[الحوار الأخير مع عميد الأدب الإسلامي المقارن]
صلاح حسن رشيد
الدكتور حسين مجيب المصري
عصر من التألق في الخارج.. والتجاهل التام في الداخل!!
مثل شمس الشتاء في خفوتها وضعفها وهوانها على الناس.. رحل عن دنيانا إلى جوار ربه الكريم الدكتور حسين مجيب المصري (٨٨ عاماً) عميد الأدب الإسلامي المقارن في الوطن العربي وأستاذ الدراسات الشرقية بآداب جامعة عين شمس واللغات والترجمة بجامعة الأزهر، بعد حياة علمية وأكاديمية وأدبية منقطعة النظير أسس فيها لحقل الآداب الشرقية واستخرج نفائسه، وأرسى معالم مدرسة نقدية تقوم على المقارنات فيما بين الآداب العربية والفارسية والتركية والأردية من وشائج وصلات حضارية ونفسية ومعرفية.
وخلال مشواره العلمي الذي قارب على السبعين عاماً أنجز الدكتور حسين مجيب المصري عطاء فكرياً ثرياً أربى على الثلاثة والثمانين كتاباً كلها من عيون ودرر الدراسات الشرقية، علاوة على ترجماته الدقيقة من اللغات الفارسية والتركية والأردية إلى الشعر العربي، ولا ننسى ترجماته الرائعة لأشعار فيلسوف الإسلام محمد إقبال، في متانتها ودقة سبكها. ومن حسنات فقيدنا الكبير مراجعاته الدقيقة لترجمات معاني القرآن الكريم إلى الإنجليزية والفرنسية والروسية والألمانية والإيطالية والفارسية والتركية، والتي أجازها الأزهر بمجرد انتهائه منها؛ لأنه كان موسوعي المعرفة يجيد ثماني لغات نطقاً وكتابة وتأليفاً، ويعتمد عليها في مراجع كتبه وأبحاثه.
كما حظي الدكتور المصري بسلسلة من الجوائز والتكريمات، كان فيها العربي الوحيد؛ حيث نال أعلى وسام من الرئيس الباكستاني ضياء الحق عام ١٩٨٨م، ووسام الخدمة العالية من الرئيس التركي في الثمانينيات، والدكتوراه الفخرية من جامعة مرمر بتركيا، إلا أنه لم يحظ بأية جائزة مصرياً وعربياً. ويلاحظ على الدكتور المصري أنه أجاد خارج السرب الثقافي العربي، ولم يتقرب لأحد أو يطلب بنفسه شيئاً، برغم ريادته وتفوقه على كثيرين نالوا الجوائز وحصدوا الأوسمة تزلفاً وتقرباً.
التقيناه وهو على فراش المرض في حواره الأخير مع القراء، واستمعنا إلى آرائه في الأدب والفكر والثقافة، وإلى أدق أسرار حياته، وكيف حفر في الصخر ـ برغم العوائق ـ لكي يدعو عبر كتاباته وأبحاثه إلى الوحدة الثقافية الجامعة لأشتات العرب والمسلمين اليوم بعد أن استحالت سياسياً. وإلى التفاصيل:
- شجرة التراث:
- خلال هذه الرحلة الطويلة العاشقة لتراثنا الروحي والحضاري لا سيما في آداب الشعوب والأمم الإسلامية غير الناطقة بالعربية.. بماذا خرجتم؟ وما الفائدة التي تحصلت لديكم؟
- يخطئ من يظن أن تراثنا هو الموجود فقط في العربية، بل هو في العربية والفارسية والتركية والأردية والسواحلية وغيرها من لغات الشعوب الإسلامية التي استظلت براية الإسلام وحضارته. ومن المعروف أن الأدب الاسلامى بمثابة الشجرة التي لها فروع هي آداب الشعوب الإسلامية سالفة الذكر، والتي يجمع بينها روابط روحية وثقافية وأدبية واجتماعية، لا توجد في أية حضارة أخرى. ومن خلال التوغل والدراسة العميقة، واكتشاف أسرار ونفائس ودخائل هذه الآداب تحصَّل لي بعد تعب وجهد أن توصلت إلى أن الوحدة الثقافية المستمدة من ماضينا العريق، وريادتنا الأصيلة هي التي يجب أن ندعمها اليوم بالتواصل فيما بيننا فكرياً وأدبياً، في ظل القطيعة السياسية فيما بيننا، وتطاول الإمبريالية الغربية، والفاشية الأمريكية والصهيونية على ديارنا في أفغانستان والعراق وفلسطين. فبماذا نحتمي بعد أن تكسرت عوامل القوة السياسية العربية الإسلامية؟ لا شك أن الثقافة هي المعين الباقي، والثغر الذي نستظل بظله من وقع الضربات الأمريكية والإسرائيلية. كما يخطئ من يهاجم مصطلح الأدب الإسلامى، لأنه موجود بوجودنا كحضارة ودين، ولان هناك آداباً اتسمت بالسمة الأيديولوجية والدينية كالأدب الماركسي والأدب اليهودي، والأدب المسيحي؛ فلماذا نصادر على الإسلام هذا الحق الموجود أصلاً؟
- الإخلاص والتفوق:
- كيف استطعت أن تجيد أكثر من ثماني لغات، وتطَّلع على آداب شرقية وغربية؟ ومن أين أتيت بالوقت؟ وهل من طريقة تخبرنا بها كى نحذو حذوك؟
- قد عشت في قصر جدتي، وكانت لي مربية نمساوية تتقن الفرنسية والإنجليزية والألمانية، فتعلمت هذه اللغات عن طريقها صغيراً، قبل أن التحق بالمدرسة. ولما كبرت أحسست أنني أميل إلى تعلم اللغات وفهم أسرارها، والنهل من آدابها، وهكذا استطعت أن أقرأ لكبار الأدباء قديماً وحديثاً، في العربية والإنجليزية والفرنسية والألمانية. ولما دخلت جامعة فؤاد الأول في الثلاثينيات من القرن العشرين درست الإيطالية على مدرس خاص بي، علاوة على الروسية، لكنني تخصصت في اللغات الشرقية، وهي الفارسية والتركية والأردية، وأتقنتها. ومن هنا صرت ـ وأنا معيد ـ أجيد ثماني لغات، وأترجم منها وإليها، وأكتب بها، بل إنني أكتب شعراً عربياً وفارسياً وتركياً وفرنسياً، ولى دواوين ستة بالعربية، وديوان فارسي ترجمته إلى العربية، وآخر تركي ترجمته أيضاً إلى الشعر العربي الموزون المقفى، ولي قصائد عديدة بالفرنسية. لكنني أنصح الأجيال الجديدة وصغار الباحثين ومحبي الآداب والفنون واللغات أن يجاهدوا من أجل التفوق والريادة، وليس بالاكتفاء بالمعرفة فقط، ولأن الآداب جميعها متصلة فيما بينها، ومتقاربة، برغم اختلاف اللغات والثقافات والعادات والتقاليد. كما كنت اقرأ بنهم شديد، وأذهب إلى المكتبات العامة، وأشتري أحدث الإصدارات من عواصم الدنيا وأتواصل مع الآخر، وهكذا كتبت في أكثر من مجال، وتخصصت في أكثر من علم. وطالما أن المرء يخلص في مهنته فلابد أن يدرك ما يريد، وأن يحقق ما يصبو إليه، وأن يقهر العوائق والسدود.
- نحن أمة تخاطب نفسها!
- يصفنا الآخر بالأمة المتخلفة فكرياً وحضارياَ، وينعتنا بنعوت عنصرية من قبيل: الإرهاب والعنف.. ترى كيف نرد على ذلك، ونصحح صورتنا ونصل لقلب هذا الآخر وعقله وفكره؟
- لا شك أن هذه معضلة شديدة الوطء، تحتاج إلى جهود نبهاء بل كتائب ومدارس وجامعات من العلماء والشعراء والأدباء والساسة والفنانين؛ لأن صورتنا أصبحت مهزوزة جداً، بل غائمة، وأصابها ـ نتيجة تقاعسنا وخمولنا ـ الصدأ وعوامل التعرية. وفي يقيني أننا مطالبون اليوم أكثر مما مضى بإحياء أمجادنا الأدبية والعلمية والحضارية والروحية، التي أشاد بها العالم قديماً، لكننا انغمسنا ـ حالياً ـ في أوحال التفرق والتشرذم، واكتفينا بالانطواء على الذات، والبكاء على الأطلال واللبن المسكوب، ولم نصنع شيئاً. وكيف يقف العالم، بل الرأي العام العالمي إلى جوارنا، ونحن لا ننتج ما نأكل، ولا نصنع ما نلبس؟ وكيف يستمع إلى شكوانا هذا الآخر المتعالي، ونحن لا نملك لغة رصينة للحوار معه، ولا نمتلك أدوات فاعلة للتواصل مع هذه الشعوب المتعطشة للاستماع إلينا، ولكن أين المنهج والرؤية والتصور؟ وما هي أدواتنا الصحيحة لغزو قلوب الآخر؟ وبأية لغة نتفاعل معه؟ فنحن اليوم ندعي الحوار الحضاري مع الآخر، في حين أننا نخاطب أنفسنا فقط.
- حفاوة الخارج وتجاهل الداخل:
- يقال إن لكم تلاميذ في أكثر من خمس وعشرين جامعة في العالم؛ فكيف ذاع صيتكم في الخارج، بينما كان التجاهل والنسيان والصمت المطبق هو مصيركم في الداخل؟
- إنني مؤمن بأن على المرء أن يعمل وينجز، وليس الاستجداء من هذا وذاك؛ ولهذا أخلصت وثابرت، وفتحت بيتي للباحثين من أقصى صعيد مصر إلى الإسكندرية، ومن جميع العواصم العربية لكي يفيدوا من مكتبتي وكتبي النادرة غير الموجودة في أية مكتبة أخرى، علاوة على توجيهاتي وإرشاداتي ونصائحي المخلصة لهم، ومساعدتي الدائمة في رسائلهم للماجستير والدكتوراه؛ لأنني لا أبخل على أحد بمعلومة. ومن هنا صار لي مريدون وتلاميذ في خمس وعشرين جامعة في مصر والأردن والكويت والسعودية والعراق والجزائر والمغرب والمجر وإنجلترا وإيرلندا والبرازيل والولايات المتحدة وأسبانيا وغيرها من دول العالم. أما حكاية عدم تقديري في وطني؛ فأنا لا أنتظر ثناء ولا مديحاً، ولا أكتب انتظاراً لجائزة من هنا أو هناك؛ لكنني أوقن أنه سيأتي يوم ويتم الحفاوة بي في مصر ودراسة مؤلفاتي، ولكن بعد رحيلي.
- دودة كتب:
- أسألك: ومن هو مثلك الأعلى الذي قادك إلى هذا التبحر العلمي الغزير إذن؟
- في صغري كنت متعلقاً وما زلت برمزين كبيرين، كانا القدوة لي، هما: أمير الشعراء أحمد شوقي بك، وزكي مبارك؛ فكلاهما في ميدانه كان الأول، وفارس الرهان، والحائز على قصب السبق. وهذا هو السبب في عصاميتي، واعتمادي على تثقيفي الذاتي، بعيداً عن المدرسة والجامعة؛ لأن الأديب الحق والمثقف الأصيل هو «دودة كتب» كما قال العقاد رحمه الله.
- وهل أنت حزين لعدم صدور أي كتاب لكم عن جهة حكومية، في الوقت الذي تطبع فيه الدولة أعمال من هم أقل شأناً؟
- هذا قد يسبب لي بعض الغصة، لكنني أعتقد أن كتبي متوفرة، وأن من يريد أن يقرأني فسيهتدي إليَّ. أما حكاية النشر الحكومي فهي تخضع لمعايير أخرى أربأ بنفسي أن أتحدث عنها.