البدعة وأثرها في
الانحراف في الاعتقاد
الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع
الحمد لله حمداً كثيراً كما هو أهله، وكما ينبغي لكمال وجهه، والصلاة على
رسوله الهادي إلى صراطه المستقيم بالحكمة والبصيرة، صلى الله عليه وعلى آله
وأصحابه ومن اقتفى أثره واستن بسنته وسلك سبيله إلى يوم الدين، وبعد.
إن الله بفضله ورحمته وشمول رعايته خلقه قضى بإنقاذ عباده من مكايد
الشيطان ومخططاته، فأرسل رسوله محمداً -صلى الله عليه وسلم- على فترة من
الرسل وبعد أن تحولت الديانات السماوية بفعل الأحبار والرهبان إلى ديانات
ممسوخة يمجها العقل وتأباها الفطر السليمة سواءً ما كان منها متعلقاً بعلاقة العبد
بربه أو ما كان متعلقاً بعلاقة العباد مع بعضهم، فجاء -صلى الله عليه وسلم-
رحمة للعالمين بشيراً ونذيراً وسراجاً منيراً ورسولاً عاماً للثقلين الجن والإنس،
مؤيداً بكتاب كريم من رب رحيم، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فيه
العظة والعبرة، وفيه الحكمة والموعظة، وفيه الوعد والوعيد، والترغيب
والترهيب، وفيه التشريع الضامن لأحسن علاقة بين العبد وبين ربه، وبين العباد
فيما بينهم، ضمن لهم الحفاظ على كامل الحقوق الأساسية - الدين والنفس والعقل
والمال والعرض - وعلى كامل ما تفرع عنها مما يعود عليها بالكمال ورفع ... الحرج.
جاء -صلى الله عليه وسلم-كماوصفه ربه: [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ
عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ] [التوبة: ١٢٨] ، فبلغ -
صلى الله عليه وسلم- رسالة ربه وأمانة من أرسله، ونصح -صلى الله عليه
وسلم- للأمة النصح الكامل، ما من خير إلا دل الأمة عليه وما من شر إلا حذرها
منه، فانقاد لدعوته -صلى الله عليه وسلم- صفوة مختارة من عباد الله، آمنوا بالله،
وأخلصوا دينهم لله وجاهدوا مع رسول الله حق الجهاد مضحين في سبيل الله
بأموالهم وديارهم وأهليهم، حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً، وحطم -صلى الله
عليه وسلم- الأصنام التي حول الكعبة وهو يقول [وقُلْ جَاءَ الحَقُّ وزَهَقَ البَاطِلُ
إنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً] [الإسراء: ٨١] .
وكان -صلى الله عليه وسلم- مدركاً أن الشيطان حريص على نقض ما أبرمه -
صلى الله عليه وسلم- من وحدة إسلامية ترجع في حياتها وفي تكييف علاقاتها إلى
كتاب الله وإلى سنة رسول الله، وأن مداخل الشيطان على عباد الله مختلفة ومتنوعة،
فمن كان إيمانه ضعيفاً انقض عليه بخيله ورجله في التشكيك وطرح الشبهات في
أصول الإيمان وفروعه حتى يرتد عن دين الله بالكفر والإلحاد والزندقة. وإن كان
إيمانه قوياً لا مدخل عليه في التشكيك والزعزعة دخل عليه من باب الابتداع ومن
باب الغلو في الدين وأتباعه كما هي حاله لعنه الله مع الأحبار والرهبان من اليهود
والنصارى حيث انقادوا لوساوس الشيطان ومكايده وضلالالته، فحرفوا كتب الله،
وغيروا مقتضيات شرعه، حتى صارت ديانات ممسوخة ليس لها عند الله القبول،
قال تعالى: [ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ
الخَاسِرِينَ] لقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مدركاً طرق غواية الشيطان
وإضلاله فركز -صلى الله عليه وسلم- لحماية هذا الدين على أمرين: أحدهما:
التحذير من الغلو والإفراط في الدين ومجاوزة الحد في المدح والثناء إذا كان ... ذلك لغير الله، ففي الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله» .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-
قال: «إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو» رواه الإمام أحمد والترمذي
وابن ماجه.
ولمسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله-صلى الله عليه
وسلم-: «هلك المتنطعون» قالها ثلاثاً. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله
عنها أن أم سلمة ذكرت لرسول الله-صلى الله عليه وسلم-كنيسة رأتها بأرض
الحبشة وما فيها من الصور، فقال: «أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد
الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصورة، أولئك شرار الخلق عند
الله» .
ولهما عنها قالت: لما نزل برسول الله-صلى الله عليه وسلم- طفق يطرح
خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها فقال وهو كذلك: «لعنة الله على
اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» - يحذر ما صنعوا - ولولا ذلك
لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً.
ولمسلم عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله-صلى
الله عليه وسلم-يقول: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد،
ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك» .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رجلاً قال للنبي -صلى الله عليه
وسلم-: ما شاء الله وشئت، قال. «أجعلتني لله نداً قل ما شاء الله وحده» . رواه
النسائى وابن ماجه.
ولأبي داود عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله نهكت الأنفس وجاع العيال وهلكت الأموال فاستسق لنا ربك فإنا نستشفع بالله عليك وبك على الله. ... فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «سبحان الله سبحان الله، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ثم قال: ويحك أتدري ما الله؟ إن شأن الله ... أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع بالله على أحد» .
ولأبي داود بسند جيد عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: انطلقت
مع وفد بني عامر إلى رسول الله-صلى الله عليه وسلم-فقلنا: أنت سيدنا. فقال:
«السيد الله تبارك وتعالى» . فقلنا: وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طولاً. فقال:
«قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان» .
فهذه الأحاديث وغيرها من عشرات الأحاديث ومئات أمثالها كلها تؤكد
حرص رسول الله-صلى الله عليه وسلم- على سلامة أمته من وساوس الشيطان
وخواطره وإيحاءاته وهمزاته، وتحذر هذه الأمة أن يدخل الشيطان عليها مع مداخله
على من سبقها من الأمم من يهودية ونصرانية وغيرهما، فإن أكبر باب للشيطان
للضلالة والإضلال هو باب الغلو والابتداع. فلقد نهى -صلى الله عليه وسلم-
أصحابه أن يتجاوزوا الحد في إطرائه ومدحه وتعظيمه، وحمى جناب التوحيد من
أن تدنس مقتضياته أو تطمس معالمه، وأوضح في أكثر من مقام أن ضلال من
قبلنا من اليهود والنصارى وغيرهم كان بسبب غلوهم في أنبيائهم وصالحيهم حيث
كانوا يتخذون المساجد على قبورهم، فيعظمونها على سبيل العبادة، وكانوا بذلك
شرار الخلق عند الله، وكانوا بذلك أبعد الخلق عن الله، وكانوا بذلك أولياء الشيطان
وحزبه. [أَلا إنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ] .
ومع هذا الحرص الشديد من رسول الله-صلى الله عليه وسلم-وتناقل علماء
السنة الآثار الواردة في ذلك عنه -صلى الله عليه وسلم- وإشاعتها بين عباد الله إلا
أن الشيطان كان دائب الحركة في سبيل الغواية والضلال والإضلال، وقد وجد له
من الصوفية والمتصوفة، من اتخذهم له أولياء واتخذوه لهم وليًّا فغلوا في دين الله،
وشرعوا من الدين مالم يأذن به الله، فاعتقدوا النفع والضر عند غير الله، والمنع
والعطاء لدى غير الله، لدى مشايخ الطرق وأدعياء التصوف والدجل والشعوذة
أحياء وأمواتاً، وصرفوا للمخلوق مما هو محض حق الخالق حقوقاً لا تصح نسبتها
إلا لله فهذا البوصيري يقول:
يا أكرم الخلق ما لي من أوذ به ... سواك عند حلول الحادث العم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم
وهذا البرعي يقول:
يا سيدي يا رسول الله يا أملي ... يا موئلي يا ملاذ يوم تلقاني
فأنت أقرب من ترجى عواطفه ... عندي وإن بعدت داري وأوطاني
وهذا البكري يقول:
وناده إن أزمة أنشبت ... ظفارها واستحكم المعضل
عجل بأذهاب الذي اشتكى ... فإن توقفت فمن أسأل؟ !
وهذا رابع يقول:
يا سيدي يا صفي الدين يا سندي ... يا عمدتي بل وا ذخري ومفتخري
فإنني عبدك الراجي بودك ما ... أملته يا صفي السادة الغرر
وبالرغم من حركات الشيطان في الغواية والإضلال، وقدرته على اصطفاء
مجموعة من عباد الله ليكونوا أعواناً في الضلال والإضلال؛ إلا أن الله يأبى إلا أن
يتم نوره ولو كره الكافرون، فلقد وعد الله تعالى بحفظ كتابه من التحريف والتغيير
والتبديل، وتم وعد الله فلقد مضى على نزوله أكثر من أربعة عشر قرناً وهو
محفوظ بكل وسائل الحفظ سراجاً منيراً ومحجة بيضاء، كما أن الله تعالى قيض
لسنة رسوله (ص) رجالاً أتقياء أذكياء صالحين نقلوها إلى الأمة الإسلامية ... نقية صافية وبذلك تحقق قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك» ؟ وقوله: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله وسنة رسوله» الأمر الثاني من ... الأمرين اللذين ركز عليهما -صلى الله عليه سلم- في حماية الدين: الابتداع في الدين.
لقد عرَّف العلماء البدعة بأنها طريقة محدثة في الدين يضاهي بها أحد
مقتضياته، إلا أن هذه المضاهاة تنطلق من معقول بشري محدود ليس له القدرة
على استطلاع حكمة الله في تشريعه، ولا علم الله بما تصلح به أمور عباده، يأتي
العقل البشري فيرى حسناً ما ليس بالحسن ويظن نقصاً فيما فيه الكمال، فيقول
اجتهاداً أو انسياقاً وراء هوى أو إغواء شيطان ما ليس في الدين في شيء مما هو
محض الإحداث والابتداع.
لقد كان -صلى الله عليه وسلم- حريصاً كل الحرص على تجنيب أمته شر
الابتداع فأكثر من ذم الابتداع وحض الأمة على التمسك بسنته -صلى الله عليه
وسلم- فقال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا
عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة
وكل ضلالة في النار» .
وقال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» وفي رواية: «من
أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» - وقال: «إن أحسن الحديث كتاب الله
وخير الهدي هدي رسول الله، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» .
ولم يكن منه -صلى الله عليه وسلم- إلا أن التشريع مكتمل فما من خير إلا
ودل الأمة عليه، وما من شر إلا حذرها منه، وقد حكى الله سبحانه وتعالى كمال
الدين فقال: [اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ
دِيناً] فلقد وقف -صلى الله عليه وسلم- يوم عرفة في حجة الوداع ومعه جمع كبير
من أصحابه، فذكرهم ووعظهم وبين لهم ما على العبد من حقوق لله وحقوق لعباده،
وكان -صلى الله عليه وسلم- في كل أمر يقوله لهم: «ألا هل بلغت اللهم فاشهد»
؟ ثم انتقل -صلى الله عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى بعد أن بلغ الرسالة أتم بلاغ،
وأدى الأمانة أتم أداء.، ونصح للأمة النصح البالغ، وبين لهم حبائل الشيطان
ووساوسه وخواطره ومكائده ومداخله على العباد.
لا شك أن الابتداع الطريق القصير إلى تشويه الدين وطمس معالم الإشراق
فيه، والتحكم على الله وعلى رسوله، والاشتراك مع الله تبارك وتعالى في التشريع
بما لم يأذن به الله، وفضلاً عن هذا الأثر السيء للابتداع فإنه يستلزم أموراً مهينة
أهمها ما يلي:
أولاً: القول بلسان المقال أو بلسان الحال: أن الدين ناقص وأن هناك جوانب
تكميلية ينبغي الأخذ بها تكملة للدين، وفي هذا رد قوله تعالى. [اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً] كما أن فيه تكذيباً لقول
رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: «تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا
يزيغ عنها إلا هالك» ؟ فإن من يبتدع يعترف أن لا سند لبدعته من كتاب ولا سنة، ولكنه يدعي أنها عمل صالح. فما صلاح عمل لم يأمر به الله ولم يفعله رسوله
الله؟ ! وما صلاح عمل يراد به إكمال ما أكمله الله على أتم وجه ورضيه؟ !
ولكنها وساوس الشيطان وهمزاته.
ثانياً: إن الابتداع يستلزم القدح في إبلاغ رسول الله رسالة ربه، فلقد أرسل
الله رسوله بالهدى ودين الحق، وأمره بإبلاغ الرسالة، قال تعالى: [يَا أَيُّهَا
الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وإن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ] فبلغها -صلى
الله عليه وسلم- أتم بلاغ. فإذا كان المبتدع يرى في بدعته الخير والعمل الصالح،
ويعترف أن لا سند لبدعته من كتاب ولا سنة ولكنها حسنة في نفسها - حسب زعمه -
فإن هذا يعني أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-حاشاه وكلا - بين أمرين: إما
أن يكون جاهلاً بما ينفغ الأمة وأن هناك جملة من جوانب الخير لا يعلمها فجاء
معاصرو القرون المتأخرة فأخرجوها للأمة وأضافوها إلى الدين، أو أن يكون -
صلى الله عليه وسلم- يعلم حسن هذه الأعمال المبتدعة، إلا أنه كتمها عن الأمة
وهذا يعني تخونه والقدح في أدائه رسالة ربه، وكلا الأمرين شر وقدح في شهادة
أن محمداً رسوله، ورسول الله-صلى الله عليه وسلم- مبرأ عنهما معاً.
ثالثاً: إن في الابتداع مخالفة صريحة لأوامر رسول الله-صلى الله عليه
وسلم-، فإنه -صلى الله عليه وسلم- أكد ضرورة التمسك بسنته والابتعاد عن
الابتداع والإحداث في الدين، كما أكد أن الإحداث في الدين مردود ولا شك إن
مخالفته -صلى الله عليه وسلم- مظنة الفتنة. قال تعالى: [فَلْيَحْذَرِ الَذِينَ يُخَالِفُونَ
عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]
ولقد فهم أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- وتابعوهم هذا الفهم، ففي
الجامع لأبي بكر الخلال أن رجلاً جاء إلى مالك بن أنس فقال: من أين أحرم؟ قال: من الميقات الذي وقت رسول الله-صلى الله عليه وسلم-وأحرم منه. فقال الرجل: فإن أحرمت من أبعد منه؟ فقال مالك: لا أرى ذلك. فقال الرجل: ما تكره من
ذلك؟ قال: أكره عليك الفتنة. قال: وأي فتنة من ازدياد الخير؟ فقال مالك: فإن
الله تعالى يقول: [فَلْيَحْذَرِ الَذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ] ؟ وأي فتنة أكبر من أنك خصصت بفضل لم يخص به رسول الله-
صلى الله عليه وسلم-وفي رواية: وأي فتنة أعظم من أن ترى أن اختيارك لنفسك
خير من اختيار الله واختيار رسوله؟ !
لقد حرص أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على تبليغ الأمة سنة
رسول الله من قول أو فعل أو تقرير، وبالغوا في التحذير عما يخالفها من قول أو
فعل مهما كان ذلك وعلى أي وجه يكون، ولم يفرقوا في الإنكار بين ما ظاهره
الحسن وما ظهر سوءه، فلم يقولوا بتقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة، بل اعتبروا
البدعة أمراً منكراً وزوراً من القول والعمل، وقولاً على الله بلا علم، وتشريعاً من
الدين بما لم يأذن به الله، حجتهم في ذلك الإيمان بأن الله أكمل دينه وأن رسوله -
صلى الله عليه وسلم- بلغ رسالة ربه وأدى أمانته وبين لعباد الله خصائص دينهم
ومقتضيات أعمالهم وأن الأخذ بالبدعة يعني مناقضة ذلك الإيمان باعتبار أن البدعة
في ظن مبتدعيها والآخذين بها إكمال نقص في الدين، كما أن حجتهم كذلك الامتثال
للانتهاء عن الابتداع مطلقاً مهما كان وعلى أي سبيل يقع، يستوي في ذلك حسنة
وسيئة للعموم في نفي البدع والابتداع، فقد حذر -صلى الله عليه وسلم- عن
الابتداع بلفظ العموم فقال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» ؟ وبلفظ
الاختصاص والحصر فقال: «إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل
بدعة ضلالة» .
ومن حججهم رحمهم الله في رد الابتداع إدراك أن الابتداع باب الشيطان إلى
الغواية والإضلال والضلال، فمنه دخل على الأمم السابقة يضلهم ويمنيهم ويغويهم
ويزين لهم أبواب الابتداع حتى غيروا كتب الله وحرفوها. وبدلوها فأحلوا ما حرم
الله وحرموا ما أحل الله.
أدرك أصحاب رسول الله ذلك وكانوا حربًا على البدع والابتداع والإحداث
والمحدثات، وفيما يلي مجموعة من الآثار الواردة عن أصحاب رسول الله في
محاربة البدعة.
فقد روى محمد بن وضاح القرطبي في كتاب البدع والنهي عنها بإسناده فقال: بلغ ابن مسعود رضي الله عنه أن عمرو بن عتبة- في أصحاب له - بنوا مسجداً
بظهر الكوفة، فأمر عبد الله بذلك المسجد فهدم، ثم بلغه أنهم يجتمعون في ناحية من
مسجد الكوفة يسبحون تسبيحاً معلوماً، ويهللون ويكبرون، قال: فلبس برنسًا ثم
انطلق فجلس إليهم فلما عرف ما يفعلون رفع البرنس عن رأسه ثم قال: أنا أبو عبد
الرحمن، ثم قال: لقد فضلتم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- علماً أو لقد
جئتم ببدعة ظلماً، قال: فقال عمرو بن عتبة: واللهِ ما فضلنا أصحاب محمد -
صلى الله عليه وسلم- علماً ولا جئنا ببدعة ظلماً، ولكننا قوم نذكر ربنا، فقال:
بلى والذي نفس ابن مسعود بيده لئن أخذتم آثار القوم لتسبقن سبقاً بعيداً، ولئن
حُرْتُم يميناً أو شمالاً لتضلن ضلالاً بعيداً.
وذكر بإسناده عن بعض أصحاب عبد الله بن مسعود قال: مر عبد الله برجل
يقص في المسجد على أصحابه وهو يقول: سبحوا عشراً، وهللوا عشراً، فقال
عبد الله: إنكم لأهدى من أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم-أو أضل، بل
هذه، بل هذه، يعني: أضل.
وروى بإسناده عن أبان بن أبي عياش قال: لقيت طلق بن عبد الله بن كرز
الخزاعي فقلت له: قوم من إخوانك من أهل السنة والجماعة لا يطعنون على أحد
من المسلمين، يجتمعون في بيت هذا يوماً وفي بيت هذا يومًا، ويجتمعون يوم
النيروز والمهرجان ويصومونهما، فقال طلق: بدعة من أشد البدع والله لهم أشد
تعظيماً للنيروز والمهرجان من غيرهما ثم استيقظ أنس بن مالك فوثبت إليه فسألته
كما سألت طلقاً فرد عليَّ كما رد علي طلق كأنما كانوا على ميعاد.
وروى بإسناده قال: ثوب المؤذن في المدينة في زمان مالك، فأرسل إليه
مالك فجاءه فقال له مالك: ما هذا الذي تفعل؟ قال: أردت أن يعرف الناس طلوع
الفجر فيقوموا. فقال له مالك. لا تفعل، لا تحدث في بلدنا شيئاً لم يكن فيه، قد
كان رسول الله-صلى الله عليه وسلم-بهذا البلد عشر سنين، وأبو بكر وعمر
وعثمان فلم يفعلوا هذا، فلا تحدث في بلدنا مالم يكن فيه. فكف المؤذن عن ذلك،
وأقام زماناً ثم إنه تنحنح في المنارة عند طلوع الفجر فأرسل إليه مالك فقال: ما هذا
الذي تفعل؟ قال: أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر. فقال: ألم أنهك لا تحدث
عندنا مالم يكن؟ ! فقال: إنما نهيتني عن التثويب، فقال له مالك: لا تفعل. فكف
أيضاً زماناً، ثم جعل يضرب الأبواب، فأرسل مالك إليه فقال له: ما هذا الذي
تفعل؟ فقال: أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر، فقال له مالك: لا تفعل، لا
تحدث في بلدنا مالم يكن فيه.
وقد ذكر الشاطبي رحمه الله تفسير التثويب الذي نهى عنه مالك رحمه الله بأن
المؤذن كان إذا أذن فأبطأ الناس قال بين الأذان والإقامة: قد قامت الصلاة حي على
الفلاح. وذكر الشاطبي في كتابه الاعتصام قال: وقال ابن حبيب أخبرني ابن
الماجشون أنه سمع مالكاً يقول. من أحدث في هذه الأمة شيئاً لم يكن عليه سلفها فقد
زعم أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-خان الدين لأن الله تعالى يقول: [اليَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً] وأختتم هذا
البحث بما روى أبو داود والترمذي عن أبي نجيح العرباض بن سارية رضي الله
عنه قال: وعظنا رسول الله-صلى الله عليه وسلم- موعظة وجلت منها القلوب
وذرفت منها الدموع فقلت: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال:
«أوصيكم بتقوى الله عز وجل، والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد فإنه من يعش
منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا
عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة» .
قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.