والوجه الثاني: أنَّ إبراهيم رآهم يعبدون الشمس والقمر والنجوم، فقال لهم -على سبيل الاستفهام والتوبيخ، مُنكِرًا لفعلهم-: هذا ربي؟! أي أهذا ربي أم لا؟.
والثالث: أنَّ معناه: ليس هذا ربّا لي، ومثله قوله تعالى: ﴿أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾ [الأنبياء: ٣٤]. والرّابع: أن في الآية تقديمًا وتأخيرًا وإضمارًا، وتقديره: ويقولون هذا ربي، حكاية عنهم (١).
قلت: وقد بسط أبو إسحاق الثعلبي الكلام في هذا الوجه وبالغ، والعجب منه -وقد اتفق العلماء- أنه إنما قال ذلك عند خروجه من السَّرَب، وهو ابن ثلاث سنين، فيا ليت شعري: أين كان قومه في ذلك الوقت؟ وهل كانت أمه وأبوه يخبران بحاله مخافة عليه؟ فقوله في الوجه الأول إنه أراد أن يستدرجهم باطل، وأما عن الوجه الثاني وما بعده فإنَّ حروف الاستفهام لا تضمر إذا كان الاستفهام فارقًا بين الإخبار والاستخبار، فلا يقال هذا زيد في الإخبار، ومعناه: أهذا زيد، وكذا قولهم معناه: هذا ربًّا لي، لا يجوز أن يحمل الاستفهام على ليس ولا الإخبار، وكذا قولهم إنه حكاية عنهم؛ لأنه يكون حينئذ عدولًا عن الحقيقة إلى المجاز، وأنه قلب الموضوع.
والصَّواب: حمل الكلام على ظاهره، وأن ذلك وقع من الخليل وهو في زمان الطفولية، والأنبياء غير معصومين في تلك الحالة، فَحَمْلُ الكلامِ على ظاهره مع إقامة عذر الخليل أولى من حَمله على هذه التأويلات الضعيفة.
والدَّليل على صحَّة هذا قوله عقيب ذلك: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ [الأنعام: ٧٩] الآية.
[فصل في كسره الأصنام]
قال وهب بن منبه: يقال: إنَّه أقام في السَّرَب ثلاث سنين، وقيل: سبع سنين. فلمَّا
(١) انظر تفسير الطبري ٩/ ٣٥٦ - ٣٦٠، وزاد المسير ٣/ ٧٣ - ٧٥.