للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الافتتاحية

[حقوق الإنسان لمن؟ !]

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه،

وبعد:

فلقد كفل الدين الإسلامي للإنسان كرامته وإنسانيته؛ وهذا ما توصلت إلى

بعضه القوانين والنظم الوضعية بعد قرون وبعد إعلان هيئة الأمم المتحدة لحقوق

الإنسان عام (١٩٤٨م) ، ولا نعلم بأن تلك الحقوق لفئة من الناس بذاتها أو لأمة

من الأمم بعينها؛ غير أن ما يلمسه المتابع لقضية الصراع مع الصهاينة (ما يسمى

بالصراع العربي الإسرائيلي) يجد العجب العجاب؛ فالحقوق كلها للصهاينة،

ودفاع الشعب الفلسطيني الأعزل بالحجارة والبنادق أمام الصواريخ والقنابل

والطائرات الحربية أصبح ذلك في نظر عميان رعاة السلام وأصحاب المبادرات

المشبوهة أصبح عنفاً وإرهاباً! ! فماذا يفعل شعب مغلوب على أمره، اعتدي عليه

في مصادرة أرضه، ومحاربته في وسائل عيشه، ومحاصرته بكل الوسائل غير

الشرعية؛ إن لم يدافع عن كرامته بكل ما يستطيع؟

إن معاناة الشعب الفلسطيني المجاهد منذ نكبته بقيام دولة العدو منذ وعد

(بلفور) الذي أعطى من لا يملك من لا يستحق، فجاء شذاذ الآفاق اليهود لبناء

دولتهم على أنقاض فلسطين السليبة، فكانوا سرطاناً خبيثاً في جسد الأمة الإسلامية،

ولم تحسن الحكومات العربية التعامل مع تلك الجريمة المرسومة والمدعومة من

الغرب والشرق منذ قيامها، فاستمرت أمتنا تتخبط في حروب عقيمة حتى سقوطها

في فخ ما يسمى بعملية السلام المزعوم. بينما العدو مستمر في تحقيق ذاته وبناء

دولته بدعم الغربيين الذين طالما أيدوا حق كل شعب في تقرير مصيره، وطالما

دعوا إلى احترام سياسات حقوق الإنسان وقاوموا أي تساهل بتلك الحقوق؛ فكيف

بخرقها على رؤوس الأشهاد؟ بل وأعلن الغرب الحرب على من خرق تلك الحقوق

كما حصل مؤخراً مع طاغوت الصرب (ميلوسوفيتش) حيال حربه الهمجية في

البلقان ضد المسلمين وبخاصة مع مسلمي كوسوفا.

لكن هذه السياسة أصبحت وسيلة مكشوفة للابتزاز يرفعها الغرب بكل صلف

ضد الدول المخالفة لنهجه السياسي، وبخاصة ما تقرره أمريكا من قوائم سنوية

لدول تعتبرها إرهابية أو مساندة للإرهاب عن طريق وسائل موجهة مثل ما يسمى

بـ (لجنة الحريات الدينية) بالكونجرس الأمريكي، حتى بلغ الأمر حدَّ التدخل

وبشكل سافر في الشؤون الداخلية للدول، كما حصل في إندونيسيا دفاعاً عن حقوق

(النصارى) ، وأخيراً في مصر للدفاع عما زعم من انتهاكات لحقوق الأقباط.

ومما يؤسف له أن تواطؤ الغرب ضد إندونيسيا وتهديدها بحجب الإعانات

عنها، وخوفها من فرض الحصار عليها مما جعلها تتساهل في مشكلة (تيمور

الشرقية) ، وتقرر وبكل انهزامية الموافقة على التدخل الدولي الذي تبعه التصويت

بحماية هذا التدخل ليتقرر فصلها.

أما في مصر فلقد جوبه التدخل فيها باحتجاجات شعبية سفهت تلك التدخلات

بما فيها رفض بعض النصارى أنفسهم لذلك التدخل والوقوف ضده؛ فإلى متى تبقى

الحقوق الإنسانية لغير المسلمين وحدهم؟ ! فأين الجمعيات الدولية والإقليمية؟ !

وأين ما يسمى بجمعيات الحقوق وغيرها وغيرها؟ !

أين هؤلاء من تلك الأعمال الهمجية والانتهاكات المتوالية لحقوق الإنسان

المسلم سواء في فلسطين أو الشيشان أو كشمير أو الفلبين..؟ وأين أولئك

المراقبون لمعاناة المسلمين من القتل والتشريد والتدمير لمقدرات بلدانهم مما تنشره

وسائل الإعلام ليل نهار؟

لقد عانى الشعب الفلسطيني وبشكل خاص من قهر العدو الصهيوني له بالحديد

والنار مما يتنافى مع أبسط القيم الإنسانية ولا سيما في عدوانه الأخير حيث ضرب

براجماته وطائراته حتى (إف ١٦) الأمريكية المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية،

ولم تسلم من عدوانه السلطة الفلسطينية المتواطئة معه في عملية السلام المزعوم!

مخالفة بذلك كل الاتفاقات المحمية بالاتفاقات ذاتها.

وبعدَ لأْيٍ شكلت اللجنة الأمريكية المعروفة بلجنة (ميتشل) ، وجاء تقريرها

الهزيل بشكل مغاير للحقيقة حتى لا يدان العدو دولياً على إجرامه ضد الشعب

الفلسطيني؛ حيث ساوى التقرير بين القاتل والضحية، وتأتي قمة المأساة حينما

دُعي مجلس الأمن لاتخاذ قرار لتوفير الحماية للشعب الفلسطيني بإرسال مراقبين

دوليين في الأرض المحتلة فتسارعت (أمريكا) بإعلان (الفيتو) بدعوى تأجيل

مناقشة الموضوع! ! ولا ندري إلى متى؟ هل لينفذ (شارون السفاح) برنامجه

الانتخابي لضمان الأمن لشعبه بقتل كل من يقف في وجهه بجبروته وعدوانه؟ أم

لكون الشعب الفلسطيني من الفئة التي لا تستحق الحياة لمجرد أنهم مسلمون؟ !

حيث تعرضوا لمذابح وحشية كما حصل في قرية دير ياسين وقرية ناصر الدين

وكفر قاسم؛ حيث تم قتل آلاف الفلسطينيين وتشريدهم مع أن جزءاً من هذا الشعب

(نصارى) نالهم ما نال المسلمين من القتل والعدوان.

ولا يعجزنا السبب في وقوف الحكومة الأمريكية وعلى مر السنين مع العدو؛

لأنها عادة ما تكون صنيعة اللوبي الصهيوني، فتأتمر بأمره وتسير وفق هواه حتى

لو خالفت كل القوانين والقيم، بالرغم من أن هذا اللوبي وقف ضد الحكومة

الأمريكية الحالية بتأييدهم الحزب الديمقراطي المنافس والذي أخفق في الوصول

لسدة الرئاسة لأسباب شتى يعرفها المتابعون، إلا أن الكونجرس ما زال متميزاً

بأغلبيته الديمقراطية وجلهم يهود صهاينة أو موالون لهم من النصارى المتصهينين.

ومن العجيب أن تتخلى الحكومة الأمريكية حتى عن آداب اللياقة مع

الحكومات العربية ذات العلاقات الوطيدة معها والتي تربطها بالفلسطينيين علاقات

العقيدة والأخوة والدم، لكنها لم تكترث بذلك، بينما تقف مترددة وتتجنب الإساءة

لدول أخرى مراعاة لمصالحها كما هو الحال في موقفها مع الصين مع ما عرفت به

من انتهاكات لحقوق الإنسان سواء مع المسلمين في (تركستان الشرقية) أو مع

المعارضين لها كما حصل في مواجهاتها الدامية معهم في ساحة (تيان مين) .

إنَّ الخلفية العقدية والفكرية التي يتعامل بها الغرب مع الحقوق الإسلامية هي

التي توجه مساره وتجعله يتعامل معها بتشنج واستكبار، ويشرح (انجمار كارلسون)

هذه الخلفية بقوله: (إنَّ الإحساس بالخوف من الدين الذي يسود مجتمعنا العلماني

والتجاري بصفة عامة قد امتد وشمل العالم الإسلامي كله ككتلة واحدة، وكنتيجة

طبيعية لهذا الإسقاط أصبحت نظرتنا إلى أي عمل من أعمال العبادة والتقوى

وممارسة الشعائر سلبية؛ نظراً لأنها ترمز إلى التطرف والتعصب حتى ولو كانت

هذه الأعمال تقتصر على أداء الصلوات في المساجد ... ويبدو أننا نفتقر إلى اليقين،

وإلى الإحساس بالأمن والطمأنينة، وليس لدينا الثقة الكاملة بنظمنا الاجتماعية،

وبذلك فنحن نفتقد الإمكانات الموضوعية للنظر إلى الأصولية الإسلامية نظرة

معقولة، وتناولها بأسلوب نقدي طبيعي؛ ولذا نعتبر الغرب الحديث مرادفاً للعقل،

بينما نرى في الشرق عالماً متخلفاً يمشي على حافة الجنون، ويستحيل عليه

مشاركتنا في الحوار والسجال على قدم المساواة؛ فالمسلمون كانوا في الماضي،

وسيبقون في المستقبل خطرين، ويصعب سبرهم، وينبغي تجنب أية مناقشة

معهم..! !) [١] .

إن العالم الذي ساءه سياسة الكيل بمكيالين في مسألة حقوق الإنسان لم يعد

يجهل أن أمريكا نفسها تنتهك حقوق الإنسان: ليس بتأييدها جرائم العدو الصهيوني

فقط، بل لأن سجلها الأسود في حقوق الإنسان وانتهاكاتها له بما لا يخطر على بال

أحد لم يعد مجهولاً بعد أن كشفته الحكومة الصينية في تقرير معروف نشر مؤخراً

أمام العالم ولا يتسع المقام لذكر بعض صوره البشعة؛ (انظر إلى التقرير المذكور

مما نشرته مجلة المجتمع الكويتية، العدد ١٤٤١ و ١٤٤٢) ولذا وجدنا العالم ممثلاً

في هيئة الأمم يقرر بمحض إرادته تنحية (أمريكا) عن لجنة حقوق الإنسان التي

طالما اتخذت من هذه المسألة شماعة لها تستخدمها ضد المخالفين لها ولتوجهاتها.

إننا نعتقد أن أمريكا ستبقى ألعوبة في يد الصهيونية تستخدمها لصالحها،

وسيبقى الفلسطينيون محل الإدانة والقتل والاستئصال، ولم يعد أمامهم أي وسيلة

لرفع الظلم عنهم بعد إخفاق أساليب السلام المزعوم واتفاقياته المعروفة سوى الجهاد

والمقاومة، وإنزال القتل باليهود ذلك الشعب المحارب الذي يتساوى فيه الجيش

بالشعب.

إن إنزال القتل بالعدو هو الوسيلة الوحيدة التي يفهمونها، وليعلم يهود مدى

العذاب الذي نال الشعبَ الفلسطيني، وحينها سيضطر اليهود الجبناء الذين قال الله

فيهم: [لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ

تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ] (الحشر: ١٤) ،

سيضطرون أمام هذه الإرادة الصلبة إلى إعادة النظر في مواقفهم الإجرامية

وسياساتهم الهمجية لما لها من انعكاسات سلبية ضدهم حتى يأذن الله بنصره المؤكد

بعز عزيز أو بذل ذليل؛ إذ لا يفلُّ الحديدَ إلا الحديدُ.

وحين يكون لأمتنا مكانتها وقوتها وقدراتها، ولها مصداقيتها التي يخشى

الغرب والشرق فواتها، حينها سنراعَى مثلما تراعى الصين وغيرها. ثم كيف

يكون لنا هذا الشأن ونحن غير صادقين مع ربنا وغير مقتدين بسنة نبينا وغير

متآخين فيما بيننا؟ ! وكيف يصلح حالنا ونحن في جل ديارنا لا نحكم بشرع الله

ونوالي أعداء الله ونحارب أولياءه، ونعمل كل الوسائل المفتعلة لتهميشهم وإبعادهم

عن التأثير في المجتمع؛ بينما يتاح المجال لغيرهم من الكفار والعلمانيين وأهل

الأهواء؟ !

إن قوة أمتنا في دينونتها لربها وتآزرها وكونها يداً واحدة على من سواها،

وبخلاف ذلك سنكون أذلة، وستكون الحقوق لغيرنا حتى ولو كان هو الظالم وهو

الجاني وهو المعتدي.

وصدق الله العظيم: [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ]

(الرعد: ١١) .

والله المستعان.


(١) الإسلام وأوربا تعايش أم مجابهة؟ (ص ٢٨) ، ترجمة سمير بوتاني.