للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثم تفرقوا، فلما كان الغد جاء معاذ، فصلّى إلى سارية، فصليتُ عنده، فلما انصرف من صلاته جلستُ إليه وقلت: واللَّه إني أُحبُّك لغير دنيا أرجوها منك، ولا لقرابةٍ بيني وبينك، قال: فلأيِّ شيءٍ، قلتُ: للَّه ﷿، فقال أَبشِر إن كنتَ صادقًا، فإنِّي سمعتُ رسول اللَّه يقول: "المتحابُّون في اللَّه في ظِل العرش، يوم لا ظل إلَّا ظِلُّه، يَغبطهم بمكانهم النبيُّون والشهداء".

ثم خرجتُ فلقيتُ عُبادةَ بنَ الصَّامت، فحدَّثتُه بالذي حدَّثني به معاذ، فقال عُبادة: سمعتُ رسول اللَّه يروي عن ربه تعالى أنه قال: "حقَّت محبَّتي للمتحابِّين [فيَّ] والمتناصِحين فيَّ، والمتزاوِرين فيَّ، والمتباذِلين فيَّ، هم على مَنابرَ من نور، يَغبطُهم النبيُّون والصدِّيقون" (١).

وقال أبو بَحريَّة [بن] قُطَيْب السَّكوني: دخلتُ مسجد حمص، فإذا أنا بفتًى جَعْدٍ قَطَطٍ، حوله الناس، فإذا تكلّم كأنما يخرج من فِيه نورٌ ولُؤلؤ، فقلتُ: مَن هذا؟ قالوا: مُعاذ بن جَبَل (٢).

ذكر زهده وورعه وتعبُّده وجُوده وقضاءِ دَينه وسَخائه: قال أبو نعيم بإسناده عن عبد الرحمن بن سعيد بن يَربوع، عن مالكٍ: أن عمر بن الخطاب أرسل بأربع مئة دينارٍ إلى أبي عُبيدة، وقال للغُلام: تَلَهَّ بالبيتِ ساعةً، وانظُر ماذا يصنعُ؟ فجاء الغلامُ فقال لأبي عبيدة: يقول لك أميرُ المؤمنين: اجعلْ هذه في بعضِ حاجتك، فقال: وَصله اللَّه ورَحِمَه، ثم قال: يا جاريةُ، اذهبي بهذه السبعةِ إلى فُلانٍ، وبهذه الخمسةِ إلى فُلانٍ، حتى أنفدَ الجميع، فرجع الغُلامُ إلى عمرَ فأخبره، فوجده قد أعدَّ مثلَها لمعاذِ بن جَبل، وقال للغُلام: اذهب بها إلى مُعاذٍ، وتلَهَّ ساعةً حتى تنظرَ ما يصنعُ بها؟ فذهب بها إليه وقال: إن أميرَ المؤمنين يقول لك: اجعل هذه في بعضِ حاجتك، فقال: ووَصله، ثم قال: تعالى يَا جاربةُ، اذهبي إلى بيت فُلان بكذا، اذهبي إلى بيت فلان بكذا، فاطلعت امرأةُ معاذٍ فقالت: ونحنُ واللَّهِ مساكين فأعطِنا، ولم يبق في الخِرْقةِ إلَّا ديناران، فدحا بهما إليها، فرجع الغلامُ إلى عمر فأخبره، فقال: إنهم إخوةٌ بعضُهم من بعض.


(١) تاريخ دمشق ٥٨/ ٤٢٦ (الفكر)، وأخرجه أحمد (٢٢٠٨٠).
(٢) حلية الأولياء ١/ ٢٣١، ومن قوله: ثم تفرقوا فلما كان الغد. . إلى هنا ليس في (ك).