[أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟]
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن أمر القلوب أمر عجيب؛ فبينما ترى الأمور واضحة جليَّة في الدلالة على أمر ما، بحيث يتفق على دلالتها كل من يشاهدها، تجد في المقابل آخرين قد سُدَّت عليهم منافذ العلم والمعرفة ـ بما كسبت أيديهم وما ربك بظلام للعبيد ـ فيروا عكس ما يراه الناس، ويستنبطوا منها ما لا يستنبطه أحد غيرهم، انظر إلى الآيات البينات، والدلائل الواضحات، والمعجزات الخارقات، التي أيد الله ـ تعالى ـ بها رسله إلى خلقه، كيف عميت عنها أبصار الكفار وقلوبهم، فلم يروا منها إلا أنها أساطير الأولين، وسحر الساحرين، وكهانة الكهان، وجنون المجانين؟
لقد أظهر الله ـ تعالى ـ على يد موسى ـ عليه السلام ـ من الأمور العجيبة جدّاً؛ والتي لا يقدر على الإتيان بها إلا نبي مرسل من عند الله ـ تعالى ـ، ورغم هذا الأمر البيِّن لم يؤمن فرعون ـ لعنه الله ـ. لقد تحدى فرعونُ موسى ـ عليه السلام ـ وخسر فرعون التحدي؛ بل خسر ما هو أكبر من ذلك، حيث خسر القوم الذين كان يتحدى بهم موسى ـ عليه السلام ـ؛ إذ ظنّ أنَّ ما يأتي به موسى ـ عليه السلام ـ هو من السحر، فجمع السحرة ووعدهم بالقرب منه والأعطيات الجزيلة إن هم تغلبوا على موسى، وهذا الاحتياج منه إلى غيره في منازلة موسى ـ عليه السلام ـ يبطل دعوى ربوبيته وألوهيته التي كان يدَّعيها، وقد كان يكفيه هذا ليعَلمَ ضعفه وعدم قدرته وقلة حيلته التي تنافي دعوته، وقد كان في هذا ما يكفي له أن يؤمن لو كان له قلب، وبعد ذلك تغلبت آيات الله على سحر السحرة فآمن السحرة بالله رب العالمين، وقد كان في هذا ـ أيضاً ـ ما يكفي لفرعون أن يؤمن؛ لكن تلك القلوب المقفلة المحجوبة عن إبصار الحق ورؤيته، والتي لا تنفذ إليها بينات الحق ودلائل الهدى، من أين لها أن تدرك ذلك؟
لقد ابتلى الله ـ تعالى ـ فرعون وقومه بالآيات المفصَّلات كما قال ـ تعالى ـ: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ} ومع ذلك لم يؤمنوا بل: {فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ} [الأعراف: ١٣٣] ، وقد كانت هذه الآيات كافية في أن يعلموا صدق موسى ـ عليه السلام ـ وكَذِبَ فرعون فيما يدَّعيه، ثم بعد ذلك حدث أمران مهمَّان يبيِّنان حقيقة الأقفال التي تكون على القلوب، حتى تحجبها حَجْباً كاملاً عن المعرفة والعلم والانقياد لمدلولهما، فقد أرسل الله ـ تعالى ـ عليهم العذاب، ولم يجدوا مخرجاً من ذلك إلا باللجوء إلى موسى ليدعو لهم الله ـ تعالى ـ، قال الله ـ تعالى ـ: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف: ١٣٤] ، وقد كشف الله ـ تعالى ـ عنهم الرجز بدعوة موسى ـ عليه السلام ـ، أفلم يكن ذلك كافياً لهم ليعلموا أن موسى ـ عليه السلام ـ مرسل من ربه، وأن فرعون عبد مربوب ليس رباً ولا إلهاً؟ لكن القفل الذي يسدُّ على القلب منافذ الخير كلها يفعل ما هو أكثر من ذلك، ثم جاءت الحادثة الثانية والتي فاقت في دلالتها كل دلالة، فعندما طارد فرعونُ ـ لعنه الله ـ موسى ـ عليه السلام ـ وأتباعه، خرج موسى ومن معه وضاقت عليهم السبل، حتى كانوا في وضع صعب فالبحر أمامهم وفرعون وجنده خلفهم، ولا سبيل غير ذلك، وفي هذا الوضع الصعب، أعطى الله موسى آية من أعظم الآيات؛ حيث شق لهم البحر، وجعل فيه طريقاً يَبَساً يمشون عليه، هذا البحر العظيم الذي تغوص في لججه السفن العظام يجعل الله فيه بضربة عصا من موسى طريقاً يبساً، وانفلق البحر حتى كان كل فرق كالجبل العظيم، ألم يكن في هذا ما يكفي لفرعون أن يرعوي، أو حتى أن يكفَّ عن مطاردة موسى، ويعلم أنه ليس ثَمَّ سبيل إلى النيل منه؟ لكن القلب العجيب الذي كان يملكه فرعون قاده إلى أن يسلك على الطريق اليبس نفسه، فسبحان الله! إذا كان الله ـ تعالى ـ قد جعل لموسى وأصحابه هذا الطريق الخارق لكل قدرات البشر؛ لكي يفلت من فرعون وجنده، أيقوم في عقل عاقل أنه يمكن أن يستخدمه في ملاحقة موسى ـ عليه السلام ـ والتمكن منه؟ لكن القلوب التي أُغلِقَتْ عليها الأقفال لا تتصرف إلا بهذا السبيل.
وقد أُقفِلت على اليهود قلوبهم من الإيمان برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد كانوا يعرفونه كما يعرف أحدهم ابنه، ومع ذلك لم يؤمنوا قال الله ـ تعالى ـ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: ١٤٦] ، وتروي السيدة صفية ـ رضي الله تعالى عنها ـ زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-، فتقول: «لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قباء ـ قرية بني عمرو بن عوف ـ غدا إليه أبي وعمي (أبو ياسر بن أخطب) مُغْلِسَين، فوالله ما جاءانا إلا مع مغيب الشمس، فجاءانا فاتِرَيْن كسلانَيْن ساقطَيْن يمشيان الهوينى، فهششت إليهما كما كنت أصنع، فو الله ما نظر إليَّ واحد منهما، فسمعت عمي (أبا ياسر) يقول لأبي: أهو هو؟ قال: نعم والله! قال: تعرفه بنعته وصفته؟ قال: نعم والله، قال: فماذا في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت» (١) .
وقد يتعجب الإنسان من ذلك أشد التعجب، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- هو المُبَشّرُ به والذي يجدونه عندهم في التوراة والإنجيل، ويرونه، ويعرفونه بصفته، ويتأكدون، ويقسمون بالله على ذلك، ومع ذلك تغلق قلوبهم عن الإيمان به ومتابعته! بل الأغرب من ذلك أن الكفار الذين يدخلون جهنَّم ـ أعاذنا الله منها ـ بعدما عاينوا من عقاب الله الأليم العظيم المهين، يطلبون من الله أن يردّهم إلى الدنيا ولا يعودون لشركهم أبداً! ولكن الله ـ تعالى ـ يقول عنهم: {بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: ٢٨] ، وقد بيَّن القرآن السبب الكامن وراء ذلك كله وهو قوله ـ تعالى ـ: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: ٢٤] ، فالقلوب عليها أقفالها التي تمنع من وصول الهدى لهم، وقد جاءت الأقفال في اللفظ القرآني مضافة هاء الضمير الراجع إلى القلوب؛ وكأن القفل مخصوص بها أو أن لكل قلب قفلاً يخصه.
أخرج الطبري بسنده من حديث هشام بن عروة، عن أبيه قال: «تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوماً: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} ؛ فقال شاب من أهل اليمن: بل عليها أقفالها، حتى يكون الله ـ عزّ وجلّ ـ يفتحها أو يفرجها، فما زال الشاب في نفس عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ حتى ولي فاستعان به» (٢) .
واليوم يعيد التاريخ نفسه، وتتكرر دورته؛ فهاهم أعداء الله ودينه لم تتفتَّح قلوبهم، وما زالوا يأملون في القضاء على الإسلام وأهله، وكأنهم ما دروا أن هذا دين الله، وأن الله ـ تعالى ـ قد جعله الرسالة الخاتمة، وأنه قد تكفل بحفظه، وأنه سخَّر من عباده من يقوم بمهمة الحفظ، كما أخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، قال: فينزل عيسى بن مريم -صلى الله عليه وسلم-، فيقول أميرهم: تعال صلِّ لنا. فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة» ، وها هي أمريكا قد جاءت بخيلها ورَجْلِها وكبريائها وجبروتها، تأمل تغيير الدين، فشنَّت على أهله حرباً ظالمة، وقد كان لها عبرة ـ لو كان لها قلب يعقل ـ فيما كان يسمَّى بالاتحاد السوفييتي وما فعل الله به وكيف مزقه تمزيقاً، لكن القوم على قلوبهم أقفالها، وسيأتيها من الله ـ تعالى ـ ما يأتي الأمم التي تحاربه وتحارب دينه وأولياءه لو كانوا يعلمون.
أما نحن ـ معاشر المسلمين ـ فعلينا اللجوء إلى الله ـ تعالى ـ في أن يصلح قلوبنا حتى لا يطبع الله علينا بسبب معاصينا ومخالفاتنا، وقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: «وإنَّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلُّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلُّه؛ ألا وهي القلب» ، وكان كثيراً ما يدعو ويقول: «ثبت قلبي على دينك» ؛ فعن أنس قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُكثِر أن يقول: يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك، فقلت يا رسول الله: آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: نعم، إن القلوب بين أُصبُعين من أصابع الله يقلِّبها كيف يشاء» . وعن عبد الله بن عمر قال: «أكثر ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحلف: لا ومقلِّب القلوب» .
فاللهم يا مقلب القلوب بعدلك وحكمتك، ثبت برحمتك قلوبنا على دينك، وأقمها على الحق، ولا تزغها بسوء أعمالنا بعد إذ مننت علينا وهديتنا إلى الإسلام، {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: ٨] .