّر نظره على جسد رفيق دربه (فراس) وهو يتهاوى محتضناً أرض الفلوجة الطاهرة، فركض باتجاهه.. كانت الدماء الزكية تشخب من صدره وبطنه، وهو يتمدد على الأرض مستسلماً لابتسامة عريضة ورائحة المسك الطيبة تعطر المكان.. احتضنه ثانية في تلك المعركة، كان جسده دافئاً يطلق ارتجافات أخيرة وأمواج من العطر لا تُمحى من الذاكرة؛ بينما اقتحمت أذنيه بتواصل تكبيرات المجاهدين المختلطة بالبكاء والدعاء، فصاح معهم بلا وعي كامل: الله أكبر.