للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وأنوشروان هو الذي مَلّك النعمان بن المنذر على العرب، وأمّه ماء السماء.

وفي أيام أنوشروان ظهرت الحبشة على اليمن.

وخرج أنوشروان في بعض أيامه مُتصيِّداً، فعَنَّ له صيد، فتبعه فانقطع عن أصحابه، وأظلَّته سحابة، فأمطرت مطراً حال بينه وبينهم، فمضى لا يدري أين يَقصد، فلاح له كوخٌ في البرية فقصده، فإذا عجوز على بابه جالسة، فقال لها: أنزل؟ قالت: نعم. فنزل ودخل الكوخ، وأدخل فرسه، وجاء الليل، وإذا بابنة العجوز قد جاءت ومعها بقرةٌ قد رعتها، فقامت العجوز فحلبتها لبناً كثيراً، فقال أنوشروان في نفسه: هذا حِلاب كثير، والخراج بالحماية، وينبغي أن تُجعل على كل بقرة إتاوة. وقدمت له اللبن، فشرب ونام إلى وقت السَّحَر، فقالت العجوز لابنتها: قُومي فاحلبي اللبن للضيف. فقامت لتحلبها فوجدتها حائلاً ليس في ضرعها قطرةٌ من لبن، فنادت يا أُمّاه، قد أَضمر الملكُ لنا شراً. فقالت: ولِم؟ قالت: هذه البقرةُ حائل لا قطرةَ فيها. فقالت: لعله ليل، امكثي قليلاً. فقال كسرى في نفسه: من أين علمَتْ ما أضمرتُ؟ أما إني لا أفعلُ ذلك. ثم مكثت ساعة، وقالت: قومي فاحلبيها. فقامت وإذا ضرعها قد امتلأ لبناً، فقالت: يا أماه، ذهب والله ما كان في نفس الملك من الشر، هذه البقرة حافل.

وطلع الصبح، وجاء أصحابُه، فركب، وأمر بحمل المرأة وابنتها معه إلى قصره، وأحسن إليهما، ثم قال للعجوز: من أين علمت ابنتُك أن الملك قد أضمر في نفسه شرّاً ثم عَدل عنه؟ فقالت: نحن بهذا المكان منذ كذا وكذا سنةً، ما عُمل فينا بالعدل إلا أخصبت أرضُنا، وعاشت بلادُنا وأموالُنا، وما عُمل فينا بالظلم إلا أجدبت أرضُنا، وضاق عيشُنا، وانقطعت موادُّ النفع عنا. فقال كسرى: إن شَفقةَ الملك على رعيَّته وعدلَه فيهم يؤثر ما قلت، وإن غِشَّه لهم يُضيّق الأعطان، ويجدب الأوطان (١).

وكان مُلكُ أنوشروان ثمانياً وأربعين سنة، وهو كان طِرازَ القوم، وواسطة عقدهم (٢).


(١) المنتظم ٢/ ١١٦ - ١١٧.
(٢) من هنا سقط في (خ) إلى قوله: وجمع أبرويز من الأموال والخيول والفيلة والمماليك والجواري والأمتعة ما لم يجمعه أحد ممن تقدمه.